بمناسبة زيارة اربعين الحسين عليه السلام: الفرق بين النظام السابق والحالي (ح 4)

الدكتور فاضل حسن شريف

ذكر ياقوت الحموي وابن خلكان في وفياته، بأن الشاعر المعروف (الناشئ الأصغر) كان يعقد مجالس النياحة على الحسين بعد أن انتشر التشيع وخفت وطأة السلطات الحاكمة على العلويين. وقد روي أن الناشئ الأصغر قال: (كنت مع والدتي في سنة 246هـ وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد بين الوراقين والصاغة ببغداد وهو غاص بالناس، وإذا برجل قد وافى وعليه مرقعة وفي يده سطحية وركوة ومعه عكاز وهو شعث فسلم.. ثم قال: أتعرّفون لي أحمد النائح؟ قالوا: ها هو جالس. فقال: رأيت مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام في النوم فقالت امضي إلى بغداد واطلبه وقل له نح على ابني شعر الناشئ الذي يقول فيه: بني أحمد قلبي لكم يتقطع بمثل مصابي فيكم ليس يسمع. وكان الناشئ حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه وتبعه المزوق والناس كلهم. وكان أشد الناس في ذلك الناشئ ثم المزوق. ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلى الناس الظهر وتقوض المجلس. وقد تطورت النياحة إلى قراءة مقتل الحسين لابن نما ثم لابن طاووس، وهي أولى كتب المقاتل التي تتحدث عن واقعة كربلاء. وخلال القرن السابع للهجرة أصبحت قراءة المقتل عادة متبعة يوم عاشوراء. وكان المستنصر بالله العباسي قد أمر المحتسب جمال الدين بن الجوزي عام 640هـ – 1223م بمنع الناس من قراءة المقتل في يوم عاشوراء والإنشاد في سائر المحال بجانبي بغداد سوى مشهد موسى بن جعفر. وقد ذكر ابن الجوزي، بأن اللطم جرى يوم عاشوراء في المشهد وذلك بحدود منتصف القرن الخامس للهجرة / الحادي عشر الميلادي وهي أول إشارة في ذكر اللطم يوم عاشوراء في العراق. تاريخياً ارتبط العزاء الحسيني بالاضطهاد الذي مارسته السلطات الأموية والعباسية ضد الشيعة في العراق، وكانت سياسة الحكومات المتعاقبة متبدلة ومتغيرة، بحسب الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وبحسب المصالح والميول الدينية والسياسية، غير أن ميزان القوى كان قد تغير لصالح الشيعة خلال فترة معز الدولة البويهي (936م – 967م) الذي ناصر الشيعة أو تشيع لهم كما ذكر بعض المؤرخين. وكان معز الدولة أول من جعل مراسيم العزاء الحسيني عادة تتبع سنوياً في بغداد.

لو أن مهرجان سنوي حدثت فيه حادثة وسقط فيها ضحايا فان عدد المتواجدين في ذلك المهرجان سيقل كثيرا في السنة القادمة، ولكن مشاة زيارة الأربعين لا تهمهم الحوادث فهم في زيادة مستمرة كل سنة. ان الخدمات المقدمة لمشاة وزوار الامام الحسين عليه السلام في مختلف أنواع الخدمة من مأكل ومشرب ومبيت الا درس للدول الاخرى وشعوبها في تقديم الخدمات والضيافة المجانية لزوارها. أحد أسباب سقوط البكر ثم صدام منعهما مشاة الأربعين ومنها انتفاضة الأربعين 1977. إن الدليل القاطع كون نظام البعث الصدامي المانع للمشاة وزيارة اربعين الامام الحسين عليه السلام هو فور سقوطه الجبان المغزي وفد ملايين من عشاق الامام سلام الله عليه مشاة قاطعين الكيلومترات بل مئات الكيلومترات متوجهين الى كربلاء المقدسة بدون اي تضييق وخوف، بل بالعكس تقدم الدولة المستلزمات لخدمتهم، بالاضافة الى التبرعات الخدمية والمالية من قبل آلاف المواطنين. ان مائدة الحسين عليه السلام تشبع الجائع، فكم فقير ينتظر محرم وصفر كل سنة، كل ذلك من بركات أمام الفقراء الحسين عليه السلام. لولا دم الحسين لاصبح يزيد مصدر الهام المسلمين، فيصبح عندهم الخمر حلال والاعتداء على الشرف كرامة، وسياط الجلاد رحمة. يزيد واعوانه تنطبق عليهم الآية المباركة “وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ” (البقرة 14)

قال الكاتب نزار حيدر في مجلة النبأ: لقد اتخذ الجيش العراقي وقتها حالة الحرب على طول الطريق بين العاصمة العراقية بغداد ومدينة كربلاء المقدسة، وعلى جانبي الطريق، فحفر الخنادق لتستقر بها الدبابات وكل انواع الاسلحة الثقيلة، بين الخندق والاخر عشرة امتار فقط، وقد جلس الجنود في دباباتهم بكامل زيهم الحربي وبكامل الاستعداد، فيما اعلن النظام حالة الاحكام العرفية في مدينتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف، بعد ان حولهما الى ثكنات عسكرية. ولقد تسامى في الطريق بين كربلاء والنجف عدد من الشهداء الابرار، بعضهم سحقتهم الدبابات و المجنزرات العسكرية، فيما استشهد عدد آخر باحكام الاعدام التي اصدرها النظام البائد بحقهم في محكمة صورية غاب عنها الدفاع وكل حقوق المتهم، اما السجون والمعتقلات فقد اكتظت بالابرياء، فيما حكم على عدد منهم بالسجن المؤبد كان من بينهم الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم وآخرون.

جاء في الموسوعة الالكترونية لمدرسة اهل البيت عن السيد محمد الصدر: في ظل رفض السيد الصدر الثاني ووكلائه المتكرّر لطلبات السلطة الدعاء لرئيس الدولة، طالبت السلطة الصدر الثاني بمنع المسيرة السنوية التي يقوم بها عشرات الألوف من المشاة إلى كربلاء من مختلف مدن العراق، لكن السيد أصدر أمراً إلى الناس بالتوجه إلى كربلاء وذلك خرقاً للمنع الذي أصدرته السلطة الأمنية، وقد استجاب الزوّار لطلب الصدر الثاني وتوجهوا إلى كربلاء، لكن السلطات سرعان ما طلبت من الصدر التراجع عن موقفه فرفض ذلك، ثم هُدد بالقتل وطُلب منه أن يكتب أن الظروف لا تسمح بمثل هذه التظاهرة فرفض أيضاً، فصدر أمر بوضعه في الإقامة الجبرية، واعتقل وكلائه في المدن العراقية، لكن الصدر الثاني خرق أمر الإقامة الجبرية مع ولديه مصطفى ومؤمل وذهب إلى الكوفة وصلى آخر صلاة جمعة وهي الجمعة مما أغضب السلطة فقرّرت التخلص منه ودبرت له عملية الاغتيال.
جاء في موقع العتبة الحسينية المقدسة: على مر عقود ليست بالقليلة كان طريق زيارة الأربعين محفوف بالمخاطر التي تجلت واضحة في قمع سلطة النظام السابق للزائرين، الذي كان يحشد كل وسائل القوة والقمع ويضعها كعقبة في طريق السائرين على الأقدام إلى كربلاء. ولم يك من الزائرين في حينها إلا إظهار التحدي والولاء في أبهى صوره عبر قصص مأساوية موجعة كانت تلم بكل من سار على نهج السبط الشهيد، فرغم الملاحقات المستمرة من قبل رجال حزب البعث والشرطة والجيش لهم؛ إلا أنهم كانوا يصرون على إكمال مسيرتهم نحو قبر الإمام الحسين عليه السلام، وهم على أتم الاستعداد للقبول بأي نهاية مأساوية كانت، او فيها النجاة والعبور إلى سفينة الحسين. وتشير الأحداث ومجرياتها على مدى العقود التي حكم فيها النظام البعثي الصدامي إلى أن ثمة خطر متخفٍ وراء هذا الإصرار الكبير من قبل الشيعة في العراق على إحياء مناسبة زيارة الأربعين يهدد دوام السلطة، الأمر الذي دفع بصدام وأزلامه إلى تكثيف بطشهم واستخدام طرق جديدة للقتل وترهيب الزائرين في محاولة يائسة للحد من ظاهرة إحياء تلك الشعيرة، حيث ينقل أحدهم أن قوات النظام الصدامي أقدمت على دفن سيارة باص بمن فيها وهم أحياء على أحد الطرق المؤدية إلى كربلاء المقدسة. وتشير أيضاً إلى استشهاد المئات من الزائرين بعد احتجازهم في السجون وتعرضهم للتعذيب، ثم يأتي النظام ليعلن أن الجميع عرضوا على محكمة عادلة، وأن كل من هؤلاء المجرمين على حد وصفهم نال الجزاء العادل، في حين أن عضوين بارزين من حزب البعث المقبور كشفا فيما بعد أن جميع التهم التي نسبت إلى الكثير من الشيعة كانت ملفقة وإن النظام كان يستهدف الزائرين بواسطة اجهزة الاستخبارات والرفاق والجيش الشعبي وكذلك الشرطة، وكل احكام الإعدام التي وقعت آنذاك لم تكن قانونية بل كانت توقع على الجثث! أي بعد أن يموت الجميع من شدة وقساوة التعذيب. ثمة مفارقة غريبة حدثت بعد سقوط نظام صدام، وإن كانت ليست بالغريبة حقاً.. كونها تتوافق مع سنن الله الثابتة التي تؤكد انتصار الحق دوماً، إلا أنها حملت شيئاً من الدهشة والذهول للكثيرين، فالمسيرة الحسينية الصادقة تنتصر على مسيرة القمع والدم التي حملت في يوم ما غطاءً إسلامياً، خصوصاً وأن صدام أطلق في منتصف التسعينيات ما يسمى بـ الحملة الإيمانية والتي تعد أيضاً محاولة لبث روح التطرف إزاء انفتاح العراقيين على الثقافة الحسينية وإصرارهم على زيارة الأربعين. رحل صدام وجلاوزته وسط خيبة وذل لا حدود لهما، فيما يخرج الملايين من الشيعة في العراق بعد سقوطه مباشرة لأداء مراسيم زيارة الأربعين التي كانت الأولى بعد رحيله، لتتحول هذه المناسبة الدينية إلى مارثون جماهيري واسع لا تهاب القمع والتهديد والتخويف ، بل أن القوات الأمنية راحت تجتهد هي الأخرى في إحياء مراسيم هذه الزيارة عبر إقامة مواكب رسمية خاصة بها، فضلاً عن مشاركتها الأساسية في تأمين حياة الزائرين واجلالهم وتعظيمهم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here