الموسيقى وعلاقتها بالأديان (اقتباس)

الموسيقى وعلاقتها بالأديان (اقتباس) د. رضا العطار

لا شك في ان اثر الموسيقى في تطور الأديان، موضوع ممتع يستحق الدرس . فلا ريب عندنا ان هذا الفن وهو اقرب الفنون الى النفس واشدها فعلا فيها , قد ساهم كثيرا في خلق العواطف الدينية والتعبير عنها , اي ان الموسيقى لم تخدم المعتقدات فقط كما يبدو لاول وهلة , بل اثرت في تكوينها الجوهري . فقد قام الموسيقي بدوره في تكوين المعتقد . ويكاد ان يكون في الامكان وضع الفرق بين كل معتقد وآخر بالتدوين الموسيقي . فالمسافة التي تفصل مثلا بين احتفالات ( كيبلي ) الهوجاء وبين الوقار الرائع في طقوس الكنيسة الكاثوليكية , يمكن ان تقاس بالهوة السحيقة بين ضجيج الصنوج والطبول المتنافر , وبين انسجام الحان يوهان سبستيان باخ، حيث ان الروح المختلفة تتنفس في الموسيقى المختلفة.

فالملك السامي كينيراس كان كالملك داود عازفا على القيثارة. ومن الواضح ان كلمة كينيراس مقرونة بالكلمة الاغريقية كيراس, وهذه مشتقة من الكلمة السامية كينور بمعنى القيثارة. وهي الكلمة المطلقة على الالة التي عزف عليها الملك داود. ولسنا مخطئين اذا قلنا ان موسيقى القيثارة في اورشليم لم تكن مجرد ملهاة تزجى بها ساعات الفراغ بل كانت قسما من الخدمة الدينية.

كانوا يعتبرون اثر الحانها المطربة في وحي الأله، كأثر الخمرة. وما من ريب في ان قساوسة الهيكل كانوا يتنبأون عندما ترافقهم موسيقى القيثارات والصنوج والقانون.

كذلك كان الأنبياء يعتمدون على الموسيقى لتبعث فيهم روح النشوة التي عدّوها اتصالا مباشرا بالاله. ولذا فقد جاء في التوراة ذكر جماعة من الانبياء نزلوا من مكان مرتفع وهم يعزفون على القانون والدف والمزمار والقيثارة, وراحوا يتنبأون وهم يمشون.

وعندما اتحدت قوات يهوذا وافرايم وراحوا يقطعون البراري مطاردين العدو, لم يجدوا ماء لثلاثة ايام, وكادوا يموتون عطشا , وبينما هم في هذه المحنة, دعا النبي اليشاع مغنيا وامره بالعزف. وعندما فعلت الموسيقى فعلها في نفسه امر جنوده بان يحفروا خندقا في المجرى الرملي للوادي الجاف الذي كان تحت اقدامهمن ففعلوا ذلك, وفي اليوم التالي امتلئ الخندق بالماء الذي تسرب اليه من تحت الارض عبر الجبال القفراء التي كانت على الطرفين.

ونجاح النبي في ايجاد الماء في الفلاة يشبه نجاح عرافي الماء المعاصرين. وقد ادى النبي خدمة اخرى لشعبه وذلك ان الاتباع حين اختفوا في معاقلهم بين الصخور, رأوا شمس الصحراء الحمراء منعكسة في الماء, فظنوها دم اعدائهم, فتشجعوا وهاجموا معسكر اعدائهم, وانتصروا عليهم.

وكما كانت سحابة الكئآبة, التي تظلّم لها نفس شاؤل بين حين وآخر, تعد روحا شريرة يرسلها الرب لتعذيبه. فكان يستفاد من الحان القيثارة ليسري عنه الهموم. تلوح للملك المثقل بالشجون كصوت الله او صوت ملائكته يهمس في اذنيه الدعة والسلام, بفضل الموسيقى وسحرها, ( ان النغمات الموسيقية بما فيها من قوة على الهاب الدم واذابة القلب, لا يمكن ان تكون مجرد اصوات جوفاء : انها تأتي من كون علوي, انها من صب الالحان الازلية بل هي صوت الملائكة وتراتيل القديسيين ) . هذا ما قاله الكاردينال نيومان .

والقصة القديمة التي تجعل من ابولو – اله الموسيقى – صديقا لكيراس قد تكون مبنية على الاعتقاد بان كليهما مولع بالقيثارة. ولكن لنا ان نتسائل الآن : ماهي الوظيفة التي كانت تؤديها الموسيقى الوترية في الطقوس الاغريقية والسامية ؟ هل كان من وظيفتها ان تثير نشوة النبوة ؟ ام ان تطرد الجن والشياطين ؟ بعبارة اخرى هل كانت تسعي الى استحضار ارواح الخير ام كانت ترسم لنفي روح الشر ؟ .

ان الامثال المستقاة من حياة اليشاع وداود وقصصهما تبرهن على ان العبرانيين استخدموا موسيقى القيثارة لكلا الغرضين. ففي حين استخدمها اليشاع لكي يصل في النشوة الى ذروة النبوة, لجأ اليها داود لكي ينفي الارواح الشريرة عن شاؤل . اما عند الاغريق في الازمنة التاريخية, فلا يبدو انه استعمل الاوتار لاثارة النشوة في الناطق ابولو او غيره من آلهة الوحي. بل الامر بالعكس اذ ان الذي اعجب به العقل الاغريقي هو اثر الموسيقى الوترية في تسكين العواطف وتهدئة النفس. اذا قورن بالاثر الثائر الذي تتركه موسيقى المزمار.

يبدو ان المرء الذي يؤمن بالخرافات قد يعزو سكون العواطف بفعل الموسيقى العذبة في سبيل التخلص من الارواح الشريرة. وتمشيا مع هذا الرأي يتحدث بندراس عن الاثر الفني للقيثارة ويقول : كل من يكره الانسان , يرتعد من صوت الموسيقى سوا أكان في الارض او البحر . غير ان اقتران القيثارة بالنبي الخرافي – اورفيوس – يدل على ان الاغريق استخدموا واستفادوا من القيثارة كما استخدمها العبرانيون من قبلهم . حيث وجدوا في تلك الحالات العقلية ان الخيالات تزدحم وتتلاحق, فعدوها وحيا الهيا.

ولكن اي من هاتين الوظيفتين الايجابية والسلبية , الموحية او الحامية, غلبت في دين اله الساميين ادونيس ؟ . . لانعرف, لعل الاثنين لم يميزا بوضوح في عقول عباده.

والعنصر الذي لا يتغير في اسطورة الاله ادونس هو موته المبكر. فهناك من قال انه قتل نفسه عندما اكتشف انه ضاجع ابنته, وزعم اخرون انه غلب على امره في مسبقة موسيقية مع الاله ابولو, فأمر الظافر بموته. انه لم يعش حتى يعاصر الطوفان.

ان حياة مشاهير الرجال في الازمنة الغابرة مطاطة جدا يمكن ان تطول وتقصر لمنفعة التاريخ. كما يشاء للمؤرخ ذوقه وهواه.

* مقتبس من كتاب ( جيمس فريزو في كتابه ادونيس – دراسات في الاساطير والاديان الشرقية القديمة ترجمة جبرا ابراهيم جبرا)

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here