تصدعات فكرية لمجتمعات ما بعد الحروب

علي مهدي الاعرجي

الانهيار في المنظومة الفكرية للمجتمعات المتأزمة العربية التي عانت من ويلات الحرب لم تأتِ من فراغ إن ما ترميه عليهم رائحة الدماء وتناثر الأشلاء من انطباعات في الذهن لا يمكن حذفها من مخيلة الإنسان وتبقى متراكمة إلى عهود وعصور متناقلة عبر الأجيال، في بعض المجتمعات يعاب على الهاربين من وقع الانهيار من مسرح الصراع الدموي إنهم يمتازون بشيء من القساوة وعدم الاكتراث وشيء من انعدام التأثر أمر طبيعي لمن فقد أجزاء من عائلته ومن فقد أجزاء من جسده أن يعطي لهذه الحياة أهمية أو اكتراث لذلك لا يعاب عليهم القساوة وعدم الاكتراث بل يجب على الشعوب المترفة أن تنظر لهم بعين مختلفة.
أدرج كلامي هذا بعد عدد من المشاهد الموجعة التي شاهدتها في بعض معسكرات اللجوء في أوروبا حيث صادفني تساؤل مستمر عن عدد من الجنسيات المتواجدة في المركز لماذا هم يحملون هذه القساوة و الوحشية؟ في الحقيقة لم يصدمني تصرفهم بقدر اندهاشي الفظيع ممن يسأل هكذا سؤال!!. كيف لك ان تجد انسان فقد ذويه تحت ركام منزل كان يمتاز بالمحبة والدفء و المشاعر الجميلة ,كيف لي أن أصف أو أنقل لك صورة لشخص يلملم أشلاء ذويه من على الأرض, تناثرت بسبب سقوط صاروخ على بحبوحتهم السعيدة فحولتهم إلى قطع من اللحم المحترق. يلملم بعضهم هنا إصبع هذه يد هناك قدم هذه عين لطفلة جميلة كانت تلعب وتملأ المنزل ضجيج ,هذه القلوب تحطمت ودفنت مع ذويها وما تبقى منهم عبارة عن هياكل بشرية تسير على الأرض تمارس حالة إنسانية طبيعية من أكل وشرب ولبس الخ. قبل أيام كان هناك لقاء إلى الفنان كاظم الساهر وهو يتحدث عن بعض الاحلام المرعبة التي تصاحبه عن الحرب والقتل والدمار شخص مثله محاط بكم من المحبة والاهتمام ويعاني من سقوطه في بقعة الأمن والأمان إلى اليوم وبعد مضي أكثر من ثلاثة عقود وهذا الرجل يعاني من مخلفات الحروب. إذن هو أمر فظيع لا يمكن أن يحذف من الذاكرة.
إن مجتمعات ما بعد الحروب تعاني من انهيار في المنظومة الخلقية والإنسانية وتعاني من انهيار في منظومة العدالة لأنها غالبا ما تتحول إلى مجتمعات تتسابق من أجل رغيف العيش وتفقد عندها رهبة القتل ويصبح الدم شيء طبيعي جدا وليس للموت معنى .ان هذا الصراع ينتج لنا تقزم فكري وازدياد لمنطق الخرافة و تعالي تواجد الأضرحة ومزارات الصالحين و الأولياء من أجل التوجه لهم لقضاء حوائجهم أو علاجهم. هذا السبب يأتي لانعدام الساند المالي ومراكز الاستطباب المجهزة بالشكل الطبيعي ويتراكم الأمر حتى يصل إلى ازدياد عدد المنجمين وعدد المشعوذين الذين يعتبرون مخلصين الناس من أوجاعهم وباعثين لهم أرزاقهم. وهذا الأمر لا يصيب فقط بسطاء القوم بل يماسك حتى عقلائهم بسبب انغلاق الأبواب أمامهم وانعدام الفرصة لتحقيق ذاتهم وخلق مجال إبداعي يستطيع من خلالها أن يرسم ملامح اجتماعية جديدة.
(إن من هوان الدنيا أن تنهي وظيفة العقل وتذهب متشبث إلى قول ساحر أو منجم أو وسيط يدعي منزلة عند الله لترمي عليه همومك وأوجاعك علك أن تجد متنفساً أو أن تجد ضوء لحلمك الموءود من قبل ولادته فتخسر أموالا وتخسر من العمر الذي لا يكرر يام وتجد نفسك في تسافل وتجده في تعال ومحبة ومكانة كاذبة في قلوب الناس ويزدادون ثراء ونزداد فقر.)
إن مرحلة تحول المجتمعات المهزومة إلى التصديق بالساحر والمنجم لا يمكن أن يعتبر ذنباً بل هو من قساوة وصعوبة الحياة، يحتاج الإنسان أن يصنع لنفسه عالم من الوهم والكذب والأساطير تتيح له فسحة من العيش. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! لذلك تجد الجدل والشعوذة والسحر والاستطباب العربي والاستطباب المبارك منتشر في مجتمعاتنا على الرغم أنه يخضع إلى العامل النفسي.إن هذا التأزم الفكري ينتج لنا إنسان لم يكمل أشهر التكوين التسعة في رحم الحياة ويقذف على شاطئ البحر يصارع ويعاني من غباء وتخلف اجتماعي وانعدام الفرص وضياع الوجود البشري له بالكامل، يسانده صور الحروب وانهيار شبه تام إلى منظومة الاقتصادية واعتلاء طبقة فاسدة من الساسة في إدارة ملف الحكم, بالمطلق ينتج لنا مجتمع غير صالح للانسجام وبلد غير صالح للحياة البشرية.
نحتاج اليوم الى أكثر من مركز لعلاج أزمات ما بعد الحروب ونحتاج برامج مكثفة ومناهج دراسية تعيد بناء شخصية الطفل العربي في مناطق الحروب وكما نحتاج إلى مشاريع عمل تقتل البطالة يتبعها قانون صارم يجعل من الجميع تحت رقابته. لا يمكن أن ننهي آثار الحروب لكن في التتابع الزمني ستنتهي هذه الأجيال وتظهر لنا أجيال جديدة بدماء لم تلوث بما أصابنا من إشعاع فكري ليخلق لنا بلدان مسالمة متحضرة بعيدة عن الدمار والخراب العام وتنتمي إلى أوطانها لا الى مكوناتها المتنوعة من العرقية والمذهبية وغيرها

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here