أهلاً تشرين  

 
منذ ثلاث أعوام مضت صدحت حناجر  العراقيين  ببراءة  تقول وتردد كلمة الحق  في وجه  حكومة  الفساد  والتوليف  الطائفي و المحاصصة البغيضة   ،  كانت  الصرخة  هي إرادة  العراقيين  الصادقة  والمتبنية لمشروع التغيير  والبناء  الوطني   ،  لذلك  كانت صرخةً  طاهرةً غير مدنسة بأوساخ المذهبية  والطائفية والدينية المريضة ،  كان حلم الشباب والشابات  في  بناء وطن  محترم  يستحق العراقيين  ويستحقونه  بعد كل هذا الشتات  وكل  تلكم المعاناة  والألم  ،  الذي عاشوه عبر سنيين  من الحروب والفتن  والإرهاب  ،  وكانت الرؤية و الهاجس  أن يعيش عامة العراقيين  كباقي خلق الله في أمن وأمان  وكرامة . 
تلك كانت الحقيقة التي  تعرفونها  بخصوصيتها وعمقها الوطني العراقي المستقل غير المنحاز  للشرق أو للغرب  ،  ولهذا  كان الشعب كل الشعب  معها في السر والعلن  ،  وذلك لوضوح أهدافها وبساطة شعاراتها  و شعورها  ،  لكن أيدي الحاقدين  أبت  إلاَّ أن تلف من حولها  كل الصعاب   من أجل أخماد جذوتها ونورها  ،  ومع كل ذلك  لم تستطع  إلى أن عمد  الحقد  أن يستعمل  وسائله الدنيئة  فجرت على أثر ذلك  دماء في شوراع بغداد والناصرية  وبعض المحافظات الحريصة على التغيير والبناء ،  وهكذا  قدمت  تشرين  المئات من القرابين  على  مذبح الحرية  ، ولم تلن شوكتها أو تبرد نارها  . 
  وقد أستلهم منها أخرين كيف يكون الصمود والمطاولة   ؟   وكيف تكون المبارزة حرة مستقلة  ؟   ،  فتكونت على أثرها جماعات وفئات شجعت بعض الخاملين  والملتمسين ثوب العافية  ليقولوا كلمة الحق من غير وجل   ،  وهكذا رأينا كيف كانت هبة عاشوراء هذا العام  ؟  وكيف كانت رؤيتها ونضجها وسمو أهدافها  ؟  . 
تشرين ليست محطة أستذكار  وحسب !!   ،  ولا هي ترديد لشعارات من هنا وهناك !!  ،  بل هي هذه الوطنية الخلاقة وتلك  الروح المفعمة بمعاني الحرية والعدالة والقانون  ، وكم كانت مقولات الشباب حينها ناضجة ومستوعبة لما يجري من احداث ومشكلات عندنا وفي العالم    ،  تشرين ليست عدواً لأحد ولم تكن ذات يوم كذلك  ، إنما هي هذه الروح العراقية المحبة للخير والسلام والعيش المشترك ، ونزع هذا الفتيل الذي جاء  به  الأغراب من قريب وبعيد إلينا   ، تشرين كانت الروح التي أعادت للعراقيين شعورهم بأن لهم وطن وعليهم  واجب  الدفاع عنه . 
  ربما يقول قائل  وكم تبقى من عهد تشرين  ؟  ونقول وببساطة  :  تشرين ليست أرقاما  وحسابات  ،  إنما  هي هذه القيم وتلك الروح التي لا تقبل الضيم والخضوع والذل والمهانة ،  تشرين زرعت  في وجدان كل عراقي  شريف   معنى  الحرية  و معنى  الإصرار على الحق والمطالبة فيه ، ومعنى الوثبة الملتزمة بكل نواميس الحياة الصحيحة ،  تشرين دعت عبر وسائلها المتاحة إلى تعميق الوعي والشعور بالمسؤولية الوطنية    ،  ومعنى الإنتماء ومعنى الإيمان  ،  وكيف يجب ان  تكون العلاقة خالصة للوطن دون سوآه ،  طبعا الوطن الجامع لتاريخه وحضارته  وشعبه  ووعيه ورؤيته لما يجب ان يكون عليه مستقبل أبنائه . 
في تشرين 2019  كانت العزيمة عالية  وكانت الأهداف واضحة جلية ، وكنا وكان العالم يسمع  معنى الديمقراطية التي كنا نرغب فيها ونريد  ،  وحين تجافى المشاركين في العملية عن كل هذا أتت إنتخاباتهم عرجاء شوهاء   ،  لم تستطع أن تؤوسس شيئا ذا قيمة أو معنى  ،  وأحدثكم هنا عن الحكومة والبرلمان ورئاسة الجمهورية . 
 فمنذ ذلك اليوم  الأسود  الذي وضع بريمر يده على مقدرات العراق وقام بتوزيع الحصص والمناصب توالت نكبات العراق وشعبه ،  ومنذ تلك اللحظة السوداء التي أسست لدستور أعور أخرق  ، والذي أتخذ من لبنان مثلاً  وقدوة  له ضاعت حقوق العراقيين وأندثرت . 
  وأما  نحن وأنتم  فكنا  شهوداً  على  أحلام العراقيين وأمانيهم الكبيرة  وكم كانت  نقية  ونبيلة   ،  كانت  الأحلام  في  تأسيس  دولة العدل والسلام والحرية   ،  وكل ذلك   قد تبخر  بفعل ما قام به سياسيوا هذا الزمن التعيس  ،   أولئك  الذين  أسسوا وطنا  طائفيا مريضاً  تتنازعه الأهواء والرغبات  والمطامع    ،  أولئك  الذين  نهبوا وسرقوا كل شيء   ،  ولم نشهد مرة واحدة أن أقيم  بحق  هؤلاء  الأدعياء  يوماً  سيف العدل على واحدا منهم    ،  فأموالهم  وسرقاتهم  بنت القصور والعمارات والشركات في دول العالم  القريب  والبعيد  ( ماعدى العراق  )  ،  الذي ظل في بؤسسه وألمه وحرمانه  . 
 إنه  نفس  العار الذي حفز جيل التشرينيين  سنة 2019   ،  هو نفسه  الذي يحفز الجيل الجديد  لكي يجدد العهد  والميثاق  مرة  أخرى ،   على أمل هذه المرة أن يكون الموقف  مختلف  بالمطلق   ،  إذ  لا يصح هذه  المرة  الضعة والتمييع والليونة والمخاتلة والتصديق  بمن يلعبون  بالألفاظ والكلمات  والجمل   ،  من أجل التسويف والمماطلة  ودوام الحال على ماهو عليه . 
 تشرين هذه المرة نحيَّيه   ، ونقول أهلاً به  لشعور عميق  يراودنا  بأن شباب العراق وشاباته هذه المرة لن يتراجعوا  ،  فحجج  القوم  كلها توضحت وبانت   ،  ولم يبق من كورنا التي عطلت سير المسرة غير أسمه ،  ولهذا نقول أهلاً تشرين وبما يتحصل منه من ناتج وطني كبير إنشاء الله  .. 
راغب الركابي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here