إليزابيث ترتاح… وبريطانيا تتعلّم اليتم

ستطرح الاسئلة حول أملاكها، ومزارعها وقصورها وخيولها، وكم كلفت دافع الضرائب البريطاني هي وعائلتها، وما هو حجم ثروتها… لكن، سيدرك الجميع بعد رحيلها أي فراغ ستترك 

صورة للملكة إليزابيث الثانية.

غيّب الموت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، عن عمر ناهز 96 عاماً لعبت خلاله دوراً جوهرياً على أكثر من مستوى في حياة بلادها ودول كثيرة غيرها في الشرق والغرب. والسيدة التي قرع الواجب بابها في عمر غضّ، حين حرمها سرطان الرئة والدها الملك جورج السادس في 6 شباط (فبراير) 1952 وهي بعد في الخامسة والعشرين، بقيت أسيرة له حتى النفس الأخير. فهي حرصت على أداء مهامها الرسمية كافة بحذافيرها، وختمتها بتكليف ليز تراس تشكيل الحكومة في 6 أيلول (سبتمبر) الجاري، على الرغم من صعوباتها الصحية التي أخذت تتفاقم ولاسيما منذ نيسان (ابريل) في العام الماضي حين رحل رفيق دربها الدوق فيليب والد أولادها الاربعة الذي اقترنت به في 1947، وتركها وحيدة قبل أن يكمل سنته المئة بقليل.
ثمة الكثير من الأرقام القياسية التي تحاول أن تختزل حياة الراحلة الحافلة بالأحداث الجسام والانجازات والانكسارات، على الصعيد الوطني والعائلي. لكن كيف لأحد أن يختصر شخصية تشكل التناقضات نسيج عمرها المديد ومسيرة حكمها على امتداد 70 عاماً تمثل العهد الملكي الأطول في تاريخ بريطانيا؟ وكانت هذه تناقضات حادة أحياناً احتضنتها إليزابيث الثانية بإيمان مطلق، ورعت استمراريتها جنباً إلى جنب، ومضت تروض البراكين وتطفئ الحرائق. فالمرأة التي لم تدخل يوماً مدرسة سوى مدرسة الحياة أدركت باكراً ان التاج الذي لم تكن تتوقع أو تحلم بأن يحطّ على رأسها، يعني أن عليها أن تبقى كمن يصارع المستحيل تارة  ويجترح معجزة في أخرى.
أحبها الناس هي وعائلتها دائماً بدرجات متفاوتة. غير أن أولئك الذين كانوا يقفون كلما سمعوا النشيد الوطني الذي يتضرع منشدوه الى الله لكي “يحفظ ملكيتنا الكريمة”، هم أنفسهم من كانوا يلوكون الشائعات التي أضرت ولاتزال بأسرتها ويروجون القصص المفبركة، في قليل وكثير، التي كانت تنشرها صحف صفراء يملكها أشخاص يقسمون باسم الملكة ويؤكدون ولاءهم لها كأعضاء بارزين في تيارات اليمين المحافظ .

جمعت الراحلة بين الحضور العلني الدائم في الحياة العامة حتى على القطع النقدية التي ترتسم فوقها صورة رأس إليزابيث الثانية، من جهة، وبين التكتم التام، فهي لم تكد تدلي بأي تصريح أو مقابلة صحافية، ونادراً ما كنت تسمع صوتها إلا في مناسبات مثل افتتاح البرلمان في بداية دورته السنوية، والكلمة الإذاعية في عيد الميلاد التي بات ينقلها التلفزيون ايضاً في بث حي منذ 1957.
والملكة التي ينحني الكبير والصغير أمامها، اتسمت بتواضعها الجم، حسبما يشدّد من عرفها عن كثب، وهو تواضع بقيت وجوهه هو الآخر طي الكتمان، إلا أنه كثيراً ما ظهر من خلال نشاطاتها الخيرية وزياراتها الخارجية ورعايتها للمسنين والمرضى والاطفال.
وإذ اقتضى الدور الذي أدته بطبيعته أن تحكم ولاتملك فلا تتدخل عملياً بالسياسة أو بكيفية إدارة بريطانيا أو أي من دول الكومونولث الـ 14 التي ترأسها، فهي ظلت كما يقال تتابع  شخصياً أحوال هذه الدول كلها عن كثب وبشكل يومي، وتناقش كل ما يستحق المناقشة مع السلطات المختصة، وفي مقدمها رئيس (او رئيسة) الوزراء البريطاني الذي التقته اسبوعيا، وزعماء الدول الاخرى كلما سنحت لها الفرصة.

وقد مضت بالحيادية التي يفترض أن تلتزمها كملكة دستورية، إلى أبعد حد ممكن حتى في مدى استحسانها الشخصي لرؤساء الوزراء الـ 15 الذين عينتهم. ومعروف أنها استظرفت اثنين هما المحافظ ونستون تشرشل الذي كان أول زعيم تدعوه لتأليف الحكومة في 1951، والعمالي هارولد ويلسون الذي ترأس الحكومة مرتين في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
ولئن لم تتجاوز حدود منصبها الدستوري، فهي استثمرت صلاحياتها على نحو خلّاق وكانت تُكمّل في أحيان كثيرة عمل رئيس وزرائها الذي يقود السلطة التنفيذية، كما في تعاملها مع مكونات المملكة المتحدة الأربعة، ولاسيما اسكتلندا المطالبة بالاستقلال وايرلندا الشمالية التي عصفت بها موجات العنف الدامي. ولم تتردد في اتخاذ مواقف شجاعة على المستوى الخارجي، كانت الغاية منها بلسمة الجراح أو دفع عجلة الاستقرار والسلام الى الأمام. وهذا ما أرادته حينما زارت ألمانيا الغربية بعد حوالي عشرين عاماً من الحرب التي قصف خلالها النازيون قصر باكنغهام الملكي وكادوا يقتلون والديها حينذاك. وفيما كان البريطانيون لايزالون يشعرون بالعداء حيال اليابان التي حاربت بلادهم في أربعينات القرن الماضي، دعت الملكة الامبرطور هيرو هيتو للقيام بزيارة دولة إلى بريطانيا في 1971 ، كما كانت أول عاهل بريطاني تستقبله الصين في عام 1996.
وحافظت الملكة على تفاؤلها في وجه أزمات عدة على الصعيد الوطني، من حروب وصعوبات اقتصادية واجتماعية، والعائلي عندما تعرضت أسرتها الى انتكاسات خطيرة. لايخلو سجلها الشخصي من الهزائم مع أن الانتصارات تحتل حيزاً فيه، وإن كانت الأولى هي التي خطفت الضوء في معظم الأحيان عن الثانية التي حققتها اليزابيث بصمت. وصارت أخبار حكايات طلاق أولادها الثلاث، ومشاكل ابنها تشارلز الزوجية مع الاميرة ديانا، وفضائح ابنها الثاني والمفضل أندرو التي يقال إنها أجبرتها على مقاطعته أخيراً.. وغيرها، على كل شفة ولسان في بريطانيا وخارجها. وهذا كله بفضل صحافة رخيصة حولتها الى سلعة ثمينة تدر الربح.
قيل وسيقال الكثير في الملكة إليزابيث الثانية. إلا أن وقتاً طويلاً سيمر، قبل أن يصبح من الممكن الاحاطة بشخصية ملكة حكمت بلادها ودول الكومونولث كل هذه السنوات بالاسلوب نفسه الذي يجمع بين احترام التقاليد المطلق وعمق الرؤية والتشبث بالمثل الوطنية والانسانية العليا والإرادة الفولاذية.
دأبت الراحلة على احترام العادات حتى حين كانت تحاول التجديد والتأقلم مع مستجدات الحياة، وذلك ليس بدافع الحرص على القشور، بل لأنها ثمنت الاستمرارية والثبات وادركت أهمية الماضي كأساس متين للحاضر ومنطلق للمستقبل، ولاسيما ان التاريخ يمثل روح النظام الذي تمثله في بلاد تعود عليها عنايتها بالماضي بالكثير من الربح والشهرة والمكانة.
واللافت أن الملكة التي احتفظت بتسريحة الشعر نفسها منذ 1960، حتى بات من الصعب الابقاء عليها بعدما ابيّض مع تقدم العمر، وأبقت دائماً كلاب كورغي الصغيرة إلى جانبها بدءاً من اربعينات القرن التاسع عشر، لم تلبث أن اقبلت على استعمال الوسائط الاجتماعية، باعتدال طبعاً، منذ صارت متاحة. ويتندر معلقون بانها ربما كانت سبّاقة لكثير من الشباب والشابات في كتابة التغريدات، إذ بدأت بنشرها في عام 2014، اما انستغرام فاستعملته للمرة الأولى في عام 2019.
ستطرح الاسئلة حول أملاكها، ومزارعها وقصورها  وخيولها، وكم كلفت دافع الضرائب البريطاني هي وعائلتها، وما هو حجم ثروتها… لكن، سيدرك الجميع بعد رحيلها أي فراغ ستترك، وكم كانت كفة حسناتها راجحة على الاخطاء الصغيرة في الغالب.
وهيهات أن يجد أحد إخلالاً بالواجب. فالملكة التي تبدو وكأن شكسبير وصفها بعبارته الشهيرة، “البعض يولدون عظماء، والبعض تُفرض عليهم العظمة” قبل أن تبصر النور بنحو اربعة قرون في كنف والد مريض وصل الى العرش مضطراً بعدما تنحى عنه أخوه الملك إدارود الثامن، حملت الأمانة بحنو وإخلاص غير عائبة باشواكها وبقيت بمثابة “الصخرة” لبلادها كما وصفتها تراس.. حتى انطفأت.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
, ,
Read our Privacy Policy by clicking here