لاشيء سوى كلمات

علي علي

مما أنشد نزار قباني:
يسمعني حين يراقصني.. كلمات ليست كالكلمات
يأخذني من تحت ذراعي.. يزرعني في إحدى الغيمات

لا أظن شعبا من شعوب العالم قد سمع ماسمعه العراقيون، من خطب رنانة وتصريحات طنانة وكلمات معسولة ساحرة، ملأت أسماعه على مدار السنة في كل ظروفه جملة وتفصيلا، وكلها قطعا خرجت من أفواه ساسته ومسؤوليه لاسيما القياديون وأصحاب القرار والمؤثرون فيه. فاليوم وأمس وأمس الأول، وقبل أربع سنين، وقبلها بأربعة أعوام وقبلها كذلك… رجوعا الى عقود الدكتاتور الذي كان بطل شاشة التلفاز دون منازع، لم يبخل جميع من مسك مايكروفونا او وقف على منصة او صعد منبرا بالأخذ بأفانين الكلام، وقطعا كل كلماتهم مدروسة لغايات محسوبة، فهم ينتقون من المفردات -فصيحها ودارجها- مايصب بتحصيل حاصل فيما يرومون الوصول اليه. ولما كانت علاقة المسؤول بالمواطن هي علاقة الرأس بالمرؤوس، فإن الأخير في عراقنا الجديد وضع جميع بيضه في سلة الأول، ظانا أن من وعد يفي ومن تعهد ينفّذ ومن أقسم يلتزم، ولم يدرِ ان الذي وعد يخلف.. والذي تعهد ينقض.. والذي أقسم يحنث.
ولم يعد جديدا على العراقيين أي تصريح أو خطبة من زيد أوعبيد -فضلا عن جرار الخيط- فمضامين تصريحاتهم وخطبهم لاتتجاوز مضمون الأبيات التالية للشاعر المصري علي بن سودون، إذ يقول:
عجب عجب هذا عجبُ
بقرة تمشى ولها ذنبُ
ولهـا في ضرعهـا لبن
يبدو للناس إذا حلبوا
من أعجب ما في مصر
الكرْم يرى فيه العنبُ
والنخيل يرى فيه بلح
أيضاً ويرى فيه رطب
والناقة لا منقار لهـا
والوزة ليس لها قتب
ويكمل بن سودون أبياته بالحماس ذاته الذي يستمر به ساستنا في تصريحاتهم، حيث يرددون مايعرفه المواطن ويحفظه عن ظهر قلب، فهم يتكلمون عن الوطنية وحب الأرض والانتماء الى تربة الوطن، وهذه بديهة عند الجميع. كذلك هم يتحدثون عن الصدق والشفافية والإخلاص، وكأن هذه المفردات استحدوثها بأنفسهم في قاموس العراقيين، ولم يكن العراقيون على مدى العصور والحقب يدركون معناها، وهي قطعا من سجاياهم وخصالهم وشمائلهم منذ القدم.
كذلك لايفوت مسؤولينا وساستنا الإغداق بالكلام العذب المتبل بالآمال الواعدة لمستقبل مشرق، وهذه الخصلة يتمتعون بها جميعهم على اختلاف درجاتهم ومناصبهم جميعها، إذ يتحلى بها أرباب الكتل والأحزاب والتحالفات، والشخصيات القيادية في مفاصل البلد ومؤسساته، وكأنهم جميعا قد أدركوا أن العملية السياسية وإدارة البلد هي عملية حفظ (كليشة) وترديد بضعة مصطلحات براقة مطمئنة ليس أكثر. وقد تكون هذه العبارات أقرب الى الطلسم والغموض منها الى الوضوح والشفافية، حتى لكأنها ضرب من الوهم او السراب، يتمنطق بها قائلها لغايات في قلبه، ولغرض قد يكون بعيدا عن فحوى ماتحمله مفرداتها، من رقي ثقافي ونضوج عقلي فضلا عن الشعور الوطني، ويخيل للمواطن حينها أن المسؤول أمامه شاعر او خطيب. وفي كل الأحوال فإن الزبدة التي يخرج بها العراقيون اليوم من خطب ساستهم، هي ذات الزبدة التي يخرج بها قارئ الأبيات الآتية:
الأرض أرض والسماء سماء
والـمـاء مـاء والهـواء هـواءُ
والبحر بحر والجبال رواسخ
والنـور نـور والظـلام عمـاءُ
والحر ضد البردِ قولٌ صـادقٌ
والصيف صيفٌ والشتاءُ شتاءُ
كل الرجالِ على العمومِ مذكر
أما النسـاء فجميعهـن نساءُ
هكذا هي تصريحات أصحاب القرار في بلدنا، فهي بين هراء وترهات وأضغاث أكاذيب، وكما بدأت بنزار قباني، أختم مقالي هذا بما أنشد في ختام قصيدته:
يبني لي قصـرا من وهـمٍ
لاأسكنُ فيهِ سوى لحظات
وأعودُ.. أعودُ لطاولتي
لاشيءَ معي إلا كلمات

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here