النهر يكتم أسراره / المشهد الأول / ج3

فرات المحسن

كان الوقت النصف الأخير من شهر حزيران، ومثلما كان يفعل سابقاً، اصطحب جهاز التسجيل وصفيحة ماء بارد، وقطعة صغيرة من البطيخ وعنقود عنب، وضعهما في صندوق فليني مع قطع من الثلج. كان القارب عريضاً ثقيلاً. تقدم ووضع مقتنياته في جوف القارب ودفعه بعيداً عن ضفة النهر. هبت نسائم خفيفة باردة بعض الشيء، ولاحت في البعيد غبرة غطت السماء. تلألأ من الجانب الآخر ضوء خافت عكسته أشعة الشمس الساقطة فوق منارة جامع الإمام الأعظم المنتصبة في الطرف الآخر من النهر.المكان الفارغ يعيد لذاكرته أحداثاً كثيرة. معمل فتاح باشا، وضجيج الشباب وهم يسبحون بمرح عند الشاطئ، نادي قريش الرياضي، هناك حيث قضى وطراً ليس بالقليل من شبابه يمارس هواياته بين السباحة وكرة الطائرة. جدف مبتعدا بقاربه نحو عمق النهر، ثم عاف المجداف ليدع القارب ينزلق الهوينا مع جارف الماء، ثم مد يده والتقط جهاز التسجيل، أداره وضغط زر التشغيل فانطلق صوت أم كلثوم يصدح.

إسال روحك ..إسأل ئلبك

أبل ما تسأل أنا غيرني إيه….

كل شيء من حوله قد تغير. ذاك ما أحسه الآن، حتى جرف النهر بدا وكأنه يزحف نحو العمق باتجاه الضفة الأخرى، وبان له المنظر مشوهاً كسيحاً. طالع الشاطئ الآخر فانتابته لحظة كدر شعر معها بألم يجتاح كيانه. فكـّر بتلك الأيام حين كان يلهث ويقع مجهداً جرّاء عبوره النهر سباحة. ولكنه يعتقد الآن أن خمس دقائق ستكون كافية للوصول إلى الضفة الأخرى.في الماضي كانت هواية السباحة تتملكه وكان يحرص على جعلها مثل طقس صوفي أعتاد ممارسته. وطقسه ذاك كان له طعم مختلف، يلذ له فيه أن يكون وحيداً متفرداً. كانت أمسيات أيام الصيف لها نكهة فائقة العذوبة، ما زالت روحه مشبعة بأطيافها، تراوده كل ساعة. كان القارب بانحداره يأخذه بعيدا عن منطقته. وكانت عادته تلك لا تخلو من طرافة حين تجاوره في مسير قاربه وهدوء النهر قوارب أخرى بعض ركـّابها يعاكسونه ويناكدونه، وبعضهم يوادّه ويشاطره فرحه. صيادون وهواة رياضة ومحبّو طرب وعشاق سكينة وهدوء.

في الماضي، غالبا ما كان يخرج نحو النهر قبل مغيب الشمس. يركب قاربه ويدير جهاز التسجيل الذي يضعه فوق الحافة الأمامية العريضة للقارب، ويروح ساهماً يستمع لأغانٍ يحبها. يلامس بيديه الماء، فيشعر ببرودة لذيذة تتسلل نحو جسده، يشعر معها بنشوة فائقة تغمر كيانه. يفتح قنينة الكحول ويرتشف كأساً حادة الطعم، ويذهب متهادياً بقاربه مع مجرى الماء. يتلذذ بفرادته وينتشي بأصوات الطيور وهي تهرب نحو أعشاشها تاركة وراءها يوماً مليئاً بالضجيج والحركة. يلـّوح بيده لأصحابه الذين يقفون أو يسبحون عند الشاطئ القريب. يشعر بالغبطة والاسترخاء. يدع القارب يأخذ طريقه منساباً مع مياه النهر ويروح يطالع السماء منتشياً. في تلك الوحدة والسكون كان يحسم خياراته ومشاغله، يحاور روحه بصفاء ورضاً. ينتشي بعدها أيما انتشاء. تستمر ممارسته لطقسه اليومي الأثير أكثر من ساعتين بعدها يستدير ليعود بعد أن تغيب الشمس وتختفي بعيداً. فيتجه إلى المكان الذي أنطلق منه قرب نادي قريش. يوقف القارب ويركنه عند جذع شجرة صفصافٍ صغيرةٍ متيبسةٍ غـُرزت جذورها عميقاً في الطين، بعدها يقذف جسده المتعب من التجديف، والنازّ عرقاً وسط الماء، ويندفع ليتهادى في غمر الماء حتى الشاطئ الآخر في جانب الأعظمية. يعود بعدها والسكينة تملأ قلبه وكيانه.

كل تلك الوجوه والدعابات وملامح البنايات المجاورة يراها قد اختفت أو تغيرت. خلا الشاطئ ومثله الشوارع من البشر، وانطفأت مصابيح الشوارع ومثلها أنوار البيوت ما عدا ضوء الشمس الكسيحة التي تميل باحمرارها المختنق بالغبار نحو المغيب. شعر بالوحشة والغربة وكأنه دخل عالماً مسكوناً بالأرواح الشريرة. تلفت حوله محاولاً أن يتلمس في الجوار بعض حياة، ولكنه لم يجد غير طيور النوارس التي راحت تتعارك حول جيفة يجرفها الماء، وثمة أشواك تأتي قادمة لترتطم باللسان الرملي الذي امتد ليكوّن شبه جزيرة تخترق النهر وتضيّق مجراه. فكر بالعودة وترك النزهة ليوم آخر. ربما هذا السكون المجوف، يخفي مالا طاقة له على مواجهته. ولكنه تمالك نفسه ووجه لها تقريعاً ولوماً حادين. لمَ يتهيب الآن وهو الذي اعتاد أن يخترق الغابة الداكنة الطويلة التي يؤدي الطريق عبرها نحو شقته في منطقة سكناه في المدينة الصغيرة مولندال القابعة غرب السويد، والواقعة على الطريق الذاهب جنوباً. كان يجتاز الغابة دون أن تنتابه مشاعر خوف أو رهبة. تلك الغابة الموحشة بسكونها وكثافة أشجارها، كان يفضل أن يسلك فيها الطريق الميسمي الطويل ، دون أن تنتابه مشاعر رعب أو إرباك، منذ أيامه الأولى التي سكن فيها تلك المدينة الجميلة الوادعة،.

لم يكن هناك أثر لريح، وكانت الشمس تهبط رويداً فوق طرف السماء من جهة الغروب، والأماكن على جانبي النهر كتل صمّاء جامدة. انساب القارب نحو عمق النهر، فتركه يتهادى دون أن يبذل جهداً لتصحيح سيره. تلفت حوله بحذر وأحس بالرهبة من الفراغ المفزع الذي يحيط بالمكان، شعر بالندم يسحق روحه، فكر بالعودة وترك المغامرة، فقد أحس بمئات العيون تترصده من ثقوب البيوت المطلة على النهر، حتى طيور النهر عافت طعامها وراحت تحوم حوله. لم يشعر بطعم الفاكهة وهو يلوكها. لا شيء هناك في الأفق غير السماء الرصاصية المصفرة وهي تهوي مقتربة من سطح الماء الرجراج. طالع هيكل جسر الصرافية الحديدي الذي اقترب منه. بدا الجسر وكأنه نافذة حديدية واسعة وضع الزمن بصماته عليها ببقع صدئة داكنة ونافرة. تذكر أن الجسر كان دائماً هو خط النهاية لنزهته، وعليه أن يعود أدراجه، فجأة سمع صوت أطلاقة تخترق السكون فزع إثرها سرب عصافير. نهض واقفاً ينظر نحو مصدر الرصاصة ولكنه بوغت برشقة رصاص من المكان ذاته. أطلق صرخة تردد صداها في المكان. ارتعش جسده وانحنى شيئاً فشيئاً إلى أن هوى في قعر القارب وكانت عيناه الفزعتان تطالعان المنحنى المتشابك للجسر الذي كان ينزلق بصمت فوقه بالضبط .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here