التدمير التركي للبنية القبلية في العراق

علي الابراهيمي

شهدت بداية القرن التاسع عشر الكثير من الاحداث , تتلخص معظمها في رغبة (الوهابيين) بالتوسع البدوي , في كل الاتجاهات , وكذلك إصرار العثمانيين على تدمير الامارات العراقية العربية والكردية , في ظل بقاء المماليك الجورجيين على رأس السلطة بتأثير القنصل الفرنسي في إسطنبول . فحاول العثمانيون التخلص من امراء اسرة (بابان) الكردية المستقلة والمجيء بصنيعة لهم من نفس الاسرة , لا سيما مع خيانة بعض امراء الاكراد ووقوفهم الى جانب العثمانيين والسير بهم في طرق سرية للقضاء على مقاومة (بابان) الحصينة .

فيما استغل (الوهابيون السعوديون) خيانة (لطيف بيك بن محمد بيك الشاوي) أمير قبيلة (العُبيد) للدولة العثمانية وتعاونه معهم – كما فعل ابيه من قبل في حرب تحرير (الاحساء) – ليدخلوا معه الى مدن (هيت) و (عانة) ويقوموا بتخريبهما , في الوقت الذي يحاصر جيش كبير لهم مدينة (كربلاء) والفرات الأوسط , بينما هدد جيشهم الرئيس العاصمة بغداد نفسها , لولا انكسارهم وهزيمتهم على حدود الفرات الوسطى ثم هربهم . كذلك انكسر الوهابيون (القواسم) في (الامارات) امام جيوش إمام (مسقط) و (شركة الهند الشرقية الإنجليزية) .

وكان الوالي العثماني الجورجي (سليمان الصغير) حظي بعداء اغلب الامراء الاكراد والامراء العرب , مما سمح بمشاركتهم جميعاً في القضاء عليه عندما غدر به السلطان العثماني وامر بقتله , فتم ذبحه من قبل قبيلة (دفاعي) التي لجأ اليها وتسليم رأسه ل(حالت افندي) مبعوث السلطان . وكان موته يعني دخول الاكراد الى بغداد منفردين , لانهم القوة التي شاركت بصورة رئيسة في قتله بأمر عدوه الثائر السابق (عبد الرحمن بابان) , الى جانب حاكم (الموصل) (محمود الجليلي) , فقام الاكراد بتعيين والٍ لم يتم الاعتراف به محلياً او رسميا . وكانت هذه الأجواء مناسبة للسعي لاستقلال الاكراد في شمال العراق (جنوب كردستان) بصورة كبيرة لأول مرة , وكذلك استقلال (المنتفك) من بغداد الى الخليج بقيادة (حمود الثامر) الذين كانوا يكافحون بالسلاح ضد الوالي السابق . فحاول العثمانيون ضرب القائد الكردي القوي والمستقل (عبد الرحمن بابان) الذي لجأ الى فارس , فأعاده الإيرانيون الى حكم (السليمانية) بقوة السلاح , كما اعادوا ابنه لاحقاً لتظل (السليمانية) بصورة كبيرة جزءاً من نفوذ ايران .

وظل الصراع قائماً بين المماليك الجورجيين لحكم العراق , لا سيما داخل عائلة (سليمان الكبير) , حتى وصل الامر بولده (سعيد) الى الاستعانة بقبائل (المنتفك) لتثبيت نفسه في الحكم , فدخلوا بغداد واجبروا السلطان على تعيينه . الا انه خسر دعم المماليك الجورجيين بقيام صهره (داوود) بالسعي الى السلطة , فصدر فرمان سلطاني بنقل (سعيد) الى ولاية (حلب) , لا سيما بعد انتهاء التأثير الفرنسي في البلاط العثماني , والذي كان يشكّل الدعم الرئيس لعائلة (سليمان الكبير) الموالية لهم , وحين رفض (سعيد) تنفيذ الامر قتله (داوود) قبل وصول (المنتفكيين) .

والدعم الفرنسي للعوائل المملوكية ذات الأصل الأوروبي كان غريباً , اذ انها كانت تصر على وجود عائلة (سليمان الكبير) في العراق , وهي التي توسطت في تسليم (مصر) الى (محمد علي باشا) الألباني الاصل , الذي استطاع ولداه انهاء الدولة الوهابية السعودية الأولى .

وقد سلك (داوود) باشا في العراق طريق اثارة الفتن بين القبائل والامارات والعوائل الحاكمة , فصنع فتنة بين (محمود بابان) واخيه الأصغر , لكنها فشلت بتدخل الجيش الفارسي , ثم صنع فتنة داخل عائلة (السعدون) التي تقود قبائل (المنتفك) , وادخل هذه القبائل في معركة داخلية , ثم فتنة بين قبائل (بني لام ) . وكل ذلك كان لمنع الاتحاد القريب جداً بين قبائل (بني لام ) في (الحويزة) وبين جارتها قبائل (المنتفك) , بدعم من الاكراد (اللورية الفيلية) , ربما بالتعاون مع الدولة الإيرانية , وربما لا , بعد ان بلغ تعداد كل قبيلة في منطقة (الحويزة) ما يفوق ال 200 الف نسمة .

واستطاع (داوود باشا) – الذي كان متصوفاً سابقا – في ظل هذه الاحداث نهب وسرقة المراقد المقدسة في كربلاء والنجف وغيرها , وتحويل كنوزها الى سبائك ذهبية واخذها , انتقاماً لخسارته مواجهة (السليمانية مع الاكراد , وكذلك شرّد ونهب ممتلكات التجار الشيعة عموماً , والفرس خصوصاً في العراق , في عادة عثمانية قبيحة في عدم احترام الجار والمواطنين المسالمين , الامر الذي اغضب الدولة الفارسية كثيرا .

وكان كل ذلك يتم في اطار سياسة عامة انتهجها السلطان العثماني (محمود الثاني ) , تهدف الى القضاء على كل الزعماء المحليين الأقوياء , وعلى كل الاقطاعيات الاقتصادية الكبيرة , وهو ما اضعف كثيراً الإمبراطورية العثمانية الكبيرة , ومكّن الانجليز والفرنسيين من السيطرة التامة على التجارة فيها , حتى ان (داوود باشا) نفسه خسر مواجهته القانونية والعسكرية ضد شركة الهند الشرقية الإنجليزية , التي كانت تتمتع بامتيازات استثنائية لا يتمتع بها مسلم في الإمبراطورية .

ولولا انتشار وباء (الكوليرا) في العراق لاستطاع الجيش (الفارسي – الكردي) المشترك الغاضب تحطيم الجيوش العثمانية واستعادة كل أرمينيا وأذربيجان والعراق , وقد كان عن بغداد مسافة يوم , الا ان القدر كانت له كلمته التي منعت الجيش الفارسي من التقدم رغم انتصاراته , فتم توقيع معاهدة (ارضروم) في العام 1823م , التي حددت الحدود الدولية بين الامبراطوريتين نهائيا , وسجلت الشعوب التي تتبع لكل منهما .

وكانت الاقدار تلعب دورها مرة أخرى في نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر , حين استطاع (داوود باشا) احتكار التجارة في العراق , وبناء وتوسيع الافواج العسكرية المدربة على الطرق الأوروبية , حتى تجاوزت قواته النظامية وحدها الثمانية والعشرين الفا , عدا قوات القبائل العربية المتحالفة معه , حتى جعل اخاه حاكماً على البصرة , واراد – كما فعل معاصره محمد علي باشا في مصر – الاستقلال عن السلطان العثماني , والأخير علم بذلك من بعض مساعدي (داوود باشا) , الذي رفض ارسال الأموال اللازمة لتعويض روسيا من قبل الدولة العثمانية , بعد ان دمرت الاساطيل البحرية البريطانية والفرنسية والروسية الاسطول البحري العثماني , فجهز السلطان جيشاً بقيادة (علي رضا باشا) والي (حلب) للتخلص من حاكم العراق القوي هذا , الا ان (علي رضا باشا) اكتفى بالتمركز في مدينة (الموصل) للحصول على دعم اميرها (الجليلي) , وبانتظار مشاركة قوات قبيلة (شمّر جربا) الى جانبه , حيث كان القائد العسكري والسياسي العثماني (علي رضا باشا) يخشى المواجهة الصريحة مع قوات مماليك بغداد بسبب وصولهم الى مرحلة جاهزية نظامية كبيرة .

الا ان الطاعون والمجاعة واللصوص هي من قضت على كل جنود (داوود باشا) , وعلى النسبة العظمى من سكان بغداد , والكثير من سكان العراق , وانهى وجود المماليك الجورجيين نهائياً في البلاد في العام 1831م , حتى ان هذا الحاكم القوي (داوود باشا) ظل وحيداً على خشبة عارية في قصره , لا يجد من يجذف له لعبور دجلة , الذي فاض وقضى على الكثير من الناجين قبل ان يقضي على الطاعون نفسه , فدخل جيش العثمانيين الى بغداد بلا معركة كان يخشاها كثيرة ولا طاقة له بها , وتم نقل (داوود باشا) الى إسطنبول والعفو عنه بوساطة بريطانية . ولا نعلم شكل هذه العلاقة بين العثمانيين وبين اصدقائهم واعدائهم في نفس الوقت الفرنسيين والبريطانيين .[1]

بوصول (علي رضا باشا) الى حكم العراق صارت البصرة جزءاً من حكومة بغداد , فالعراق لم يعد فيه سكان بالمعنى الحرفي بعد الطوفان , اذ انخفض تعداد سكان بغداد الى 20 الفاً بعد ان كان يتجاوز 120 الفاً , فيما انخفض عدد سكان البصرة الى اقل من 6 آلاف بعد ان كانوا يتجاوزن عشرات الآلاف , وصارت كل أربعة من خمسة دكاكين فارغة , بحسب الضابط الروسي المكلف بملف ترسيم الحدود الفارسية – العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر , واختفت صناعات تاريخية بصورة نهائية بسبب موت من يملك معارفها الضرورية .

ثم لجأ (علي رضا باشا) التركي – ككل من قبله من ولاة العثمانيين – الى تفريق صفوف العرب بنشر الفتنة بينهم . وكانت اقوى اماراتهم هي (المنتفك) , وقبل ان تثور عليه امر بتكليف اخ شيخها (عجيل) اميراً بدل من الأخير , فحدث نزاع داخلي ظل يتجذر ويزداد دموية بالحرب بين حلفاء الاخوين . والتحالف الأقوى الاخر كان قبائل (شمّر جربا) المتحركة في منطقة الجزيرة العراقية السورية , وحليفة الوالي نفسه عند قدومه , التي تطالب بمكافئتها على نصرته , لكنه – كالعادة – غدر بها واعطاها ظهره , فقررت الهجوم على بغداد , لكنه استعان عليها بقبيلة بدوية كبيرة قادمة حديثاً من صحراء (نجد) هي (عنزة) , التي جاءته بما يزيد على 35 الف مقاتل , فرجعت (شمّر) عن فكرة غزو بغداد . لكنّ (عنزة) – ببداوتها واعتيادها العيش على النهب – لم تكن لترجع دون غنائم , فقررت نهب بغداد نفسها , ولم يكن الوالي قادراً على صدها , فرجع ليستعين ب(شمّر) التي كادت تخسر المعركة ضد (عنزة) لولا تدخّل حليفتها قبيلة (زبيد) , فحقق شيخ قبائل (شمّر جربا) المدعو (صفوك) نصراً حاسماً أعطاه مكانة خاصة في العراق بعد ان كانت قبائل (شمّر) غير مهيمنة على الساحة العراقية . ولأنها قبيلة نصف بدوية خشي الوالي – الذي ساعد في صناعة قوتها – من تمددها نحو بغداد , فاضطر الى السعي الى تهدئة الفتنة داخل امارة (المنتفك) ليواجه بها قبائل (شمّر) , وفعلاً انتصر (المنتفكيون) , لكن كل هذه الصراعات العربية – العربية تركت عشرات قضايا الثأر بين هذه القبائل الكبيرة التي استغل والي العثمانيين سذاجة قادتها وتركها تموج في دماء بعضها البعض وتفرّغ هو لحكم العراق , بعد ان اطمئن ان العرب الأقوياء مشغولون بدماء بعضهم عنه . لكن استطاع شيخ (شمّر) المدعو (صفوك) تهديد حكومة (علي رضا باشا) بعد ان قامت قوات عثمانية بأسره وارساله الى إسطنبول غدرا , وحين استطاع الهرب عاد الى قبيلته واراد الانتقام من والي العثمانيين في بغداد الذي لم يجد من العرب (المنتفكيين) و (بني لام) من يساعده , لأنه دمّر قبائلهم في حملته على مدينة (المحمرة) , فلجأ الوالي العثماني الى سياستهم المعتادة بتفريق قبيلة (شمّر) عبر دعم شيخ جديد وتأسيس حزب مساند له , فتفرقت قوى القبيلة كالعادة , حتى تم تسليم مشيختها أخيراً الى (فرحان بن صفوك) الذي تربى في العاصمة العثمانية إسطنبول وكان موالياً لها .

فيما سقطت آمال الامراء الاكراد بالاستقلال مع قدوم منتصف القرن التاسع , نتيجة حملات ولاة العثمانيين المحيطين بهم , بعد ان طمع هؤلاء الامراء والحلفاء التاريخيون للسلطان العثماني بما ناله الوالي العثماني الالباني (محمد علي باشا) من استقلال مصر وسوريا وجزء من الاناضول تحت حكمه , حتى انه طمع بحكم العراق الذي يمثل الطريق التجاري الأهم بين الهند والغرب . وكانت النتيجة – بعد مذابح بعض الامراء الاكراد ضد المسيحيين (النساطرة) العراقيين لأربع سنين – دخول الجيوش التركية العثمانية الى اماراتهم ومحو حكمهم الى الابد .

وكان الضباط البريطانيون وممثلو شركة الهند الشرقية البريطانية في منتصف القرن التاسع عشر يتحركون في جنوب العراق بكل اريحية لفحص طرق نقل البريد البريطاني من الهند , لولا هجمات العرب التي قتلت بعضهم .

فقدت البصرة أهميتها التجارية بسبب الضرائب المرتفعة المفروضة من قبل الولاة العثمانيين , الذين يعتمدون عليها كلياً في جمع الأموال اللازمة لشراء مناصبهم , وكذلك في تحقيق حياتهم الفارهة على حساب الناس . فازدهرت بدلاً عنها مدينة (المحمرة) القريبة , لا سيما بعد الذكاء التجاري الذي فعّله شيوخها العرب من قبائل (كعب) و (محيسن) – الذين شقوا القنوات المائية اليها – بخفض الضرائب , وبعد اتحاد القبائل العربية العراقية من (المنتفك) و (بني لام) وغيرها في التعامل معها بعيداً عن مراقبة العثمانيين , فازدهرت التجارة المحلية , وتقاربت القبائل العربية . وهذا اغضب العثمانيين كثيرا , فقاد والي بغداد في منتصف القرن التاسع عشر (علي رضا باشا) قواته الأجنبية التي تعدادها ستة آلاف , وقوات ملحقة من الأعراب تبلغ ضعف الجيش العثماني رغم ما فعله الوالي بالعرب , ودمّر (المحمرة) , وفرّق شيوخ القبائل العربية . في الوقت الذي كان البريطانيون والاوربيون يرتعون في خيرات البلاد العربية في العراق ابتداءً من الاهواز والخليج وحتى أعالي الفرات شمالا .[2]

لقد كان وباء الطاعون الذي اهلك اهل العراق في منتصف القرن التاسع عشر قدراً محى مستقبلاً , وصنع مستقبلاً آخر , حيث انه اهلك كل المماليك الجورجيين الأقوياء والجنود النظاميين الأجانب الذين كانوا يخططون للاستقلال بالعراق تحت حكمهم الطائفي الأجنبي , كما حدث في مصر بقيادة عائلة (محمد علي) الالبانيين , وانهم كانوا لا شك سيستقدمون أجانب مثلهم لتعزيز قوتهم وسيطرتهم على العراق , وكان هذا الاستقدام للمزيد من المماليك ورعايتهم يعني بالضرورة استيلائهم على مجمل البلاد وتغيير تاريخها كليا . كما انه سمح بدخول قبائل (شمّر) و (عنزة) البدوية (النجدية) التي كانت تخشى مواجهة القبائل العراقية الكبيرة والقوية سابقا , فصارت صورة العراق الجديدة مختلفة تماماً من الناحية الديموغرافية والحضارية عن ما قبل العام 1831م , حيث تغيّرت معادلات وموازين القوى القبلية والحضارية والعقائدية .

والتجربة الأهم كانت تكرار وقوع زعماء القبائل العربية , فضلاً عن الكردية , في خديعة التفرقة العثمانية المملوكية , المستندة الى فكرة ” فرّقْ تسدْ ” , وإنْ كانت هذه الخديعة تأخذ أثرها في الامارات الكردية والقبائل الأعرابية وعائلة (السعدون) على الأكثر , فيما لم نجد لها مثالاً في القبائل العربية العراقية الجنوبية . والحصيلة ان قبائل العراق القديمة الكبرى صارت محاصرة بطوق من القبائل (النجدية) .

[1] ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها , الكسندر أداموف , ص 446 – 468

[2] ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها , الكسندر أداموف , ص 471 – 483


الموقع الإلكتروني \ تاريخ الأديان

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here