رئيس وزراء ملاك وسوبرمان، الصورة التي أفشَلت حَراك تشرين

لماذا فشل حَراك تشرين، رغم كل التضحيات الجسيمة التي قدمها شبابه، في أن يبلور صورته لمنظومة سياسية سوية، أو على الأقل لرئيس وزراء، وأن يوجد لها تجسيداً في الواقع، سواء من بين ناشطيه، أو من بين بعض الساسة الذين تناغموا معه ومع أهدافه؟ سؤال سنحاول الإجابة عليه في هذه المقال. فبعد إستقالة رئيس الوزراء العراقي السابق السيد عادل عبد المهدي، التي جاءت بعد عدة أسابيع من إنطلاق الحراك في تشرين 2019 وإستجابة لضغوطاتها، بَرز نوعان من ردود الأفعال على الإستقالة. الأول جاء من بقية أحزاب الطبقة الحاكمة خصوصاً الدعوة وملحقاته، التي خلا لها الجو لتبيض وتصفر، وتسارع لإقتناص الفرصة التي كانت تنتظرها منذ لحظة تشكيل حكومته لإفشالها وإعادة نموذج المالكي. لذا رشحت إسماء هزيلة لرئاسة الوزراء لتكون واجهة تُحَركها كما تشاء، لكن الحراك وزخمه أفشل ترشيحها ورفض رئيس الجمهورية تكليفها. أما رد الفعل الثاني الذي يُهمنا هنا، فقد جاء مِن الحَراك الذي خرج وتظاهر وضَحّى بحياة المئات من نشطاءه للوصول الى هذه اللحظة، وكان من حقه أن يقطف أولى ثمارها. لكن غياب التنظيم والقيادة الواضحة له، أطلق العنان لخيال الكثيرين كي يتخيلوا صورة رئيس الوزراء وفق تمنياتهم وحَسب أمزِجتهم، لا حَسب ما يُلائم مسؤوليات المنصب وتحدّيات المرحلة. وكعادة الشخصية العراقية بوَعيها المُلتبس، شَطحت بخيالها الى عَشرات الصور وأرفقتها بعَشرات الشروط، فهذا يريده عسكرياً، وذاك يريده مدنياً، وثالث يريده إقتصادياً، ورابع يريده قانونياً، وسبقت التمنيات قوائم تُحَدّد مواصفاته، منها التي تضع شرطاً للعمر، وأخرى تريده من شباب الحَراك والمحسوبين عليه. الجدير بالذكر أن أغلب الشروط التعجيزية جاءت مِن مهَوّسجيّة الحَراك وجماعة على حِس الطبل في مواقع التواصل الاجتماعي، مِمّن باتوا ثورَجية أكثر مِن الناشطين، وأغلبهم من الأجيال السابقة، الذين دخلوا على خط الإنتفاضة، وأربَكوها بمُراهقاتهم السياسية التي ورثوها من أحزابهم الآديولوجية، التي عَوّدتهم على المبالغة والإندفاع في كل شيء.

رغم إختلاف صورة رئيس وزراء ما يطلبه المستمعون المتخيّلة من شخص الى آخر داخل الحراك نفسه، إلا أن الغالبية إتفقت على مسألتين تبدوان متناقضتين! فأغلب البيانات التي صَدَرت عن المتظاهرين، أو قيل هكذا، إشترطت أن يكون رئيس الوزراء من خارج الطبقة السياسية الحالية ولم يشارك في عمليتها السياسية وأكاديمي ونزيه ومستقل، أي أن يمتلك صفات ملاك! في نفس الوقت طالبته أن يحارب الفساد ويحاكم الفاسدين، ويُعَدّل الدستور ويُقِر قانون أحزاب، وأن يقضي على المليشيات ويُعيد السلاح الى يد الدولة! وهي أمور لا يقوى عليها سوى شخص يتمتع بإمكانيات السوبرمان، بل حتى سوبرمان سيفشل في تحقيق نصفها إذا طُلِبت منه مرة واحدة، فكيف بملاك ليست لديه خبرة بالسياسة! وإن وُجِدت لديه خبرة بالسياسة، فمن أين له خبرة بدهاليز سياسة ايران وأحزابها تحديداً، التي أسّسَت ورَسّخت لها قاعدة خلال 19 سنة من حكمها للعراق وهيمنتها على مقدراته! وكيف سيُمكِنه التعامل معهم وإضعاف سلطتهم ومحاسبة الفاسد والمجرم منهم! لذا في النهاية فشل الحراك، وأضاع شبابه الفرصة، التي ربما كانت الأخيرة، لإصلاح بلادهم، وضاع تعبهم وذهبت تضحياتهم سُدى، لعدم وجود شخص بهذه المواصفات، أي أن يكون ملاكاً وسوبرماناً في نفس الوقت!

كان على الشباب أن يُفكروا ببراغماتية، والبراغماتية تقول أن تحقيق مطالبهم، ومطالب كل العراقيين المخلصين، كانت تحتاج الى شخصية من الطبقة السياسية الحالية وليس من خارجها، شخصية لا هي ملاك ولا سوبرمان. شخصية واقعية تعرف خفايا هذه الطبقة، ولديها علاقات دولية يمكن أن تدعمها بمواجهتها. شخصية خبرت ألاعيبهم وبإمكانها أن تفشلها، وأن تضغط على العصب الذي يوجِعهم، وتتفاوض مَعهم بأسلوبهم الذي يفهمونه. حينها فقط كانت ستتمكن من تحقيق الحد الأدنى وربما أكثر من مطالب المتظاهرين والمخلصين من أبناء الشعب لعُبور تلك المرحلة، وتهيئة البلاد لمرحلة جديدة خالية من أغلب مخلفات وأدران المراحل السابقة لعقود مَضت، شخوصاً وأحزاباً وأفكار. الدكتور أياد علاوي والأستاذ فائق الشيخ علي هما مثال لهذه الشخصية، وقد كتبت مقالاً حول الثاني في غمرة الحراك داعماً لخطوته بالترشح لرئاسة الوزراء، أما الأول فشهادتي فيه مجروحة لكوني كتبت فيه وفي توجهه وتياره السياسي، الذي كنت أراه الأفضل للعراق، العديد من المقالات، وكنت داعماً لكتلته وقائمته الإنتخابية في ثلاث إنتخابات، لكن تآمر ايران وأتباعها وحلفائهم عليه، بتواطؤ القوى الدولية وعلى رأسها أمريكا، ضيّع على العراق فرصة التخلص من هذه الطبقة السياسية وأدرانها، ومَن وَرائها في أقبية وسراديب قم وطهران.

قد يتسائل البعض: ألم يكن السيد مصطفى الكاظمي نموذجاً لهذه الشخصية؟ والجواب “كلا بكل تأكيد”، لأنه كان أصلاً مِن هوامش هذه الطبقة السياسية وليس من قيادات صفها الأول، ولا عِلم له بخفاياها، ولا يمتلك الشخصية ولا اللباقة ولا العلاقات التي يمكن أن تساعده على مواجهتها وكبح جماحها أو القضاء عليها، لهذا هادَنها ودَشّن إدارته بزيارة أصحاب الحل والعقد فيها، وهُم مرتزقة هيئة الحشد الشعبي، وحصل على مباركتهم، لأنه كان يعلم بأنه لن ينجح بإختراق هذه الطبقة وإحداث تغيير جذري فيها نحو الأحسن، أو حتى إيقاف الخراب الذي تحدثه سياساتها في البلد وداخل نفوس أبناءه. ربما لم تشهد فترة الكاظمي تراجعاً مريعاً، لكن أيضا لم تشهد تقدماً ملموساً، وهو أمر يبدو كان مقصوداً، والأهم هو أنها

تغاضت عن نفوذ إيران، بل ورسخته، وهو غايتهم ومرادهم. فحينما بدأ الحراك، إستشعر أتباع إيران، الذين نعرفهم اليوم بإسم قوى الإطار التنسيقي، خطره عليهم، وبدئوا يرونه تهديداً لوجودهم، خصوصاً حين وصل الأمر الى طرح مجموعة أسماء لتولي منصب رئيس الوزراء، رَشّحت نفسها، أو رُشِّحت من الآخرين، حرصوا على أن يكون فيها من أتباعهم كمحمد شياع السوداني، الذي بات اليوم رئيساً للوزراء، رغم أن الحراك كان حينها رافضاً له بالأغلبية! وكان فيها من أضدادهم كفائق الشيخ علي، الذي تعَثر وصوله الى المنصب، رغم أنه كان حينها يلقى قبولاً من قبل نسبة لا بأس بها من شباب الحراك! لذا جائوا بمصطفى الكاظمي من هامش الطبقة السياسية، ليكون جسراً إصطناعياً مؤقتاً يُهديء لهم اللعب، ويعبروا به بحر حراك تشرين الذي كان حينها هائجاً عليهم، وليكون إسفنجة تمتص لهم زخمه، لأنهم يعلمون بأنه سيكون “على كد إيدهم”، بعد أن حَوّلوه من شخص هامشي الى رئيس وزراء، ولن يخرج عن طاعتهم. وفعلاً تحقق لهم ذلك، ففترته كانت هلامية، عادت لهم السلطة بعدها كالبيضة المُقشرّة، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت، وكأن الحراك لم ينطلق أساساً ضد هذه الفئة الطائفية الفاسدة التي حكمت العراق منذ 2003، وأوصلته الى الوضع الذي تسبب بإنطلاق الحراك! لكن كل ذلك بات في طي النسيان، لأن ذاكرة العراقيين ضعيفة حَد العدَم وهم يعلمون ذلك، لذا عرفوا كيف يتعاملون معها ويتلاعبون بها بأساليبهم الخبيثة التي تلَقّنوها من أسيادهم في ايران، طبعاً مع بعض أساليب الإلهاء بطقوس وروزخونيات المذهب التي لا تنتهي، وبروباغندا الخطر الذي يترَبّصه في حال زوال سلطتهم. لذا عادت أحزابهم بعدها بكل ثقة، وصَدّرت أحد أتباعها، وهو السوداني نفسه الذي رُفِض سابقاً، وأوصلته الى رئاسة الوزراء، دون أن يعترض أحد.

هذا لا يعني أنه لا وجود لمثل هذه الشخصية، رغم ندرتها وصعوبة العثور عليها ضِمن زَبَد الطبقة السياسية الحالية، فهي موجودة، لكنها نادرة، وضمن أفراد قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليَد الواحدة، ووصولهم الى السلطة بات اليوم من عاشِر المستحيلات.

مصطفى القرة داغي

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here