الأستاذ عبدالجليل الركابي  .. التاريخ  والسيرة  

 
  
عندما  نكتب  أو ندون  حياة رجل   أثر  فينا  وفي محيطه ومجتمعه  ،  فالواجب  أولاً   يقتضي عدم التطير وإلتزام  جانب الحرص و الكياسة وعدم الإستعجال  ،  وثانياً  :  يقتضي  المراجعة  الهادئة  لكل الدفاتر والأوراق  التي   أعتنت أو  سجلت  حياة هذا الرجل  في  عمله وتحركه   ،  فالتاريخ  والسيرة  التي  نكتب  عنهما  وندون  لم تكن فرط  رغبة   من  محبين  و أصدقاء  وحسب   بل كانت  عبارة  عن قناعة وإيمان ،  بأن تاريخ  الراحل الكبير  مفعم  بالحيوية  والصدق في المجالات التي تحرك بها وعمل   سياسية كانت أم إجتماعية أو ثقافية وفكرية ،  فكانت هذه وغيرها  عامل  الدفع  والحسم  في وجوب  تدوين سيرته وتاريخه على نحو واقعي منتظم  وواضح    ، وكل أولاء  كانوا  بمثابة  القواعد  العملية التي على ضوئها  أهتدينا وتوكلنا         . 
ونقول  :   أن  قضية   تدوين  التاريخ  أو التدوين  التاريخي  تُعرف   من الناحية  الموضوعية   على أنها سجل   عام   لكل الحوادث والقضايا   بل هو في أحيان كثيرة   دراسة في الشخصية  العامة ،   وبما إن ذلك كذلك   فهذا   يتطلب   حتماً  وبالذات   الكثير من  الحرص  والكثير من التأني  و الرعاية والمتابعة  والرصد ،  ونظن  إن كل تلكم  المعاني  لن تستوفي  جميع الحالة المنصوص  عليها ،   وهكذا   تظل  في حالات كثيرة  قاصرة  في التمكن  و الإلمام  والإحاطة   ،  إن لم  يرافقها  توثيق  رصين  بالأدلة والبراهين   ،  ومن جانب أخر تبدو قضية التدوين  ذات طبيعة  ميكانيكة   أو قل ذات صفة  مادية  ،  مما يستوجب  فيها رعاية القول المأثور –  لا يسقط  الميسور بالمعسور  –      . 
إذن  فالتدوين  التاريخي   هو  :  –  ذلك  السجل التاريخي الموضوعي للأحداث  والقضايا التي حدثت  في الماضي  (  القريب  أو البعيد ) –  ،  وهو عملياً   :   يعني تلك  الممارسة  التي  يقوم بها أهل الإختصاص  في تحديد ملامح  الموضوعات  والقضايا ،  وكذلك في  الرجال  الذين أثروا في صياغة الحياة  و صناعتها    ،  وقد أسعفتنا  تجربة  الثقافة الإنسانية  في أنها  رصدت هذا الماضي  ودونته  على شكل  أقسام  و فصول وأبواب تنسجم والحال التي  كان عليها أو فيها   . 
  وفي سجالنا المعرفي  وبحثنا عن الحقيقة  نعتبر ان  التدوين التاريخي هو المادة  التي تقربنا   للموروث  التاريخي في صيغه المتعددة وألوانه المختلفة  ،  كما أن  الكتب الدراسية في المعاهد  والجامعات  تعتمد في الغالب  على التدوين  بإعتباره  سجلاً  للماضي  أو  فهرستا  للموضوعات    ،   سواء  في بيان الطبيعة  المادية  للتاريخ   أو الطبيعة  المثالية  للتاريخ   ، و  إن  ما دُون فيه  كان  من أجل  تسهيل  مهمة  البحث العلمي والمعرفي    ،  فمثلاً  تاريخ  الأديان وتاريخ الأمم والشعوب  والتاريخ السياسي والثقافي والإجتماعي والإقتصادي وغيرهما  ،  إنما كُتب أو   دون بصيغة  ما  وكان    للبحوث  والدراسات  اللاحقة  الفكرية  للمدارس  المختلفة دورا  في الحكم عليه   وبيان جهتي الصواب والخطأ فيه   ، ومانعتمده   في دراستنا   هذه   ليس  على  النسخ المدونة  من التاريخ  بل مما وقع بين أيدينا ومما تعلمناه على نحو مباشر منه رحمه  الله   ،   وولهذا جاءت أحكامنا  في هذا السياق موافقة  للقواعد والشروط  الموضوعية المعتمدة في هذا الشأن  والتي ستتكشف  لا حقاً   . 
أي إن  ما  نحن بصدده  الآن  من الناحية المعرفية   يمكننا إعتباره  أو  تسميته    (  بالتدوين الأولي )    لشخصية الراحل  ومراحل تطورها وتكوينها    ،    مع التأكيد منا بأن ذلك يكون   على نحو  مستقل   ،  وسوف  نبرز  من خلال  الحلقات القادمة   ذلك عملياً   والحاجة أو الأهمية   من  قراءة ودراسة  أخبار  الراحل  الكبير  وتأريخه  ،  نقول  هذا في سياق  وعينا  التاريخي  أو من  جهة وعي التاريخ  نفسه  ،     بمعنى إننا سنستعمل  الأدوات  الفكرية والمعرفية الرائجة   لجهة التوضيح  لمن يجهل حياته  هذا أولاً  ،   وثانياً  للتوقف مع  من يرغب في كشف وبيان  المحطات المثيرة في حياته  رحمه الله    .     
وثالثاً   :   شعرت  من خلال جملة الرسائل  التي وردتنا   من  البعض  أنهم  يسألون   بعفوية  وصدق مدفوعين   بحاجة  مجردة   للمعرفة   ،  فكان لا بد  من الأدلاء ببعض التوضيحات  لما يستحقه المقام من شرح وبيان   ،   ورابعاً   :  إن  حياة الراحل الكبير من جهتنا  تستحق التسجيل والتدوين   ،   لفهم  طبيعته  الفكرية والإيمانية  والوطنية   وفهم  طبيعته  الإنسانية  وتجاربه  الجديرة  بالتدوين  والتعريف    ، وقد يقول قائل :   وهل تصح المقارنة بينه وبين من عاشوا  زمنه  أو  في  مرحلته من علماء ومفكرين وقادة سياسين ؟   ،   نقول  :  المقارنة   تكون صحيحة   إن كان  يُراد منها  بيان  الواقع  ،  أو يُراد منها رسم  المسار والخط  الذي  كان ينتهجه  وما كان  عليه  والخط الذي عليه الأخرين ،  وهنا تكون المقارنة واجبة ومطلوبة   ،   فشخصية الراحل رحمه  الله   كانت تركز على مجموعة القيم  الإنسانية والسماوية  ، وكان في حديثه دائماً  يركز على مفهوم العدالة المنصوص عليها  بالكتب السماوية والقوانين   الإنسانية   وفي  صيغتي الأمر والصفة   ،  وهو يرى أن تشكل الدولة الناجحة  قوامها   العدل   الذي يسبق المنادات  بالأشياء الأخرى  ،  ويجد في ذلك تكريس لدور الإنسان المواطن  من غير توصيفات تابعة ولا حقة   ،  بهذا الإعتبار تصح المقارنة مع مفكرين تاريخين وفلاسفة نهضويين   ،  هذا بملاحظة ان الراحل لم يقصي الحاجة إلى وعي المستقبل من وحي تجارب الأمم والشعوب المختلفة  ،  ولا ضير عنده في التلاقح  الفكري  والعملي  مع المختلفين  طالما يجعل من الحاجة البشرية للحياة الحرة العادلة ممكنة ومتصورة  . 
وخامساً  :   نقطة الإرتكاز  في فهم شخصية الراحل الكبير  هو في إصراره على ان النجاح مرتبط  بالتنظيم الدقيق لشؤون الحياة   ،  وهو يرى في ذلك حافزا  لتطور ترتيب وإنتظام المجتمع الناجح    ، من هنا كان يرى رحمه الله إن ذلك لا يكون ممكناً في ظل  سيادة  الجهل و النزعات الضيقة   ،  ولهذا  وجه ورعى  بشكل مباشر في  دعم التعليم  المجاني  لجميع الفئات والمراحل  ،  كذلك طالب بجعل التأمين الصحي من جهة الدولة لكافة المواطنين أمراً واجباً   ،  منطلقاً في ذلك من   حماية المجتمع  من العبثية والرأسمالية ومن تجار السوء   ،  وهو يعترف بأن نشأة الطفل  في جو أسري  صالح   وتعليم صحيح   يجعل من المستقبل أكثر إشراقاً    ،   و سيجعل  من الأمة قادرة على حماية  نفسها  من التصدع والخمول   ،  وبالتالي يدفعها  للشعور بمسؤولياتها   الوطنية والأخلاقية  ،  وكان رحمه  الله  يعتبر أن  آفة  تمزيق الوطن الرئيسية  يكون من خلال الضغط   والضخ  الطائفي والمذهبي والقومي الضيق   ،  وكل ذلك   لا يخدم  أبداً   صلاح  الجانب الوطني في  مجالي  التنمية والإعمار .   
إن القيم الأخلاقية والميول الإنسانية  التي أوجدها فينا   ، كانت ترتكز  على قواعد معرفية وإيمانية  شديدة الوضوح  ،  وهذه ساعدت  في تسهيل عملية الخروج من الأزمات  ولم تتأثر بما يروج له أعداء التجارب الإنسانية الداعمة لمشروع العدالة والتحرير  ،  ففي  نهاية حقبة الستينات  من القرن المنصرم   شارك الراحل الكبير  ، في ظهور جماعة الرفض للنظم الدكتاتورية والمستبدة  ،  وكتب في ذلك رسالة  للمراجع في النجف الأشرف يحثهم على التصدي للموجات التي تكبل الإنسان العراقي وتحرمه حقه في الحياة  ،  وفي تلك المرحلة كانت تربطه  بشخصيات وازنة  منهم  بعلاقة متينة وحوار صريح    ،  جعلت منهم  مشاركاً  فاعلاً  في عملية الإعداد للإنقلاب في سنة 1969  م   .
وهكذا  كان في  بداياته  الأولى  جزءاً من  مشروع تغييري  كبير ،  كما كان   جزءاً من  تنظيم سياسي  واسع   جامع   يهدف إلى بناء دولة الإنسان   ،  التي  تقوم  على أساس العدل  والحرية والسلام .   
وخلاصة القول  في هذه المقدمة   :   إن  الكتابة  في تاريخ الراحل وسيرته   ،  تحتل عندنا مكاناً متقدماً مرموقاً   فهي بالنسبة لنا  ثقافة ومعرفة وعلم   ،  فنحن أمام رجل  يمكن وصفه   بالسياسي أو بالأديب أو بالناشط المدني   أو بالفيلسوف  الداعي إلى الحكمة والموعظة  أو بالإنسان  الكادح   الذي يعمل ويتحرك  بين الناس والجماهير      ، وهو نفسه رحمه الله   جعل من ثقافتنا  أكثر وعياً ومراعاة  لطرائق الناس البسطاء   ،  و جعل من وعينا  التاريخي  وعياً  شعبياً   بالمعنى الذي تحدث عنه ابن خلدون  ،  وتبقى  معرفتنا به  دليلنا  إلى  فهم  تاريخ وسيرة  الرجال المجاهدين  والمناضلين ،    وتشاء  الأقدار دائماً   أن لا  يطوى  من سجل تاريخ هؤلاء  ،  من دون  ذكر  مبارك  يخلد   نضالهم    ويخرجه  من    السرية والكتمان  إلى الملأ  والعلن   ،  ومع توكيد  بسيط  نضيفه  هنا  :  بأن  الإعتبارات  السياسية والإجتماعية   كان لهما  دوراً  في  جعل الكثير من عمل الوطنين  سراً  ،  ورب قائل  يقول  وتلك نعمة  لحماية  العمل وحماية العاملين    ،  كذلك  نقول  :   كان للخشية دورا  في  عدم  الكشف لئلا يضيع الحق قبل ان يبلغ نصابه   ،  ونضيف إلى هذا وذاك   ماكان يتمتع به  الراحل الكبير من حرص شديد   ،  وتواضع وتدبر   يجعل   من  قضية تدوين تاريخه   وسيرته   والإلمام   بهما  وبحياته  يحتاج للمزيد من التنقيب والبحث   . 
ملاحظة  :   كان  رحمه الله   كما نعرفه  لا يرغب بالصخب الإعلامي   والتهريج  والدعاية  ،  و التي يرغب بهما  غيره  من الأخرين  وهم كثر    ،  ولهذا كانت وصيته : –    أن لا يعرض  له  أو عنه  شيء من غير  ضبط  أومراجعة  أوتحقيق   وتقنين   –   ، وتمشياً  مع  هذا السلوك الصارم   كان  لزاماً  علينا  أخذ الحيطة والحذر أولاً   والاستأذان   من  خاصته  من أهله  وأخوته  ومحبيه  ثانياً   ،  لعرض بعضاً من  جوانب حياتيه  التي  أُخفيت  أو غُيبت  عن العامة  والناس .. 
يتبع  في الحلقة المقبلة  
راغب الركابي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here