“من يصرخ أولا”؟.. احتدام “معركة الطاقة” بين روسيا وأوروبا

خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 1” في ألمانيا في 21 يوليو 2022

دخلت روسيا والقارة الأوروبية حرب “تكسير العظم” مع محاولة موسكو التأثير اقتصاديا على القارة من خلال ملف الطاقة، حيث تساومها بورقة الغاز في معركة ستخسرها موسكو في نهاية المطاف، وفق الباحث الأردني المختص في شؤون الطاقة، عامر الشوبكي.

وكانت موسكو أعلنت الوقف التام لإمدادات الغاز عبر خط أنابيب “نورد ستريم” الذي يعتبر حيويا لأوروبا إلى حين “إصلاح توربين”. وجاء هذا الإجراء في أعقاب قرار الدول الصناعية السبع الكبرى فرض سقف لسعر صادرات موسكو النفطية.

وقال الشوبكي في مقابلة مع موقع “الحرة” إن روسيا تتلاعب بملف الطاقة  من خلال تعطيل تدفق الغاز عبر خط “نورد ستريم” لأجل غير معلوم، متذرعة ببعض الذرائع التي لم تقنع أوروبا.

وأكد الكرملين، الاثنين، أن وقف إمدادات الغاز الروسي نحو ألمانيا عبر خط “نورد ستريم” الاستراتيجي نابع من خطأ ارتكبته الدول الغربية، لأن عقوباتها تحول دون تأمين صيانة البنى التحتية الغازية.

لكن الباحث يرى أن موسكو، وعبر شركة الغاز المملوكة للدولة “غاز بروم”، تحاول من خلال هذه الذرائع أن تثبت أنها مازالت مصدرا موثوقا للطاقة، رغم أنه “واضح للجميع ومن خلال إطلاعي على الصور أنه يمكن إصلاح تسريب الزيت في الموقع دون توقف التوربين عن العمل”.

ويرى المحلل أن روسيا تريد أن تظهر من خلال التبريرات لهذا العطل أنها مصدر طاقة موثوق من أجل تحويل الغاز المتجه إلى أوروبا نحو الصين، ووجهات آسيوية أخرى، لكنها لن تكون قادرة على ذلك.

وربما تحاول استغلال خط أنابيب “قوة سيبيريا 1” لهذه المهمة، لكن طاقته الاستيعابية هي فقط 10 مليارات متر مكعب سنويا، وغير قادرة على زيادة قدرته، وفي المقابل، فإن قدرة “نورد ستريم” على سبيل المثال هي 55 مليار متر مكعب سنويا.

وروسيا بصدد إنشاء خطوط أنابيب أخرى مع الصين، وتطمح لتوريد كامل الكمية الأوروبية إلى الصين لكن هذا الأمر لن يتاح لها لأن الصين أيضا تسعى لتنويع مصادر الطاقة، حتى لا تقع تحت رحمة دولة بعينها، خاصة أن روسيا ثبت أنها مصدر غير موثوق للطاقة وتستخدم الغاز سلاحا في خلافاتها مع الدول الأخرى.

معركة خاسرة

وعلى المدى البعيد، يتوقع الباحث أن تخسر روسيا هذه المعركة، لأنها ستخسر إيرادات الغاز، ويشير إلى أن موسكو جنت حوالي 62 مليار دولار من بيع الغاز في 2021، بينما حصلت في الشهور الستة الأولى من العام الحالي على 42 مليار دولار نتيجة ارتفاع أسعار الغاز، وعندما تفقد زبونا قويا مثل أوروبا سيكون ذلك بمثابة خسارة كبيرة لها.

وينبه إلى أن البنية التحتية لإنشاء أنابيب الغاز تستهلك الكثير من الأموال والوقت، فخطوط نقل الغاز بين روسيا وأوروبا استغرقت نحو ثلاثة عقود، بالتالي بناء روسيا بنية تحتية جديدة لتصدير غازها إلى وجهات أخرى يحتاج استثمارات ووقتا طويلا.

كما أن الخطط جارية لوضع سقوف سعرية لأسعار النفط الروسي، مما سيضر ضررا كبيرا بموسكو لأن ثلثي إيراداتها من الطاقة تأتي من النفط.

وأوروبا بالطبع تخسر لكنها تحتاج إلى أن تمر من مرحلة عنق الزجاجة الحالية، وتجنب أزمة فصل الشتاء الحالي والمقبل، مع عملها على الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية ووصولها فعليا لمصادر أخرى.

تداعيات اقتصادية مؤلمة

ويشير الباحث إلى حالة من “التباطؤ الاقتصادي الواضح” في أوروبا، مع انخفاض سعر اليورو إلى أدنى مستوى له منذ عام 2002، وانخفاض الجنيه الإسترليني.

ويعتقد أن هناك “اتجاها حتميا نحو الركود”، خاصة مع توجه البنك المركزي الأوروبي إلى رفع أسعار الفائدة لمعالجة التضخم الذي بلغ 9.2 في الاتحاد الأوروبي، وأكثر 10 في المئة في بريطانيا، ويتوقع أن يصل إلى 20 في المئة مع ارتفاع أسعار الطاقة.

ويجتمع البنك المركزي الأوروبي، الخميس، ويتوقع اقتصاديون أن يرفع سعر الفائدة على الودائع بمقدار 0.5 أو 0.75 نقطة مئوية على خلفية القلق بشأن قدرة أوروبا على تلبية احتياجاتها من الطاقة هذا الشتاء وتراجع النمو.

اضطرابات اجتماعية متوقعة.. أوروبا تدرس “خطة قاسية” لمواجهة الأزمة
تسببت أزمة انقطاع امدادات الغاز الروسي لأوروبا في مخاوف بشأن “أزمة طاقة مرتقبة” قد تسبب “اضطرابات اجتماعية واسعة”، وهو ما تسعي الدول الأوروبية لـ”تفاديه” متخذة عدة إجراءات متشددة.

وبعد القرار الروسي، ارتفعت أسعار الغاز، الاثنين، وارتفعت العقود الآجلة للغاز الطبيعي في شمال غرب أوروبا، التي تعكس تكلفة الوقود، بأكثر من 20 في المئة.

وتراجع اليورو بنسبة 0.26 في المئة إلى 0.9903 دولار الاثنين، قرابة الساعة 6,00 ت غ، بعيد هبوطه إلى 0.9883 دولار، مسجلا أدنى مستوى منذ ديسمبر 2002.

وتراجع الجنيه الإسترليني بسبب تقلبات سعر الغاز، وهو مصدر طاقة تعول عليه إلى حد كبير بريطانيا. وخسرت العملة 0.12 في المئة فتراجعت إلى 1.1479 دولار، وهو أدنى مستوى لها منذ مارس 2020.

وتوقع محللون أن “يصل اليورو إلى أعماق جديدة” بسبب عدم اليقين السياسي والاقتصادي،  وفق وول ستيرت جورنال.

وتواكب ذلك مع تراجع حاد في البورصات الأوروبية عند بدء التداولات الاثنين، فقد انخفض مؤشر Stoxx Europe 600 القاري بنسبة 0.8 في المئة، بينما فقد مؤشر DAX الألماني 2.3 في المئة، وانخفض مؤشر FTSE 100 في المملكة المتحدة بنسبة 0.2 في المئة.

وقالت جانيت موي، رئيسة تحليل السوق في شركة إدارة الثروات في المملكة المتحدة، بروين دولفين، لـ“سي أن بي سي” إن آفاق الأسواق الأوروبية تبدو “قاتمة للغاية بالفعل” حيث من المرجح أن تستمر روسيا في تقييد إمدادات الغاز إلى المنطقة .

وقالت: “سيكون المستثمرون حذرين للغاية في المضي قدما الآن.. المعنى الواضح للغاية أن أصول اليورو ستكون تحت الضغط”.

وقال كريغ إيرلام، كبير محللي السوق في شركة أونادو، لوول ستريت جورنال: “من المحتمل الآن أن تتجه أوروبا إلى حالة الركود.. إنها مجرد حالة لمقدار الدعم الذي ستقدمه الحكومات ومدى التضخم الذي سيكون”.

خطط لمعالجة الأزمة

ووسط هذه المخاوف، قال باولو جينتيلوني، مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي: “نتوقع أن تحترم روسيا العقود التي أبرمتها، ولكن حتى إذا استمر استخدام الغاز كسلاح، أعتقد أن الاتحاد الأوروبي مستعد للرد”. وأضاف: “بالطبع، علينا توفير الطاقة، وعلينا مشاركة الطاقة، ولدينا مستوى عال من التخزين ولا نخشى قرارات بوتين”.

وكشفت ألمانيا، خلال عطلة نهاية الأسبوع، عن حزمة دعم بقيمة 65 مليار يورو (حوالي 64.7 مليار دولار) تتضمن حدا أقصى لسعر الكهرباء.

وفي المملكة المتحدة، تعهدت ليز تروس بتخفيضات ضريبية ودعم فوري للأسر التي تعاني من ارتفاع فواتير الطاقة.

وقدمت حكومتا السويد وفنلندا ضمانات بمليارات الدولارات لشركات المرافق العامة لمنع انهيار تجارة الطاقة.

وجدد المستشار الألماني، أولاف شولتس، التأكيد على تأييده لمشروع خط أنابيب غاز يعبر جبال البيرينيه بهدف “تحسين الترابط في شبكة أنابيب الغاز” الأوروبية.

ومن شأن هذا المشروع أن يسمح لإسبانيا وأيضا للبرتغال، بإيصال الغاز الطبيعي المسال الآتي من الولايات المتحدة أو قطر، إلى دول أوروبا الوسطى مرورا بفرنسا.

وأُطلق المشروع، عام 2013، لكن مدريد وباريس تخلتا عنه عام 2019 بسبب تأثيره على البيئة ومنفعته الاقتصادية المنخفضة، لكن التهديدات الروسية بوقف تسليم الغاز لدول الاتحاد الأوروبي أعادت طرح الموضوع على الطاولة.

ويشير الشوبكي إلى أنه بالإضافة إلى إعادة إحياء خط الغاز هذا، هناك مشروعات لربط نيجيريا بإسبانيا عبر خط أنابيب، مما يفيد وسط وغرب أوروبا، ومن المفترض أن يمر هذا الخط عبر الجزائر أو المغرب، وربما التفافا عبر ساحل غرب أفريقيا.

كما أنه من المتحمل أن تستفيد قارة أوروبا إذا عادت إيران إلى السوق.

وقد أعربت طهران، الاثنين، عن استعدادها بحال تم رفع العقوبات عنها لتوفير موارد الطاقة لأوروبا

وتمتلك إيران ثاني احتياطات مثبتة من الغاز بعد روسيا، إلا أن تصديرها يقتصر إجمالا على بلدين مجاورين هما تركيا والعراق، في حين يحتاج القطاع إلى استثمارات كبرى في مجال البنى التحتية ورفع قدرة الإنتاج والتصدير.

ومع قرب نفاذ العقوبات الأوروبية على روسيا بحجب 90 في المئة من صادرات روسيا النفطية، ستتضرر موسكو بشدة، في حين ستكون هناك حاجة لتعويض النقص. وقد يساعد إعادة إحياء الاتفاق النووي القارة، مع العلم أن أوروبا من أكبر المؤيدين لهذا الاتفاق للاستفادة من طاقة إيران، سواء الغاز او النفط.

وفي هذه الحالة، ستستفيد أوروبا من حوالي مليون إلى مليون ونصف المليون برميل من النفط الإيراني في الأسواق، مما سيخفف من وطأة فقدان جزء من النفط الروسي، حتى لو استطاعت روسيا تحويل جزء كبير من نفطها للشرق.

ويرى الشوبكي أن الإجراءات الأوروبية الحالية للتخفيف من الأزمة قد تكون ناجعة، مشيرا إلى أهمية اجتماع وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي، الجمعة المقبلة، الذي من المتوقع أن يصدر سلسلة من الإجراءات  التقنية،مثل تقليص الاعتماد على الغاز بنسبة ما بين 15 في المئة إلى 20 في المئة، وتنويع مصادر الاتحاد من طاقة الفحم والطاقة النووية.

ويشير إلى إن أنه على سبيل المثال، أعلنت فرنسا عن تشغيل كامل محطات الطاقة النووية، وهناك مفاعلات في ألمانيا كان يتوقع أن تتوقف عن العمل لكنها سوف تستمر، وهناك خطط مماثلة في دول أخرى.

وربما تلجأ أوروبا في سبيل تنويع مصادر الطاقة إلى الغاز من الجزائر وأذربيجان والنرويج، وفي الأخيرة هناك خط سيربط النرويج بالشمال الأوروبي، وسيكون جاهزا بحلول نهاية العام وذلك لنقل حوالي 10 مليار متر مكعب من الغاز النرويجي.

وأوروبا أيضا بصدد تطوير البنية لاستقبال الغاز المسال، ويشير إلى محطتين عائمتين لاستقبال الغاز المسال في ألمانيا سيكونا جاهزتين للعمل مع نهاية العام، وهناك محطات أخرى في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا.

من يصرخ أولا؟

وينبه الباحث إلى أن الاقتصاد الروسي تلقى “ضربة قاصمة” بسب العقوبات “وروسيا الآن في مرحلة محاول إظهار الصمود” بينما في القارة الأوروبية هناك محاولات من القادة لمعالجة الأزمة مع ظهور حركة احتجاج كبيرة.

ويقول إن الساسة والقادة الأوروبيين سيكون عليهم تخفيف العبء المالي على مواطنيهم، وهم بصدد اتخاذ قرارات هامة في اجتماع الجمعة لتخفيف تكلفة الطاقة على الصناعات والمواطنين، وسط مخاوف من توقف العمل بالعديد من الصناعات وزيادة البطالة.

ويوضح أن الأمر سيعتمد على “مدى عمق الأزمة وعمق الركود في القارة ومدى قدرة أوروبا على تجاوز عنق الزجاجة والوصول إلى بر الأمان والاستغناء بشكل كامل عن روسيا التي تدخل هي عنق الزجاجة، وبالتالي تكون النتيجة مختلفة”.

ويوضح الخبير الاقتصادي أن “الغلبة ستكون لمن يصبر ولا يصرخ أولا”، لكن “يجب الوضع بعين الاعتبار إصرار روسيا وقدرة الشعب الروسي على تحمل الصعوبات، وأن النظام الروسي غير ديمقراطي ولا يظهر خسائره بشكل علني”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
, , ,
Read our Privacy Policy by clicking here