“الحاكم النزيه” في مقدمة ابن خلدون

عبدالمنعم الاعسم
حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه.. هذا الكلام ليس من كاتب السطور.. بل هو مُجتزأ من “مقدمة” ابن خلدون ذائعة الصيت، ولعل الذين يكتفون بهذ المُجتزأ، ولم يقرأوا تلك المقدمة كاملة يبرئون صاحب السلطة من ظنة استقطاب “المرتزقين والوصوليين” فان الاخيرين يحتشدون على بابه، أو يتزلفون له، او يحاصرونه بالشفاعات والتوسطات، لكن المؤرخ وعالم الاجتماع الرائد يفتح قوسا خطيرا في مداخلته بحيث يقترب من تحميل السلطويين مسؤولية تكريس ثقافة الاستخذاء وتشجيع الاستزلام بقوله ان المقربين بعد ذلك “يصلون له الاخبار أكذبها، ويصدون عنه الأخبار الصادقة التي يعاني منها الشعب” وترجمة ذلك ان الحاكم اصبح عرضة للسقوط في فخ التضليل، وصار على مرمى من هاوية الحكم الاستبدادية، عن رغبةٍ مصممةٍ ام عن غفلةٍ بريئة.. ثم .. كما يقرر ابن خلدون بالنص قائلاً: “يقلب (الحاكم) توجسه وغيرته على شعبه إلى خوف على مُلكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة”.

ولا تبرئ تجارب الازمات المجتمعية الحكام من ذوى الماضي النزيه والمخلص من مسؤولية الانزلاق الى الاستبداد، ثم الفساد، ثم الطغيان، حين يحل المحذور وتعم المفاسد، ولم تلقي بالمسؤولية على الحاشية إذْ يصبح الحاكم وحاشيته، معاً، واجهة النظام وهويته وشكل سلوكه، اخذا بالاعتبار ان السلطة نفسها تخلق حواجز ادارية وسايكولوجية بين الحاكم والجمهور، وتغريه بالعزلة والاطمئنان الى غش المرآة وبُعدها الثالث الايهامي، والى تلفيقات الصناعة الاعلامية الموالية، والكفاية بما تقدمه الحاشية من سجادة زاهية لأوضاع البلاد.

الى ذلك، وحتى الان، نحن نتحدث عن الحاكم الذي جاء الى سلطة القرار بسيرة خالية من الطعون، وربما بعزمٍ على أنْ ينآى بنفسه عن مفاسد الحُكم واغواء الطغيان، ثم يجد نفسه داخل حاشية مدرّبة على اختراق حراسات النزاهة والنيات الطيبة، اما الاشخاص الذين يصعدون الى موقع ادارة الدولة من بيئة الفاسدين والمستبدين فانهم يباشرون الحكم بسياسات مبهمة، واشارات مخاتلة، ووجوه لا تفصح عن نية واضحة، ويذهب الخبير الطبي الامريكي في دراسة عقول الحكام المستبدين الى “إنهم كذابون، ساحرون وأذكياء” ويضيف “أن الشخصية المستبدة غالبًا ما تكون متعطشة للسلطة تعاني من اضطرابات نفسية حقيقية، كما تجمعهم السادية والنرجسية وجنون العظمة والغموض”.

اقول.. وهكذا، فان تاريخ العراق السياسي المعاصر كان، وخلال ثلاثة عقود من الزمن، مختبرا (لا تخطئ نتائجه) لحكام من اجناس ومنحدرات وولاءات وانتماءات مختلفة، متضاربة، متشابكة، لكن تجمع اكثرهم دكتاتورية ولصوصية وصفاقة نهاية واحدة: المزبلة.. وبئس المصير.

استدراك:

“لقد توصلت الى نتيجة .. ان السياسة مـوضوع أخطـر بكثير من أن نتركه للسياسيين”.

شارل ديغول

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here