مع عميد المقام العراقي محمد القبنجي والحوار معه في ثقافة الموسيقى !

مع عميد المقام العراقي محمد القبنجي والحوار معه في ثقافة الموسيقى ! د. رضا العطار

خلال الستينيات من القرن العشرين، كنت مقيما في المانيا، وقد دأبت على حضور حفلات الكونسرت التي كانت تقام في برلين بصورة منتظمة، ومع امتداد الوقت، تكونت عندي ملكة التخيل السمعي، فبدأت افهمها واستمتع بها، بيد اني كنت الاحظ في الموسيقات الكنائسية انغاما تحمل رنة الشرق، مما اثار اهتمامي، رغم قناعتي بان الاديان السماوية تجمعها احساسات ايمانية مشتركة وبعد اكمال دراستي، عدت الى العراق.

بدات العمل في بغداد كجراح وخصائي بامراض العيون في مستشفى الرمد نهارا وفي عيادتي الخاصة في شارع الخلاني مساء، كان الفنان العراقي الكبير محمد القبنجي أحد مراجعي العيادة – وعبر زياراته المكوكية وحلو حديثه، نشأت بيننا صداقة، وفي احدى الامسيات دعوت الاستاذ الى داري في الجادرية لاقامة حفلة غنائية عائلية ، دعوت اليها بعض الاصدقاء.

كان جو الحفلة مفعما بالاريحية والحبور، وقد جدت الفرصة سانحة للدخول مع القبنجي في حوار ثقافي موسيقي، باديا اياه توقعاتي بوجود صلة بين موسيقانا العراقية وموسيقى الكلاسيك الغربية، فأظهر لي ضيفي الكريم عدم معرفته بهذا الضرب من الفن، ورغم ذلك قلت له : ألا تظن يا استاذ بان الوشائح التاريخية في شعاب الامم في محاكاتها الحضارية قد اوصلت موسيقانا الى الغرب ؟ لكنه لم يجب على ملاحظتي بل نظر اليّ مستفهما.

قلت للأستاذ انا اقترح، لو سمحت، ان تتفضل وتستمع الى مقطوعة موسيقية غربية لنسمع رأيكم فيها، وافق الاستاذ على مضض. ماذا تقول ؟

كان اسم المقطوعة (براندنبرغ)، وعنوانها (ابتهال) وهي موسيقى كنائسية للموسيقار الالماني باخ، ولم اخبره بعنوانها عن قصد ـ ـ فاصغى القبنجي اليها برفاهة السمع برهة، ثم رفع رأسه ونظر اليً منفعلا وقال : دكتور هاي، ابتهالات

قلت لضيفي الكريم لقد استبشرت خيرا يا استاذ، ان ما صرحت به الان هي عين الحق، واستطردت قائلا: من الواضح حضرتك تتواضع امام عبقريتك وتقدير ثقل موهبتك الفنية، فهي في الحقيقة اوسع واعم مما جنابك تعلم !

ولم يمض وقت طويل حتى وجدت في كتاب (الحرية والطوفان) للكاتب الكبير جبرا ابراهيم جبرا العبارة التالية : ان الموسيقى الكنائسية التي كانت تعزف من قبل يوهان سبستيان باخ في المانيا ابان القرن الثامن عشر قد بُنيت على قواعد، فيها شبه شديد بقواعد الموسيقى الشرقية، فالقاعدة الرئيسية في تركيبها هي التكرار والتردد والترادف الموسيقي، طبقا لما هو موجود في مقاماتنا العراقية

وزيادة على ذلك ما جاء في كتاب (اسرار الموسيقى) للباحث العراقي

علي الشوك، حيث يقول :ان جذور تهليلة الهللويا اي ـ الحمد لله ـ التي تحويها مقاطع من الموسيقي الكنائسية في الغرب، لها علاقة بالتهليلة البابلية

فهنا تحول الشك عندي الى يقين.

فكان سروري بهذه الانعطافة الفنية سرورا عظيما.

الدكتور رضا العطار

2022 واشنطن عام

.

في احدى الأمسيات من عام 1974 دعوت الصديق محمد القبنجي الى داري في الجادرية مع جمع من المحبين لأحياء حفلة غنائية في مناسبة عائلية كان الضيوف مغتبطين لوجود القبنجي بينهم و المتصف بحلو المعشر وعذب الحديث وحضور النكتة، وقد انشغلوا معه في سرد الملاطفات الاجماعية، حينما حان الوقت توقفوا وعم السكون، فاستهل الاستاذ بالغناء واخذ اللحن الجميل ينساب رخيما طريبا صافيا، وقد تجلى لحنه بروعة الاداء وسحر النغم فأستقبله المتسامرون بالاستحسان والتمجيد والتصفيق.

لقد اتاح حضور الاستاذ القبنجي في داري فرصة للدخول معه في حوار يدور حول الثقافة الموسيقية وتاريخها، فطرحت عليه السؤال التالي :

هل تعتقد يا استاذ بان هناك صلة نغمية بين الموسيقات الشرقية والغربية ؟ علما اني من الشغوفين بموسيقى الكلاسيك ، استمع اليها بصورة شبه دائمية !

فأظهر لي ضيفي المحترم عدم شغفه بهذا الضرب من الفن، ورغم ذلك قلت له : ألا تظن يا استاذ بان الوشائح التاريخية في شعاب الامم المختلفة في محاكاتها الحضارية قد اوصلت موسيقانا الى الغرب ؟ لكنه لم يجب على سؤالي بل نظر اليّ مستفهما. . . غير اني طلبت منه لو تفضل واستمع الى مقطوعة موسيقية كلاسيكية، (لكي اعلم مدى تحسسه بأنغامها)، فوافق الاستاذ على مضض.

كان اسم المقطوعة التي عُزفت (براندنبرغ) وعنوانها (ابتهال) وهي موسيقى كنائسية للموسيقار الالماني الشهير باخ، ولم اخبره بعنوانها عن قصد ـ ـ فاصغى المرحوم القبانجي اليها برفاهة السمع للحظات معدودات، ثم رفع رأسه ونظر اليً منفعلا قائلا : دكتور هاي ابتهالات وتضرع

فرحت كثيرا عندما اكد لي الاستاذ هذه الحقيقة، هكذا تحول الشك عندي الى يقين والذي يقول بوجود وشائح فنية موسيقية مشتركة بين العالمين. الشرقي والغربي وقد اعلمت الاستاذ بصواب رأيه مهنئا اياه، كما واكبرت فيه مواهبه الفنية العالية مشيرا عليه بان سعة قدراته الابداعية هي اعمق مما هو يعلم. وقد شكرت الاستاذ على مساعدته اياي للوصول الى هذه الحقيقة التاريخية.

وزيادة في التأكيد اورد بان الكاتب الكبير جبرا ابراهيم جبرا يذكر في كتابه (الحرية والطوفان) بان الموسيقى الكنائسية التي كانت تعزف من قبل يوهان سبستيان باخ في المانيا ابان القرن الثامن عشر قد بنيت على قواعد، فيها شبه شديد بقواعد الموسيقى الشرقية، فالقاعدة الرئيسية في تركيبها هي التكرار والتردد والترادف الموسيقي، طبقا لما هو موجود في مقاماتنا العراقية،

وكما جاء في كتاب (اسرار الموسيقى) للباحث العراقي علي الشوك : ان جذور تهليلة هاللويا اي الحمد لله الكنائسية لها عرقة بالتهليلية البابلية.

فكان سروري بهذه المعلومات عظيما.

وعند انتهاء الحفلة ومغادرة الضيوف جلست في ركن ركين من قاعة الجلوس افكر مع نفسي في القدرات الفنية لهذا الرجل طويلا بعد ان غدا احد افذاذ عصره، واعتقدت بان موهبة القبنجي الخارقة لم تكتسب عبر منجزاته الابداعية طوال سنوات حياته الفنية فحسب، انما هي متأصلة فيه فطريا وإلا فكيف يمكنه من ان يتحسس بالأنغام الأجنبية وهو لم يغادر ارض وطنه ؟.

لقد نقل الاستذ القبنجي طقوس المقام من المقاهي الى قاعات كبيرة يؤمها رواد محبي المقام والموسيقى منذ نهاية الاربعينيات، اضافة الى ذلك مساهماته الفعالة في احياء الحفلات في الاذاعة العراقية منذ تاسيسها عام 1936

كان له الدور الاول في ادخال بعض النغمات، مثل الحجاز والبيات في مقام الاورفه مع احتفاظه بالطابع البغدادي في الاداء والزامه بقواعد اللفظ والتعبير الى جانب مهارته الفائقة في التصرف والانتقال من مقام الى اخر بكل اقتدار.

فالاستاذ محمد القبانجي، فنان مجدد، ابتدع مقامات مثل القطر وطور الحويزاوي المنتشر في جنوب العراق وخاصة في محافظة العمارة، وادخل آلات حديثة لمصاحبة التخت الشرقي في اداء المقام بعد ان كانت مقتصرة على الجوزة والسنطور والنقارة والطبلة وهي المعروفة بالجالغي البغدادي – وقد تتلمذ على يد الاستاذ القبانجي جملة من كبار القراء والمتميزين امثال حسن خيوكة وعبد الرحمن خضر ويوسف عمر وشعوبي ابراهيم وحمزة السعداوي وناظم الغزالي.

* مقتبس من كتاب حضارة العراق للباحث عادل الهاشمي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here