حينما أصبحنا كتوأمين : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

! ــ حين أصبح هو أنا :

قالت لي والدتي أنه منذ أن تقاعد والدك ، طافيا فوق بحيرة من وقت فراغ مندلق بلا نهاية أو ضفاف ، بات ينتظر رجوعك من العمل بنفاد صبر و خاصة عندما يحين وقت الساعات الأخيرة لما بعد الظهر أعني موعد رجوعك من العمل ، فيصغي إلى كل حركة أو صوت بأذن متوترة ، ثم يسألني رغم أنه يعرف الجواب مسبقا :
— ها .. ما رجع بعد من الشغل ؟
– لا ..بعد ساعة و أشوية ،.. يحين موعد رجوعه ..
كان حينذاك ينظر إلى عقارب ساعته الشبيهة بقوادم خيول هرمة متثاقلة خطو و حركة متزعزعة ، ليقول بدهشة وكأنه لا يعرف :
-أي صحيح ..بعد.ساعة وربع يرجع بالضبط وتمام .. دائما أنسى من شدة شغفي بوقت قدومه ..
وتضيف والدتي بلهجة أقرب إلى شفقة :
ـــ أنه يستأنس بأحاديثك و أخبارك عن العالم الخارجي ، خاصة الأخبار السياسية ،و غيرها المثيرة لفضوله ، لإنك ترويها له بأسلوب شيق و تصوير جميل و بحركات جسدية ذات مشاهد مسرحية عفوية و معبَّرة ، كأنما يراها بعينيه و يعيشها شخصيا ، طبعا إلى جانب هباتك وعطاياك الطيبة حيث تفرّحه دائما بشيء لطيف كما لو كان طفلا مدللا …
ثم تختم والدتي كلامها بملاحظة عجيبة و مثيرة للتفكير حقا :
ــ اشعر أحيانا و كأنه أصبحَ أنت في طفولتك ، حيث كنتَ تنظر رجوعه من الدائرة بتساؤل وترقب دائمين !..
كانت كلمات والدتي تلك تريحني وتزيح عني غبار قلقي و انزعاجي و مشاكلي في الدائرة ..
***
2ــ عندما أصبحت أنا هو :
. توثقت علاقتي بوالدي عندما كنت صغيرا ، إذ كان يفتنني و يسحرني بابتسامته المشرقة الدافئة الباعثة على الراحة والاطمئنان و السلام الداخلي ، و كان يدعني لأتسلق ظهره و أجلس فوق كتفه أو في حضنه ، في بعض الأحيان كان يضعني على ساعديه و يؤرّجني صعودا و نزولا في وسط قهقهتي الجذلة و لكن الألطف حينما يرجع من العمل يجلب لي دوما شيئا ما طيبا ، قطعة من حلوى أو بسكويت وحامض حلو ، أو سيارة صغيرة ملونة بشكل جميل، فيلا ، زرافة ، ديناصورا ، أقلاما ملونة ، ثم يجلس جني على الأرض ليعلمني كيف أرسم شجرة أو كوخا أو عصفورا و نجمة أم غيمة فوق السطوح صيفا أو فلاحا يزرع قمحا أو نخلة في حقول بعيدة ، ربما لهذا السبب كنتُ انتظر فترة رجوعه من العمل بنفاد صبر و اشتياق ملح ، مع تشوّق و تلهف و كان يثير فضولي و يسرني عندما أسمعه يتحدث لوالدتي عن أحداث اليوم من مشاكل سياسية و ارتفاع أسعار الخبز والفواكه أو تلك كانت تحدث سواء في الدائرة أو أثناء الذهاب والإياب من أمور و أحداث طارئة ، وكان يروي ذلك بنبرة عميقة و لكن هادئة رخيمة ، ترافقها بسمة لطيفة تضيء أسارير وجهه بمسحة مشرقة توحي بحنان و محبة خالقا حولي عالما سعيدا أشبه بأيام عيد ، ولكن انتظاري لنهاية الأسبوع لم يكن أقل اشتياقا و لهفة ، لكونه كان ينظم لنا جولات و نزهات إلى أماكن جميلة و مريحة تعمّها أفراح وتسليات ، و لكن الأجمل من كل ذلك هو اصطحابه إيانا إلى حديقة الحيوانات حينا و الى مدينة الالعاب حينا آخر ، فتلك كانت بمثابة قمة فرح و بهجة بالنسبة لي و على الدوام ..
ولكنه كان مع مرور السنين يُقصر طوله وتتضاءل قامته ، فأمسكه من يده و أخذه في نزهة مسائية ليتحرك و يحصل على هواء نقي و لكي يتحسن مزاجه مشحونا بطاقة إيجابية ومزاج رائق عند العودة إلى البيت ..

فيا لوالدي الذي أصبح أنا و أنا هو !..
كأنما مثل شجرتين توأمين تزدهران في برية أزمنة بحدائق متوردة و يانعة !.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here