دروس اجتماعية في تفسير القرآن الكريم
دروس اجتماعية في تفسير القرآن الكريم


بقلم: يلقيها الدكتور علي رمضان الأوسي - 28-10-2016
[email protected]

نظام العلاقات الاجتماعية

الوعد والوعيد

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)([1]).

تحدثت الآيات السابقة عن جانب من أحوال المنافقين وفئاتهم والعقوبات التي تنتظرهم.

مصائر مؤلمة:

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) ألم يبلغ المنافقين خبر الأمم السابقة الذين هلكوا بفعل عصيانهم وكفرهم؟

ولم تذكر الآية لفظة (نبأ) بصيغة الجمع حيث انها تتحدث عن مصير واحد مشترك وهو الهلاك لكل هذه الأمم السابقة وان تعددت طرق الاستئصال لهذه الأمم:

1-قوم نوح: أهلكوا بالغرق والطوفان.

(وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية)([2]).

(ولقد أرسلنا نوحاً الى قومه فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)([3]).

2-عاد: أهلكوا بالريح.

(وفي عاد اذ أرسلنا عليهم الريح العقيم)([4]).

(وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية)([5]).

3-ثمود: أهلكوا بالصيحة والزلازل.

(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون)([6]).

(فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية)([7]).

4-قوم ابراهيم: أهلكوا بسلب النعمة والملك كما حصل للنمرود الذي واجه النبي ابراهيم (عليه السلام) بكل قساوة لكن الله سبحانه أذله وأماته بمرض كانت الذبابة قد سلبت فيه عزته وجبروته، ومات النمرود وانتهت تأثيراته على الرعية المستضعفة.

5-أصحاب مدين: أهلكوا بعذاب يوم الظلة الذي وقع على قوم النبي شعيب (عليه السلام):(فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الضلة انه كان عذاب يوم عظيم)([8]).

6-المؤتفكات: وهو قرى قوم لوط (عليه السلام) أهلكوا بالخسف وصار عاليها سافلها: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوان يفسقون)([9]).

فهذه الامم السابقة كفرت وعصت ربها فحلّ عليها العذاب، ألمْ يأتِ المنافقين أنباء هؤلاء الأقوام؟ الذين (أتتهم رسلهم بالبينات) بالمعجزات فكذبوهم، ولم يكن إهلاك الله لهم عن ظلم وانما كان جزاء لأجرامهم وظلمهم أنفسهم بهذه المعاصي. فلا يأمنن هؤلاء المنافقون من أمثال هذه المصائر.



نظام المؤمنين والمؤمنات:

تصف الآية المباركة 71 من هذه السورة المؤمنين والمؤمنات: بـ:

1-(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ): في النصرة والتأييد فيلي أحدهم الآخر في إدارة أموره إن غاب وفي نصرته وتأييده ان احتاج بينما الآية 67 من هذه السورة وصفت المنافقين (بعضهم من بعض) من غير ولاية، وانْ تناصروا فيما بينهم أحياناً فأنها محكومة بمصالحهم الضيقة.

2-(يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) يدعون الى كل جميل ينفع الناس ويرضي الله سبحانه وينهون عن كل قبيح يسخط الله سبحانه.

3-(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) فالمؤمنون يؤدون صلاتهم على اكمل صورة بخلاف المنافقين وهكذا أداؤهم للزكاة يدفعونها الى مستحقيها من الاصناف الثمانية، على عكس المنافقين الذين تصفهم الآية (ويقبضون أيديهم) فلا ينفقون أموالهم او لا يعطونها الى مستحقيها.

4-وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وهذه صفة أخرى في المؤمنين والمؤمنات وهي الاستجابة لما يأمر به وينهى عنه الله ورسوله، بخلاف المنافقين اذ تصفهم الآية (ان المنافقين هم الفاسقون) الخارجون عن طاعة الله ورسوله.

5-(أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) وهذا نوع من الفيض الالهي على المؤمنين بخلاف المنافقين اذ تعبر الآية عن جزائهم: (نسوا الله فنسيهم) من رحمته.

فهذه مقابلات واضحة في التمييز بين طائفتي المؤمنين والمنافقين حددتها الآيتان 67، 71 من سورة التوبة. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).



الوعد الالهي للمؤمنين:

وعد الله المؤمنين والمؤمنات بتفاصيل من رحمته بالمؤمنين يوم القيامة:

(جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) اي من تحت أشجارها (خَالِدِينَ فِيهَا) يتنعمون بها دائماً، (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً) منازل في الجنة طيب عيشها وهذه المنازل واقعة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)، خاصة بالمقربين (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) رضا الله هو الغاية فمن رضيهُ كان بعيداً عن سخطه يوم الحساب (سأحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)([10]).

وذلك هو الانتصار العظيم الذي ليس بعده سعادة أخرى.

أذ الله يخاطب اهل الجنة (هل رضيتم)؟ واي فوز أشرف من رضا الله سبحانه.

ويمكن مقابلة هذا الوعد الالهي للمؤمنين بالوعيد الالهي للمنافقين في الآية 68 من هذه السورة، نعم، وعيد بالخلود في نار جهنم تكفي للقضاء عليهم وهم ملعونون في عذاب دائم.



خطاب التعامل مع الكفار والمنافقين:

الآية 73 من سورة التوبة تأمر الرسول (صلى الله عليه وآله): (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)، والجهاد هنا بمراتبه الثلاث: اليد واللسان والقلب، فلم يتعامل الرسول (صلى الله عليه وآله) مع المنافقين باليد والسيف لأنهم يظهرون الايمان فيحظون عادة بامتيازات الحماية القانونية حيث روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)([11]).

لذا المنافقون يواجَهون بالتوبيخ والاهانة والتحقير لعلهم يرجعون الى رشدهم بخلاف الكفار الذين أعلنوا الحرب على الدين فانهم يواجهون بالقوة واساليب الردع المباشر. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) اي اشدد على الكفار بما تتمكن من اساليب الجهاد في الدنيا وعلى المنافقين زد عليهم من اساليب التوبيخ والتحقير. وفي الآخرة مأواهم جهنم وبئس هذا المكان. وقد نزلت هذه الآية المباركة في أعقاب الانتصارات الميدانية المتلاحقة، وبعد العودة من (تبوك)، وهذا يعني توفر المزيد من العزة الاسلامية وقدرة المسلمين على مواجهة الاعداء حتى يُسد الطريق عليهم ان بقوا على حالة المواجهة.

المنافقون يتآمرون:

وردت روايات عدة حول المنافقين اثناء (تبوك) وبعدها، فمنهم من لمز قدرة النبي (صلى الله عليه وآله) على مواجهة الروم، ومنهم من تآمر على قتل النبي في عقبة الطريق وقد نجاه الله منها، وغيرها.

ومنها ان الجلاس بن سويد بن الصامت قال: ان كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شرّ من الحمير ثم حلف على إنكار هذا القول أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى نزلت الآية 74 من هذه السورة تفضحه (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ).

فكلمة الكفر هنا تنطبق على ما قاله الجلاس، وما روي كذلك عن ان ابن سلول رأس النفاق حكى القرآن عنه حين توعد: (لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل) وهكذا ينكرون لاحقاً ما قالوه بعد افتضاح أمرهم وظهور الدين وتعاظم قوته.

(وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ) لعلها تشير الى حادثة العقبة حين تأمر عدد من المنافقين على تنفير بعير النبي (صلى الله عليه وآله) إذ كان يقوده عمار بن ياسر ويسوقه حذيفة بن اليمان، وافتضح أمر أولئك المتآمرين كذلك وفرّوا وقد عرفهم الرسول (صلى الله عليه وآله).



التفاتة قرآنية:

(وما نقموا الا ان أغناهم الله ورسوله من فضله)

فهؤلاء تنعموا بنعمة الاسلام واستمتعوا بالغنائم وحصلوا على الكثير (أغناهم) بعد ان كانوا محتاجين لكنهم بدل ان يشكروا راحوا ينقمون ويتآمرون.



التوبة باب مفتوح:

ولم يسدّ الله سبحانه عليهم باب التوبة حتى على (الجلاس بن سويد)، وقال الجلاس: استثنى الله لي التوبة فقبل رسول الله توبته، بعد ان اعترف بقوله الشائن الذي أنكره سابقاً (فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ).



المنافق قد يتحول الى كافر:

حين لا يعترف المنافق بذنبه ولا يتوب عنه ويتولى وينصرف بغرور ذنبه ويصرّ على نفاقه يقع عليه عذاب أليم في الدنيا والآخرة، ومن صور العذاب الاليم في الدنيا ما يقع على الكافر من اساليب الجهاد الشاقة (وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) حيث لا ناصر لهم ولا أولياء يدفعون عنهم هذا العذاب في الدنيا والآخرة.



إضاءة اجتماعية:

الانحراف ومعصية الله سبحانه ومعارضة الاديان كلها حالات وظواهر تتكرر ولا تشكّل مرحلة محددة، فالقرن الواحد والعشرون تسوده جاهليات أشد بؤساً من جاهلية ما قبل الاسلام فكل هذه الحلقات تشترك في اسباب وبواعث مشتركة وتنتهي الى مصائر موجعة متشابهة، فالقرآن الكريم يذكّر طابور المنافقين بما حلّ بالامم السابقة التي عصت وكفرت من قبل كقوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم واصحاب مدين وقوم لوط وهكذا تتنوع العقوبات ولا تستثني احداً الا من رحمه الله (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب)([12]).

وفي هذه المشاهد تبرز طوائف عدة واتجاهات قد تتناقض فيما بينها منها (طائفة المؤمنين والمؤمنات) و (طائفة المنافقين والمنافقات).

ولكل منهما نظام ينتظمون فيه لكن عرى النظام الايماني اشد وثاقة واقوى اخلاصاً لذا عبر عنه القرآن بالكريم: (بعضهم أولياء بعض) بينما الطائفة النفاقية لا تتمتع بهذه الخصوصية.

وقد وعد الله المؤمنين خيراً وتوعد المنافقين شراً فشتّان بين العاقبتين.

وما إنْ قوي للاسلام عود وتمكّن من الانتصارات على اعداء التوحيد كان خطاب التعامل مع الكفار والمنافقين مغلظاً لا يتسامح مع من يصر على الكفر او النفاق بينما يفتح الباب للتوبة لمن اعتذر عن خطئه وأناب الى ربّه.

ولم يترك الله سبحانه عباده المخلصين أمام تآمر هؤلاء الاعداء فكان الوحي يخبر الرسول بما يخطط له المنافقون، وهذه النصرة والتأييد الالهي لا يتوقف بل للمؤمنين الصادقين مع ربهم تأييد مستمر ومعيّة الهية تحفظهم من مكر الاعداء ونفاقهم وكفرهم.

ولسماحة الاسلام الكبرى تراه في احلك الظروف وأشد المؤامرات على الحق يبقي باب الرجاء والتوبة والانابة مفتوحاً أمام الخاطئين والعصاة والمتمردين لان الهدف هو ايصال نور التوحيد والمعرفة الى الناس وليس الهدف هو القتل او الاقصاء فقد تستخدم احياناً كأساليب ردع.



دروس اجتماعية مستفادة:

1-تنوعت العقوبات على الامم الست التي ذكرها القرآن الكريم ما هي وهل كانت عذاب استئصال؟

2-قوم ابراهيم (عليه السلام) استحقوا العقوبة فسلبهم الله النعمة والملك كيف فهمنا ذلك؟ علماً ان القرآن الكريم لم يشر الى جزئية العقوبة فيهم.

3-كيف قابلت الآيات الخصائص والصفات في طائفتي المؤمنين والمنافقين وكذلك الوعد والوعيد بحقهم؟

4-لماذا لم يقاتل الرسول (صلى الله عليه وآله) المنافقين بينما قاتل الكفار ومتى يمكن ان نقاتل المنافقين؟

5-المنافقون يلجأون للتدليس والافتراء والايمان الكاذبة ويفضحهم القرآن الكريم بنزول نص قرآني. كيف يمكننا التعرف على معالم جرائمهم من خلال الاوصاف التي نعتوا بها؟

6-التوبة باب مفتوح ما علاقة ذلك بالسلم والسلام الذي دعا اليه القرآن الكريم؟

7-قد يتحول المنافق الى كافر حربي. متى وكيف؟







([1]) سورة التوبة: 70-74.


([2]) سورة الفرقان: 37.


([3]) سورة العنكبوت: 14.


([4]) سورة الذاريات: 41.


([5]) سورة الحاقة: 60.


([6]) سورة فصلت: 17.


([7]) سورة الحاقة: 5.


([8]) سورة الشعراء: 189.


([9]) سورة العنكبوت: 34.


([10]) حديث شريف راجع تفسير الطبري.


([11]) مسند احمد 2/277.


([12]) سورة الانفال: 25



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google