كيف تجلت الليبرالية في شخصيتي ام كلثوم و طه حسين ؟

كيف تجلت الليبرالية في شخصيتي ام كلثوم و طه حسين ؟ (*) د. رضا العطار

كان الفيلسوف ابن رشد يفضل ان يكون للمفكر خطابان : خطاب للعامة وخطاب للخاصة – فان (اكثر الناس لا يعلمون)، كما يتردد دائما قي القرآن الكريم.

واقترح ابن رشد كذلك ان يقوم الحكام بعدم منع الكتب الفلسفية والفكرية – وذلك بفتح مكتبات خاصة للعلماء والمفكرين تحتوي على كل الكتب الخاصة بهم، التي لا يفهمها غير العلماء والمفكرين – وتمنع عامة الشعب من دخولها خوفا عليهم من فتنة ما لا يعرفون وما لا يفقهون.

ولكن كان ذلك النداء والتوجيه والتوجه في القرن الثاني عشر للميلاد – عندما كنا في عز النهضة العلمية والادبية خلال قروننا الوسطى – بينما كانت اوربا كلها في عز ظلام قرونها الوسطى – ثم نمنا بعد ذلك وانطفأت قناديل فكرنا وحضارتنا بنكبات سياسية متلاحقة – بعد ان دفنت حركة المعتزلة ورحيل فيلسوف العرب ابن رشد. وغزا المغول بغداد في العام 1258 م وبعد تدمير الحضارة والثقافة العربية وظهور حكم المماليك العبيد واستيلاء العثمانيين الظلاميين المنغلقين على العالم العربي – واثناء ذلك كله كانت اوربا قد نهضت من سباتها العميق وبدات نهضتها الكبرى – فكان التاريخ معها، لكنه عكس ضدنا، فنحن نمنا وهي استيقظت.

لم تكن ام كلثوم (ام الهول) مجرد مغنية ومطربة ولكنها كانت مهذبة جدا مع المؤلفين والملحنين والسميعة من الصهبجية وغيرهم، تغني لهم بادب جم بعد ان احاطت نفسها بقمم شعراء الاغاني وملحنيها، وانضم اليهم امير الشعراء احمد شوقي.

فمثلما تكون الموسيقى تأديب وتهذيب. – – – كذلك فن الغناء تأديب وتهذيب.

وكان (المعلم الثاني) الفيلسوف الكازاخستاني ابو نصر محمد الفارابي، ت 950 م وصورته الان على ورقة العملة الكازاخستانية، موسيقارا كبيرا، يؤدب ويهذب تلاميذه بالموسيقا – وهو الذي كان بعزفه الموسيقى يبكي ويضحك مستمعيه. وهو من انامهم وايقظهم، ثم ايقظهم وانامهم. ووضع كتابه الشهير والفريد (الموسيقا الكبير) – وبذا كانت الموسيقى لكل الناس، لا لفئة من الناس – – ونحن كليبراليين نسعى الى ان نصل الى كل الناس، بما نقول ونكتب، غير تاركين الساحة للدعاة الدينيين المتشددين الظلاميين – الذين خطوا الاسلام العظيم وامتطوه الى منافعهم من دون رادع او وازع.

لقد استطاعت ام كلثوم ان تصل الى كل الناس من الاستاذ الجامعي الى سايس الخيل. وكان طه حسين على هذا النحو ايضا – فكان يقرأه استاذ الجامعة ويقرأ ه ويفهمه الطالب في المرحلة الاعدادية ايضا. وكلاهما – ام كلثوم وطه حسين – كان ليبراليا، وقد قدما الى الحركة الليبرالية العربية الدفق الكثير والزخم الكبير، فكانت ام كلثوم بفنها الراقي من صوت عذب شجي الى الحان رائعة ساحرة – – وطه حسين بنور عبقريته وسلاسة اسلوبه وقوة جاذبيته – – فهل يملك الليبراليون اليوم القدرة على الوصول الى قلوب وعقل كل الناس، كما وصلت ام كلثوم وطه حسين ؟

ام كلثوم وطه حسين في مصر وفيروز في لبنان – امثلة جميلة على مدى انتشار ليبرالية الافكار والفن والا دب. – – فطه حسين على الرغم من عداء عدد كبير من رجال الدين له بحيث استطاعوا طرده من الجامعة ومصادرة كتابه (في الشعر الجاهلي) ومحاكمته – والّبوا سعد زغلول عليه الذي قال فيه، (هب ان مجنونا كتب مثل هذا، فماذا نفعل به ؟ )

وقد رٌمي الرجل بالفسوق والالحاد والعمالة لفرنسا. كما يُرمى الليبراليون اليوم بالعمالة لأمريكا – – وعلى الرغم من كل هذا ظل طه حسين يحتل مساحة واسعة من الجمهور المصري والعربي – – بل ان كثيرا من رجال الدين اعتبره مسلما مجتهدا، ربما اخطأ – وفي هذه الحالة فله اجر. فالمجتهد له اجران ان اصاب، واجر واحد ان اخطأ.

ورغم ان ام كلثوم غنت للحب المحرّم ولكأس الندامى وللهجر وللوصل وللحرمان وللعشق وللنوى وللصبابة – الا انه لم يجرؤ الكثير من شيوخ مصر على مهاجمتها ورميها بالفسوق والخروج على تعاليم الدين، وذلك بفضل ان (ام الهول) لم تسف ولم تنزل الى مستوى السوقية والرخص الحالي في الاغاني العربية الجديدة والتي وان كانت قد ادت خدمة جيدة، عندما صرفت بعض الشباب العربي عن الانتحار الارهابي وصرفتهم عن الجنس الاخروي السماوي المتخيل في مضاجعة الحور العين في الجنة، الى الجنس الدنيوي الارضي الواقعي المتمثل في فاتنات الدنيا.

ان الليبراليين مدعوون الى دراسة التجربة الكلثومية والفيروزية وتجربة طه حسين وغيره من المفكرين والادباء الليبراليين الذين استطاعوا كسب جانب عريض من الجمهور والمتلقين والمثقفين، وكانوا سببا في زراعة فسائل الليبرالية المختلفة، هنا وهناك.

* مقتبس من كتاب العرب بين الليبرالية والاصولية الدينية د. شاكر النابلسي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here