أرض إيبر ـ ناري وتأريخ سوريا القديم

عضيد جواد الخميسي

سوريا ؛ هي واحدة من أقدم المناطق المأهولة بالسكان في العالم حسب آثارها التي يرجع تاريخها إلى أول استيطان بشري قبل 700,000 سنة. وقد أظهرت “مغارة الديدرية” بالقرب من مدينة حلب عدداً من الاكتشافات المهمة لمجموعة العظام البشرية والحيوانية ، لتعطينا دليلاً واضحاً على سكن إنسان النياندرتال المنطقة ولفترة طويلة من الزمن .كما ظهر أول دليل على وجود الإنسان الحديث في سوريا قبل 100,000 سنة ، وقد اتضح ذلك من خلال اكتشافات الهياكل العظمية البشرية و الفخار والأدوات الحجرية البدائية .

يبدو أنه كانت هناك هجرات جماعية محدودة في جميع أنحاء المنطقة أثرت على تركيبة المجتمعات المختلفة . و لعدم وجود سجلاّت مكتوبة لتلك الفترة ؛ فمن غير المعروف سبب حصولها . وقد افترض علماء الآثار أن تلك الهجرات حسب الاكتشافات الأثرية في المنطقة التي غالباً ما تُظهر تغييرات كبيرة في صناعة الفخار والأدوات المستعملة في مواقع متعددة ، حيث يمكن تفسيرها في أن هناك تبادل معرفي وثقافي كان قد حصل بين قبائل المناطق المختلفة من سوريا. وقد أشار عالم الآثار “سودن” إلى تأثير الهجرات في التعليق التالي :

” سعينا إلى استنتاج التطورات المهمة التي حصلت وبشكل خاص .على سبيل المثال ؛ كانت الهجرات الجماعية تُعد من المتغيرات الثقافية التي يمكن قراءتها في اللقى الأثرية ، لا سيما في المواد الفخارية .. ومع ذلك ، يمكن أن تكون هناك تحولات كبيرة ومتكررة قد حصلت في تشكيلة الفخاريات ، حتى لو لم يكن هناك لجوء مجموعة جديدة من البشر الى هذا الموقع أو ذاك.”(ص 13)

يُعتقد أن تغيّر المناخ في المنطقة قبل 15,000 سنة ؛ ربما كان قد أثر على البشر للتخلي عن أسلوب حياة الصيد والتخزين والبدء في اتباع أسلوب الزراعة ، أو أن القبائل المهاجرة قد أدخلت الزراعة إلى مناطق مختلفة .

كتب البروفيسور ” سودن “حول هذا الرأي في التعليق التالي :

“نحن نسمّي عصور ما قبل التاريخ ؛ هي تلك الفترات التي لم يتم تدوين أي شيء فيها حتى الآن ، دون افتراض أن الأحداث ذات الأهمية الكبيرة لم تحصل بعد” (ص 13).

تكمن أهمية نظرية الهجرة الجماعية في أنها تشرح كيف أصبحت الزراعة منتشرة بكثرة عند المناطق في زمان حصولها . ولكننا نجد أن تلك النظرية من الصعب إثباتها دون دليل . ومن الواضح أن الابتكار الزراعي كان موجود بالفعل في سوريا قبل تدجين الحيوانات منذ حوالي عام 10,000 قبل الميلاد ؛ بغض النظر عن عوامل الهجرة .

الاسم والتاريخ المُبكر

في تاريخ سوريا المُبكر والمدوَّن، كانت المنطقة تعرف باسم “إيبر ـ ناري Eber Nari ” (عبر النهر) من قبل بلاد الرافدين الجنوبية ، متضمنة سوريا الحديثة ولبنان وفلسطين (المعروفة مجتمعة باسم بلاد الشام ) .

تمت الإشارة إلى “إيبر ـ ناري” في كتب التوراة (عزرا ونحميا) وكذلك في رسائل الملوك الآشوريين والفرس . ويرى بعض العلماء أن الاسم الحديث لسوريا مشتق من كلمة (آشور) حسب مؤلفات المؤرخ اليوناني “هيرودوت ” في الإشارة إلى بلاد الرافدين بأكملها . وعقب سقوط الإمبراطورية الآشورية عام 612 قبل الميلاد ، استمرت تسمية الجزء الغربي للمنطقة باسم ” آشور ” ، ولكن بعد ظهور الإمبراطورية السلوقية أصبحت تعرف باسم “سوريا”.

لقد تمّ الطعن في النظرية التي تدّعي بأن تسمية (سوريا) هي استعارة من اللغة العبرية ، وقد أشار العبرانيون إلى سكان المنطقة باسم ” سيريون Siryon ” ، وذلك بسبب الدروع المعدنية لجنودهم (تعني كلمة ” siryon ” الدروع ، وتحديداً الدروع المتسلسلة في اللغة العبرية) .

هناك أيضاً نظرية مفادها أن كلمة “سوريا ” مشتقة من الاسم الصيداوي لجبل حرمون “سيريون” الذي فصل بين مناطق شمال إببر ـ ناري وجنوب فينيقيا (لبنان الحديث التي كانت صيدا جزءاً منها والى الان) . كما رأى بعض العلماء أن الاسم جاء من الكلمة السومرية “ساريا” والتي كانت تسميتهم لجبل حرمون . بيد ان التسميات “سيريون ” و “ساريا ” حيث كان للتاريخ تأثير كبير على الكتّاب الأوائل في العصور القديمة عند التدوين ، لذا فمن المرجّح أن الاسم الحديث لـ”سوريا” جاء مشتّقاً بالأصل من مصطلح “آشور” ، وليس من العبرية ، أو من تسمية الدولة السومرية كما هو مطروح من لدن البعض .

يعود تاريخ المستوطنات المبكرة في المنطقة مثل “تل براك” ـ قرب محافظة الحسكة ـ إلى عام 6,000 قبل الميلاد على الأقل . ومن المفهوم منذ فترة طويلة أن الحضارة قد بدأت في جنوب بلاد الرافدين في منطقة سومر ثم انتشرت شمالاً. ومع ذلك ، فقد تحدّت التنقيبات الأثرية في تل براك هذه النظرية . وأخذ العلماء ينقسمون حول ما إذا كانت الحضارة قد بدأت بالفعل في الشمال ، أو ربما هناك تطورات متزامنة قد حصلت في بلاد الرافدين الشمالية والجنوبية . وعلى حد رأي العالم وخبير السومريات “صموئيل نوح كريمر” في كتابه “التاريخ يبدأ في سومر” ، يعتبر الرأي الأخير مقبولاً في الغالب ، وذلك بسبب اليقين في وجود بما يسمى “شعب العُبيد” في جنوب بلاد الرافدين قبل ظهور المجتمعات في الشمال مثل “تل براك” . وقد يستمر هذا الجدل لحين اكتشاف دليل قاطع على التطور المُبكر في الشمال الرافديني . أمّا حاضراً ؛ يقدّم كلا الجانبين الحجج بما يدلّ على صحة نظريته .

لحين اكتشاف تل براك الذي نقّب فيه باحث الآثار “ماكس مالوان” ( زوج الكاتبة البريطانية أگاثا كريستي ) لأول مرة في عام 1938/1937 م ؛ لم يكن هناك شك فيما يتعلق بأصل الحضارة في بلاد الرافدين ، ومن المحتمل أن الاكتشافات المستقبلية في البلدان الحديثة التي كانت ذات يوم جزءاً من بلاد الرافدين قد تساعد في معرفة الكثير من الحقائق . إلاّ أن الأدلة على بدء الحضارة في سومر تبدو أكثر قبولاً في هذه المرحلة .

كانت هناك مدينتان مهمتان في سوريا القديمة هما “ماري” و “إبلا” ، وكلتاهما تأسست بعد مدينة أريدو السومرية (ماري في الألف الرابع قبل الميلاد ، وإبلا في الألف الثالث قبل الميلاد) ، وفي الاثنتين أُستخدم الخط السومري وعُبدت فيهما الآلهة السومرية ، وحتى شعبيها ارتدى الأزياء السومرية .

كان كل من هذين المركزين الحضريين عبارة عن مخازن لمجموعات كبيرة من الألواح الطينية المسمارية ؛ مكتوبة باللغتين الأكدية والسومرية ، والتي سُجلت فيها كل من التاريخ والحياة اليومية والمعاملات التجارية للناس ، بمن فيها الرسائل الشخصية .

عندما تم التنقيب في إبلا عام 1974 م ، تبين أن القصر الملكي قد احترق ، كما كان الحال مع مكتبة آشور بانيبال الشهيرة في نينوى . فقد كانت النار تشوي تلك الألواح الطينية وتحافظ عليها. أمّا في ماري وبعد تدميرها من قبل الملك حمورابي البابلي في عام 1759 قبل الميلاد ؛ طُمرت الألواح والمنقوشات تحت الأنقاض ، وبقيت على حالها لحين اكتشافها في عام 1930 م . كما يشار إلى أن اللُقى الأثرية في كل من ماري وإبلا قد زوّدت العلماء بفهم كامل نسبياً عن الحياة في بلاد الرافدين خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد.

سوريا وإمبراطوريات بلاد الرافدين

بحلول عام 2500 قبل الميلاد كانت المدينتان ماري و إبلا ؛ مركزين مهمين للتجارة والثقافة. وقد غزا الملك “سرجون الأكدي” (عام 2334 -2279 قبل الميلاد) المنطقة وضمّها إلى إمبراطوريته الأكدية. ولا يُعرف فيما إذا كان سرجون قد دمرّ المدينتين أثناء الاحتلال أم حفيده الملك “نارام ـ سين” . وإلى الآن فإن هذه المسألة معروضة على طاولة النقاش المستمر منذ عقود . إلا أن المدينتين قد نهضتا مرة أخرى تحت سيطرة الأموريين وبعد سقوط الإمبراطورية الأكدية في الألفية الثانية قبل الميلاد . في ذلك الوقت أصبحت سوريا تُعرف باسم “أرض أمورو” (عموريا).

استمر الأموريون في الادعاء أن تلك الأراضي المحتلّة هي خاصة بهم ، مما جعلهم ان يتوسعو في خططهم وعلى مدى تاريخهم للاستيلاء على باقي أراضي بلاد الرافدين ، لكن أرض سوريا كانت تخرج عن سيطرتهم باستمرار ، كونها منطقة تجارية مهمة فيها موانئ تقع على البحر الأبيض المتوسط ​​. لهذا السبب فقد كانت محط اهتمام وتقدير من قبل جميع ملوك بلاد الرافدين .

استولت مملكة ميتاني الحورية (عام 1475-1275 قبل الميلاد) على المنطقة وأعادت بناء مدينة “واشوكاني”( تقع على خابور الفرات) كعاصمة لهم . ثم تعرضوا للغزو من قبل الحثيين في عهد الملك الحثي “سوبليوليوما “(1344-1322 قبل الميلاد) الذي نصّب الحكام الحثيين على عرش ميتاني .

كانت لمصر علاقات تجارية طويلة مع سوريا (الاكتشافات الأثرية في إبلا تؤيد التجارة مع مصر منذ عام 3000 قبل الميلاد) ، وقد خاضت عدداً من المعارك مع الحثيين للسيطرة على المنطقة والوصول إلى طرق التجارة والموانئ . وبما أن الجيشين الحثي والمصري كانا متكافئين في القوة القتالية ؛ لذلك لم يستطع أي منهما في أن تكون له اليد الطولى في المنطقة .

كانت معركة قادش الشهيرة في سوريا عام 1274 قبل الميلاد بين المصريين والحثيين ، بمثابة لا ربح فيها ولا خسارة . على الرغم من أن كلا الجانبين ادعيا النصر ، إلا أن أيا منهما لم يحصل على مبتغاه . وقد لوحظ ذلك على الأرجح من خلال القوة المتنامية الأخرى في المنطقة ألا وهي “الآشوريون” .

كان الملك الآشوري “أداد ـ نيراري الأول ” (1307-1275 قبل الميلاد) قد طرد الحثيين من المنطقة التي كانت تحت سيطرة الميتانيين . ثم حاول الأموريون إعادة سيطرتهم بعد هزيمة الحثيين من خلال مواجهات ميدانية صاحبها الكرّ والفرّ مع الآشوريين ، وذلك على مدى قرون عدة حتى بروز الإمبراطورية الآشورية الوسطى كقوة كبيرة التي أخذت بغزو المنطقة والاستقرار فيها . كما فرض الآشوريون سلطتهم مع صعود الإمبراطورية الآشورية الجديدة تحت حكم الملك “أداد ـ نيراري الثاني” (912-891 قبل الميلاد) لتشمل بلاد الشام و مصر.

بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية عام 612 قبل الميلاد ، سيطرت بابل على المنطقة وفرضت سيطرتها على الشمال والجنوب ، فقامت باحتلال سوريا وتدمير مدينة ماري .

كتب البروفيسور “بول كريفاشك” وصفاً لمصطلح ( سوريا ) بعد غزو بابل لآشور في المقطع التالي :

“كان النصف الغربي من أراضي أشور لا يزال يُدعى اقليم آشور – بعد أن فقد حرفه الأول (آ) ـ فأصبحت الكلمة تُقرأ (شور/ سور). وحافظت الإمبراطورية الفارسية على نفس الاسم ، وكذلك فعل الاسكندر الكبير ومن بعده السلوقيين ، فضلا عن الإمبراطورية الرومانية التي ورثت الاسم نفسه . “(ص 207).

في ذلك الوقت كان الآراميون يشكلون الغالبية العظمى في سوريا ، و أبجديتهم الآرامية جعل منها الملك الآشوري “تغلات بلاسر الثالث” لغة المخاطبة الرسمية في الكتابة كي تحل محل الأكدية في عموم الإمبراطورية. أما الفينيقيون وقبل هذا الوقت، كانوا قد استوطنوا المناطق الساحلية من سوريا مع لغتهم وكتابتهم ، إلا أن أبجديتهم قد اندمجت بعد ذلك مع الآرامية وعديد الكلمات المستعارة من الأكدية ، فأصبحت تشكل نموذجاً لغوياً جديداً في المنطقة ، وصار اسم ( سوريا) يُلفظ في سائر المنطقة وخارجها منذ ذلك الحين بدلاً من “شور” أو “سور” .

سوريا والكتاب المقدّس

سيطرت بابل على المناطق الشمالية من عام 605 الى عام 549 قبل الميلاد ، حتى الغزو الفارسي و صعود الإمبراطورية الأخمينية (عام 549-330 قبل الميلاد). ثمّ احتل الإسكندر الأكبر سوريا عام 332 قبل الميلاد ، وبعد وفاته عام 323 قبل الميلاد حكمت الإمبراطورية السلوقية المنطقة. وبعد سلسلة من الاحتلالات في فترات زمنية متعاقبة لبعض المناطق السورية من قبل السكيثيين والأرمن وقبائل الأناضول ؛ قام الرومان بغزو جميع أراضي المنطقة واحتلالها وذلك عام 116/115 ميلادية .

كان الأموريون والآراميون والآشوريون يشكلون معظم السكان في ذلك الوقت ، وكان لهم تأثير كبير على التقاليد الدينية والتاريخية للشرق الأدنى . كتب البروفيسور كريفاشك نقلاً عن كتاب عالم الآشوريات البروفيسور “هنري ساجز” التعليق التالي :

“كان أحفاد الفلاحين الآشوريين متحمسون لبناء قرى جديدة على أطلال المدن القديمة واستصلاح أراضيها بغية استثمارها في الزراعة كلما سنحت الفرصة . وبعد سبعة أو ثمانية قرون من الظروف الحياتية والسياسية المتغيرة ؛أصبح هؤلاء الناس مسيحيين . هؤلاء المسيحيون ومعهم المجاميع اليهودية الكبيرة المنتشرة بينهم ؛ لم يحافظوا على إحياء تاريخ أسلافهم الآشوريين فحسب ، بل أخذوا أيضاً بدمج ذلك الإرث التاريخي مع مفاهيم الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم والجديد . واقعياً ؛ أصبح الكتاب المقدّس عاملاً مساعداً قوياً في الحفاظ على الذاكرة الآشورية وبقائها حيّة ” . (ص 207-208)

رأى البروفيسور “برتراند لافونت” من بين آخرين ؛ “هناك بعض أوجه التشابه الذي يظهر أحياناً في نصوص ألواح مدينة ماري مع المصادر التوراتية ” (بوتيرو ص140).

العلماء مثل ” كريفاشك و ” بوتيرو “ومعهم العديد من كبار الباحثين و المؤرخين ؛ ومنذ اكتشافات القرن التاسع عشر الميلادي لكثير من مواقع بلاد الرافدين القديمة ، و اكتشافات القرن العشرين للألواح في إبلا ؛ قد كتبوا مراراً وتكراراً عن التأثير المباشر لتاريخ بلاد الرافدين على الروايات التوراتية . لذلك وعند هذه النقطة ؛ لا شك أن القصص المعروفة مثل آدم ، قابيل وهابيل، والطوفان الكبير ، والعديد من الحكايات الأخرى في الكتب المقدّسة ؛ مستعارة من أساطير بلاد الرافدين .

ليس هناك أدنى شكّ أيضاً في أن نمط التوحيد الذي جاء في الكتب المقدّسة ؛ كان موجود في السابق لدى بلاد الرافدين من خلال عبادة الإله “آشور” ، وأن فكرة إله واحد كامل القدرة كانت إحدى الأسباب وراء هذا الادعاء (طُعن فيه) ؛ في أن الآشوريين قد دخلوا المسيحية وجعلوا مملكتهم مسيحية ؛لأنهم كانوا بالفعل على دراية بفكرة الإله الواحد المتسامي ، والذي يمكنه أن يظهر على الأرض بشكل أو بآخر.

كتب البروفيسور كريفاشك التعليق التالي حول هذه الفكرة :

” هذا لا يعني أن العبرانيين قد استعاروا فكرة الإله الواحد صاحب القدرات الجامعة من أسلافهم الآشوريين ؛ لمجرّد أن لاهوتهم الجديد كان بعيداً عن فكرة القبول لطبيعة حركتهم الدينية الثائرة وغير المسبوقة. أن التراث اليهودي-المسيحي-الإسلامي المتنازع عليه الى الآن في الأرض المقدّسة لا انقطاع تام لديه عن الماضي، ولكنه نما من الأفكار الدينية التي اتخذت بالفعل أواخر العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي في بلاد الرافدين الشمالية مسلطّة الضوء على المملكة الآشورية ، التي كان من شأنها أن تنشر عقيدتها و قوتها العسكرية عبر غرب آسيا على مدار القرون التي تلت .” (ص231)

كان هذا التراث مملوكاً لشعب سوريا الذي (كما يُعتقد) يمكن أن يكون له تأثير على وصف الملوك والمعارك والأحداث كما هو مذكور في العهد القديم ، وحتى رؤية الإله القائم من بين الأموات كما ورد في العهد الجديد .

كان “شاول الطرسوسي” الذي أصبح فيما بعد “الرسول بولس” ثم “القديس بولس” ؛مواطناً رومانياً من طرسوس في سوريا ؛ ادعى أنه قد رأى حلماً ليسوع أثناء توجهه إلى دمشق .

كان أول مركز رئيسي للمسيحية قد نشأ في أنطاكية السورية ، وانطلقت أولى البعثات الإنجيلية من تلك المدينة. حيث رأى بعض العلماء مثل “هيام ماكوبي” (وقبله هاينريش غراتس في كتابه عن تاريخ اليهود ) ؛ أن الرسول بولس قام بتوليف اليهودية مع عقيدة الدين لبلاد الرافدين – ولا سيما الآشورية – كديانات غامضة ؛ لتأسيس دين جديد والذي أصبح يعرف باسم “المسيحية” .

إذا قبلنا بتلك الرؤى مثلما طُرحت ؛ فإن الفلسفة البابلية Panbabylonism (مدرسة فكرية عن الدين والدراسات الآشورية ، تتبنى فكرة إن التوراة والديانة اليهودية مشتقتا من الحضارة البابلية والأساطير البابلية) ؛ تدين بوجودها لشعب سوريا الذي كان قد ساعد في نشر ثقافة بلاد الرافدين .

دور السوريين في الحروب الرومانية

كانت سوريا إقليم مهم لدى الجمهورية الرومانية ، والإمبراطورية الرومانية التي تلتها . وأن كل من “يوليوس قيصر” ، و “بومبي الكبير” يعتبران سوريا من الأراضي المفضلّة في المنطقة . وبعد بروز الإمبراطورية كقوة كبيرة ، جعلت من سوريا ولبنان واحدة من أكثر المناطق الاستراتيجية ، لاحتوائها على طرق التجارة والموانئ على البحر الأبيض المتوسط .

في الحرب اليهودية الرومانية الأولى (عام 66-73 م) ، لعبت الفصائل السورية دوراً حاسماً في معركة “بث حورون” (عام 66 م) ، حين تعرضت لكمين من قبل ثوّار يهوذا ؛ فعمدوا الى ذبحهم . كما حظي المحاربون السوريون بتقدير كبير من قبل الرومان لمهاراتهم وشجاعتهم وفاعليتهم في المعارك . وبعد خسارة روما لواحد من فيالقها المختلط من سوريين ورومان ؛ قامت بإرسال قوة كبيرة من الجيش الروماني ضد ثوّارمملكة يهوذا. تم قمع الثورة بوحشية من قبل القائد “تيتوس” عام 73 م مع خسائر فادحة في الأرواح . كما شاركت عدد من كتائب المشاة السوريين في إخماد ثورة “بار كوخبا” في مملكة يهوذا (عام 132-136 م) ، وعلى أثر ذلك ؛ قام الإمبراطور “هادريان” بنفي اليهود من المنطقة تجنباً لمشاكل التمرّد مرة أخرى .

ثلاثة أباطرة كانوا قد ولدوا في سوريا من أمهّات سوريات ، وهم : “إيل جبل ـ فاريوس افيتوس باسينوس” (حكم عام 218-222 م)، “سيفيروس ألكسندر ـ وزوجته النبيلة السورية جوليا أفيتا ماميا ” (حكم عام 222-235 م)، و “فيليب العربي ـ ماركوس يوليوس فيلبس” (حكم عام 244-249 م) .

لقد كان “جوليان” (361-363 م) آخر إمبراطور روماني غير مسيحي ، والذي أبدى اهتماماً خاصاً لأنطاكية كمركز مسيحي ، وحاول دون جدوى في تهدئة الصراع الديني بين الوثنيين والمسيحيين في المنطقة . وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية ، كانت سوريا جزءاً من الشرق أو الإمبراطورية البيزنطية ، واستمرت كمركز هام للإقتصاد والتبادل التجاري .

في القرن السابع الميلادي ، بدأ الإسلام ينتشر عبر المنطقة خلال الغزو العربي لها . وفي عام 637 م ، هزم المسلمون جيوش الإمبراطورية البيزنطية في معركة الجسر الحديدي على نهر العاصي في سوريا . وثبت أن هذه المعركة كانت الحاسمة بين البيزنطيين والمسلمين ، وبعد سقوط أنطاكية والاستيلاء عليها ؛ أصبحت سوريا جزءاً من دولة الخلافة الاسلامية .

سوريا في الخلافة الإسلامية

تأثّر غالبية السكان نسبياً في بداية الأمر عندما تغير الحكم من البيزنطيين إلى المسلمين . ولكن الوضع قد تفاقم بعد عدم السماح لغير المسلمين بالخدمة في صفوف الجيش ، نظراً لأن الجيش فيه عرض عمل ثابت . مع مرور الوقت وبسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسة المتبعة في إحكام السيطرة على جميع مفاصل الدولة ؛ تحوّل غالبية السكان إلى الإسلام .

انتشرت العقيدة الإسلامية بسرعة في جميع أنحاء المنطقة وأصبحت دمشق العاصمة . وكانت سوريا مقسّمة إلى أربع ولايات اسلامية لسهولة الحكم فيها. إلاّ أن الخلافة الأموية قد أُطيح بها من قبل العباسيين عام 750 م ؛ بسبب الخلافات السياسية والمذهبية والمطامع المالية التي أدّت بدورها الى تدهور اقتصادي سريع على جميع المستويات وفي عموم المنطقة .

انتقلت العاصمة في ذلك الوقت من دمشق إلى بغداد ، وإعلان اللغة العربية اللغة الرسمية لمنطقة سوريا ، ولم تعد الآرامية واليونانية مسموح في استخدامها .

كانت الحكومة الإسلامية الجديدة منشغلة بالصراعات السياسية والحروب والغزوات ، فيما عانت مدن سوريا من الضعف والإهمال بعد التخلّي عن ديمومتها وسُبل العيش فيها ، حيث الزراعة تدهورت عندما أخذت السدود بتحويل المياه بعيداً عن الحقول والمزارع . طرق التجارة أصبحت خطرة بعدما كثُر قطاع الطرق واللصوص. الموانئ مهملة وباتت خالية من حركة التجّار بوجود القراصنة الذين كانوا يستولون على السفن القادمة المحملّة بالسلع والبضائع من مختلف بقاع العالم . والأمن أصبح معدوماً بسبب السلوك العنيف والخطر لرجال الحسبة ( الشرطة ) تجاه الناس ، وأسباب مختلفة أخرى .

أخيراً وللأسف الشديد؛ أضحت الآن أرض “إيبر ـ ناري” القديمة محطة خلاف سياسي واقتصادي وطائفي بين أمراء الحروب والفصائل السياسية والعسكرية المتناحرة للسيطرة على أرضها ومواردها دون أيّ اعتبار لشعبها وتاريخها المجيدين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جان بوتيرو ـ الحياة اليومية في بلاد الرافدين ـ جامعة جون هوبكنز للنشر ـ 2001 .

ويل ديورانت ـ تراثنا الشرقي ـ سايمون للنشر ـ 1954 .

بول كريفاشك ـ بلاد الرافدين وميلاد الحضارة ـ ثوماس دون للكتاب ـ 2010 .

فون سودن ـ مقدمة لدراسة الشرق الأدنى القديم ـ شركة إردمانز للنشر ـ 1994.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here