عفوا…. على ماذا سنفاوضهم ؟

يحكى ان احدهم كان يقص على حفيده حكاية عنترة مسهبا في شرح بطولاته ومعاركه التي خاضها وقصة حبه لعبلة… وفي كل مرة ينتهي فيها من سرد الحكاية يبادره الحفيد بالقول :- شكرا يا جدي على هذه القصة الجميلة لكن فقط عندي تساؤل ..هل عنترة كان رجلا ام امراءة ؟ فيبدا الجد المسكين باعادة سرد الحكاية من البداية على امل ان يفهم الحفيد “النجيب” ان عنترة كان رجلا وليس امراءة .
حكاية الجد والحفيد هذه تنطبق الى حد كبير على حوارات بغداد واربيل فيما يتعلق بالمشاكل العالقة بينهما .. فرغم مضي سبعة عشر سنة على تصدر هذه المشاكل المشهد في العلاقة بين الطرفين , واجراء مفاوضات معمقة حولها , ووضع مقترحات عديدة لحلها , ووجود بنود دستورية تضع خارطة طريق لحسمها . الا ان هذه المشاكل ما تزال عالقة الى يومنا هذا . وعند كل تشكيل حكومة تبدا الوفود الكوردستانية بزيارات مكوكية الى بغداد , تتباحث مع الطرف الحكومي حول تلك المشاكل من “الفها” الى “يائها” , تفضي في نهاياتها الى لا شيء , والحلول الجزئية التي يتم الاتفاق عليها لا تلتزم بها بغداد سوى لشهر او شهرين , لتبدا بعد ذلك بممارسة سياسة التسويف والمماطلة , ثم التنصل كليا حتى عن الحلول الجزئية تلك , فلا يكون امام الاقليم الا انتظار انتخابات جديدة تشكل على اساسها حكومة جديدة ليبدا رحلة مباحثات جديدة تبدا من “الالف” وليس من “الياء” التي وصلت اليها مع الحكومة السابقة , وتتقاطر الوفود الكوردستانية على بغداد وتتفاوض ويعاد سيناريو الحلول الجزئية المؤقتة التي لا تلبث ان تتوقف … وهكذا نظل ندور في حلقة مفرغة من الحلول التي لا تؤدي الى نتيجة مع بغداد .
المتابع لتاريخ العراق المعاصر يلاحظ ان الحكومات العراقية استمرأت سياسة التسويف والمماطلة فيما يتعلق بالملف الكوردي منذ خمسينات القرن الماضي كل مرحلة بما يتناسب مع ظروفها , ولم تشذ عن ذلك حكومات ما بعد الالفين وثلاثة , وقد يكون سبب مرض التسويف المعدي هذا عند حكومات العراق المتعاقبة هو الايدلوجيا التي تتبناها سواء كانت عسكرية او قومية او اسلامية . وان كانت هذه السياسة اضرت بكوردستان , فان مجريات الاحداث اثبتت ان هذا التسويف والمماطلة لم تصب يوما في صالح حكومات بغداد ايضا , وعليه يجب البحث عن دواء يقضي على هذا المرض المعدي للحكومات .
نتصور انه كان بالامكان قبل تشكيل الحكومة الحالية منع بغداد من اللجوء الى هذه السياسية , خاصة انه كان امام الاقليم سنة كاملة كان يستطيع فيها التباحث حول النقاط التفصيلية للمشاكل العالقة مع الطرفين الشيعيين اللذان كانا يتنافسان على تشكيل الحكومة متمثلين ب”الاطار” و “التيار” بغض النضر عمن يفوز منهما. فقد اثبتت تجارب الاقليم مع الحكومات المتعاقبة في بغداد بعد الالفين وثلاث , ان الاتفاق على خطوط عريضة لحل المشاكل العالقة قبل تشكيل كل حكومة تدخل بعد تشكيل الحكومة في نفق التنفيذ والتفاصيل , ثم تدخل في نفق اخر وهو التفسيرات القانونية المؤولة لكل اتفاق , ثم نفق ثالث وهو موقف البرلمان , لتتصنع الاطراف الحكومية بعدها نزول وحي الديمقراطية المفاجئة عليها في تركها حرية الراي لكل برلماني في الادلاء برايه حول تلك الاتفاقيات , وما نشهده حاليا من وجود شكوى برلمانية الى المحكمة الاتحادية حول حصة كوردستان من الموازنة ما هو الا بداية لهذه الانفاق الثلاث .
ان ما دعم موقف الحكومة الاتحادية في الضغوطات التي مارستها على الاقليم هو المواقف المرنة لاقليم كوردستان ازاء القرارات التي تصدرها المؤسسات الاتحادية حول تلك المشاكل , فبعد ان كانت مثلا حصة كوردستان 17 بالمئة من الموازنة الاتحادية تمكنت بغداد من تخفيض هذه النسبة الى 14% , ثم الى 12% , لتستقر بعد ذلك على 200 مليار دينار عراقي شهريا , والتي لا يتم الالتزام بارسالها بشكل منظم , وتعامل الاقليم مع محاولات بغداد هذه كواقع حال عليه التعامل معها كما هي . وبدلا من ان يكون التفاوض الحالي حول نسبة 17% اصبح التفاوض حول الالتزام بارسال مبلغ الميئتين مليار دينار . كذلك في ملف مدينة شنكال الذي جرى تعقيده من خلال التنسيق بين طرف اقليمي وجهات حكومية ومنظمات مسلحة غير عراقية , يضطر الاقليم حاليا الى التعامل مع تداعيات ذلك التعقيد , وليس مع اصل مشكلة المناطق المتنازع . وهكذا استطاعت بغداد تخفيض سقف المطالب الكوردستانية بشكل يضطر الاقليم من خلاله التفاوض حول السقف المنخفض بدلا من السقوف التي كانت تتفاوض عليها سابقا .
بالرجوع الى حكاية عنترة والجد والحفيد ..لو ان الجد وضع الحفيد امام الامر الواقع وافهمه بان عنترة رجل لما اضطر الى ان يعيد عليه نفس الحكاية مرات ومرات ..
ان الحقوق المشروعة لكوردستان دستوريا وقانونيا وانسانيا جديرة بان يغير الاقليم من قواعد اللعبة السياسية مع بغداد , في ان يضع الاطار امام الامر الواقع في الالتزام بالتعهدات التي قطعها على نفسه في مباحثات تشكيل الحكومة . فبدلا من قيام الوفود الكوردستانية بزيارات مكوكية غير منتجة الى بغداد , يمكن توحيد الجهود مع الطرف السني “الشريك” في الحكومة والذي لديه بدوره مطالب مشروعة من الحكومة , وخلق تنسيق عالي المستوى معه بالاتفاق معه على اما تنفيذ مطالب الطرفين ك”باكيج” واحد وبذلك نصفر المشاكل الداخلية في العراق , او الانسحاب غير الماسوف عليه من حكومة لم يبق من عمرها اكثر من ثلاث سنوات , سيفقدها الانسحاب “الكوردي والسني” المزدوج شرعية استمرارها . ولتقوية هذه الجبهة ينبغي ان يتبنى الطرفان ( الديمقراطي والسيادة) حل المشاكل الداخلية في البيتين الكوردي والسني لتشكيل جبهة قوية يكون هدفها ليس الاضرار باي طرف وانما الخروج من حلقة المشاكل المفرغة التي يعتاش عليها البعض .

انس الشيخ مظهر
14-11-2022

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here