حين ابتليتُ بـ (كاسترو )!

فالح حسون الدراجي
في شهر تشرين الثاني من العام 1976 التحقت بالخدمة العسكرية كجندي مكلف، وقد نسبت لكتيبة مخابرة الفرقة المدرعة العاشرة في معسكر التاجي..
كانت الظروف السياسية تنذر بالإنفجار، والسلطة البعثية تشدد خناقها على قواعد الحزب الشيوعي، فراحت تراقب وتعتقل العناصر الشيوعية أو المتعاطفة مع الفكر الشيوعي لاسيما في القوات المسلحة، سواء أكانت هذه العناصر تؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية كجنود مكلفين، أو المتطوعين في الجيش والشرطة..

وقبل أن ألتحق بالعسكرية بفترة قصيرة، شنت السلطات البعثية حملة اعتقالات بين صفوف الجنود الشيوعيين أو المتعاطفين مع الحزب، وشملت الحملة عدداً من الأصدقاء بينهم صديقي وأخي الشاعر كريم العراقي، الذي اختفى لأكثر من شهر في أقبية الاستخبارات العسكرية.. وقد خرج كريم محطماً نفسياً وبدنياً من شدة التعذيب الجسدي والنفسي الذي مورس ضده.. وأذكر أني وكريم سهرنا لوحدنا في بيتي بعد اطلاق سراحه بساعات.. وحكى لي أشياء فظيعة لم يقلها لغيري!
بعد اتساع الحملة واشتدادها، أمر الحزب الشيوعي، بإيقاف أي نشاط أو اجتماع او لقاء حزبي مع العناصر العسكرية، رغم ان الاجتماعات كانت فردية و(خاصة)، ورغم أنها كانت مع الرفاق من الجنود المكلفين فقط، فكان قرار التجميد يشملني أسوة بالرفاق العسكريين الآخرين.

ورغم ذلك فقد كنت حذراً جداً، حتى أني سعيت الى النقل من الوحدة التي أنتسب لها، فقد كان مقرها في معسكر التاجي ببغداد وعليها عيون أمنية كثيرة، بمعنى أن جميع جنودها مراقبون، فما بالك حين يكون فيها عنصر شيوعي مؤشر عليه ذلك أمنياً؟

وهنا خطر في بالي أن أعود الى ممارسة كرة القدم، وألعب في فريق الفرقة العاشرة لأتخلص من الاحتكاك بالجنود في الثكنات، رغم أني اعتزلت اللعبة منذ اربع سنوات، وكان فريق (الفرقة العاشرة) بكرة القدم يعد من أحسن الفرق الكروية في العراق.

ولعل من حسن الصدف ان يكون الصديق العزيز كاظم صدام – الشقيق الأكبر لنجوم المنتخب كريم ونعيم ورحيم، مدرباً لفريق هذه الفرقة.
وحين عرضت على كاظم فكرة نقلي الى الفريق، لم يوافق في الوهلة الأولى، وعذره أني اعتزلت اللعبة، فضلاً عن وضعي الأدبي والاجتماعي الجديد الذي لم يعد ينسجم مع الالتزامات والمتطلبات الرياضية الصارمة، عدا أن فريقه كان يضم باقة من أفضل لاعبي الكرة.

لكن صديقي ( أبو جواد) وافق على ضمي للفريق بعد أن حكيت له قصة الاعتقالات السائدة وقتها، ومخاوفي من اعتقالي أيضاً، وهكذا تم نقلي، وتفريغي الى فريق قوات نصر خلال أيام، فانتظمت في تدريبات الفريق في ملعب الادارة المحلية في المنصور، وكنا كأننا مدنيون وليس عسكراً!خاصة وأن المدرب كان يتعامل معي بليونة جداً في التدريبات (يعني يوم أتدرب واسبوع بالبيت)!

لذلك كانت ساعات تدريبي مع الفريق من اروع الساعات واجملها، كيف لا، وأنا أقضيها مع أشخاص رائعين لن يأتي الزمان بمثلهم، طيبةً ونقاءً وفرحاً ومرحاً وحباً وتعاوناً وألفة وانسجاماً، وكم كنت أتمنى أن أذكر اسماء لاعبي الفريق واحداً واحداً لكن المجال لايسع لذكر اسمائهم في هذا المقال..

وفي وسط هذا المناخ الجميل، حدث ما لم يكن في الحسبان، حين أقيمت عام 1977 بطولة خاصة بالفرق العسكرية التي تلعب في دوري الدرجة الممتازة، سميت باسم (بطولة المكتب العسكري لحزب البعث)، وقد تأهل فريقنا لخوض المباراة النهائية، بعد أن فاز على فريق القوة الجوية الذي كان يضم لاعبين كباراً مثل كاظم وعل وناظم شاكر ومجبل فرطوس وغيرهم، وستكون المباراة النهائية في شهر تموز أمام فريق الحرس الجمهوري (الذي تشكل حديثاً، وطُعِّم بعدد من لاعبي منتخب الشباب العراقي، الفائز تواً ببطولة آسيا بعد أن سحق منتخب شباب ايران في المباراة التأريخية الشهيرة)!

وقد أخبرنا المسؤولون أن عزت الدوري، الذي كان (نائب مسؤول المكتب العسكري لحزب البعث) سيرعى هذه المباراة! كما أنها ستنقل من التلفزيون.

ولأهمية المباراة، فقد استدعينا في ظهيرة يوم 11 تموز – أي قبل المباراة النهائية باسبوع واحد، الى مقر الفرقة في معسكر التاجي،وقد حضرنا جميعاً بالملابس الرياضية، حيث كان عددنا يقدر بحوالي 200 رياضي يمثلون كل العاب الفرقة العاشرة..
وقفنا في الساحة المقابلة لمقر القائد، على شكل صفوف، ننتظر في العراء تحت سوط الشمس اللاهب لأكثر من ساعة، ونحن في قلق وخوف، لا نعرف ماذا سيحصل لنا، حتى ظهر العميد الركن هزاع فيزي الهزاع، قائد الفرقة العاشرة، متجهّم الوجه، ومعه ضباط أركانه، وبعد التحية، تحدث الينا القائد اولاً عن المباراة النهائية واهميتها، وقال بالحرف الواحد: لا اريد غير الفوز ، ولا أقبل حتى بالتعادل.. لقد راهنت قائد الحرس الجمهوري على الفوز بهذه المباراة، ويجب أن نفوز عليهم- علماً بأن القائد هزاع فيزي الهزاع، هو أحد أقارب صدام ومن عشيرة البو ناصر.
بعد ان أكمل القائد حديثه عن المباراة، التفت الى العقيد الركن علي مرهون ضابط الاستخبارات في الفرقة وسأله قائلاً بلهجته التكريتية: (هذا شسمو )

فأجابه الضابط قائلاً: فالح حسون الدراجي سيدي !

فما أن سمعت اسمي حتى سقط قلبي خوفاً، لاسيما وأن (الألقاب) لا تستخدم في الجيش، مما يعني أنهم اكتشفوا أمري!

فصاح الهزاع: (وينو هذا الدراجي)؟

فخرجت من الصف، وقلت بصوت مخنوق: نعم سيدي!

فنظر لي وقال مستصغراً: انت يول فالح الدراجي؟

قلت : نعم سيدي !

التفت القائد الى ضابط العاب الفرقة العقيد باسم الربيعي – وهو من أهالي العمارة، وقد كان بدرجة متقدمة في حزب البعث، لكنه للأمانة رجل شجاع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى- وقال له: أهذا فالح الدراجي يا باسم ؟

فاجابه الربيعي بالإيجاب!

وهنا هبط القائد من الدكة التي كان يقف عليها، وتقدم نحوي – وقد كنت وقتها صغير الجسم، نحيلاً، ناعماً- وقال بسخرية: يول أشو كتبة التقارير سووك علينا فيدل كاسترو، وإنت بگد البع ….. بوص !

ثم قال: يول انت (شوعي)

قلت : لا والله سيدي آني مو ( شوعي)!

فتركني وهو يقول لضابط الاستخبارات ضاحكاً: شوف عقيد علي هذا كاسترو، بس حققوا معاه، وانقلوه هسه الى لواء 24 ..!

وهنا، وللتاريخ أذكر هذا الموقف، فقد انبرى اللاعب عادل علوان، أحد لاعبي فريقنا البارزين قائلاً: سيدي القائد، جنابك طلبت منا قبل قليل أن نفوز على فريق الحرس الجمهوري، وهو فريق ممتلئ بالنجوم، وفي نفس الوقت تريد أن تأخذ منا احسن لاعب في الفريق، واللاعب الذي نعتمد عليه بشكل رئيسي!

فاستغرب القائد من كلام عادل، وقال له وهو يؤشر بعصاه نحوي: يعني على هذا يعتمد فريقكم يول، عجل وين صار ضرغام الحيدري وحسن سداوي ولطيف لبيب وغيرهم من اللاعبين الكبار العدكم ؟!

لكن، وقبل أن ينهي القائد سؤاله، خرج اليه اللاعب الدولي ضرغام الحيدري قائلاً: نعم سيدي، أشهد أن فريقنا بدون فالح حسون لن يحقق الفوز أمام الحرس الجمهوري!

لكن القائد لم يصدق بما سمعه، فوجه السؤال الى ضابط الألعاب باسم الربيعي، والمدرب كاظم صدام، وكان جوابهما مؤيداً لرأي اللاعبين عادل علوان وضرغام الحيدري، وهنا صمت القائد قليلاً، وقال: مو مشكلة، (خللوا) كاسترو يلعب هاي اللعبة، وبعدها انقلوه!
انتهى اللقاء الساخن بالقائد عند هذا الحد، وهنا أصبح لزاماً عليّ أن اتدرب بقوة خلال الاسبوع المتبقي قبل المباراة، بل صرت اتدرب ليلاً ونهاراً، كما بات على المدرب أن يشركني في هذه المباراة، رغم أني لم اشارك من قبل في أية مباراة، واصبح لزاماً ايضاً على اللاعبين أن يتعاونوا معي ويغرقوني بالكرات والمناولات كي أبرز، ويكون لكلامهم مصداقية أمام القائد، أليس أنا (عمدة الفريق)؟!

ومن حسن الحظ فقد فزنا على الحرس الجمهوري بثلاثة اهداف، ولعبت المباراة كلها، بل وكنت من نجومها ايضاً ، وقد كافأنا القائد بهدايا ومبالغ مالية، كان أثمنها حين همس بأذني قائلاً: شوف يا كاسترو .. راح اعفيك من النقل ، فأنت لاعب فاخر !، وفعلاً فقد اُلغي نقلي، وبقيت لاعباً في فريق الفرقة العاشرة.

في اليوم الثاني، أخبرني الأخ فؤاد جبر احد كباتنة الفريق بقرار المدرب، قلت، وما هو قراره؟

فقال ضاحكاً: ترجع مثل ما كنت سابقاً بالتدريب !!

قلت : يعني أرجع كاسترو!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here