احتفاءً بالشاعر والناقد علي الفواز
احتفاءً بالشاعر والناقد علي الفواز


بقلم: د. سمير الخليل - 15-11-2016
شهدت قاعة الجواهري في مقر اتحاد الادباء والكتاب في العراق، يوم الخميس السادس من تشرين الاول 2016، جلسة احتفاء بالشاعر والكاتب والناقد المعروف على حسن فواز، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد.
وقد شارك حشد من المثقفين، ادباء وفنانين وكتابا واكاديميين واعلاميين، في الجلسة التي دعت اليها الجمعية العراقية لدعم الثقافة، وافتتحها رئيسها مفيد الجزائري مشيدا بالمحتفى به " الحاضر في كل فعل ثقافي تقريبا، وبضمنه فعاليات تكريم المبدعين، والسخي في كتاباته وتحليلاته ومعالجاته الثقافية المتنوعة، التي تحتفظ بعمقها ورصانتها على رغم غزارتها".
ادار الجلسة د. علي الحداد، الذي تحدث عن سيرة المحتفى به وعن عطائه قبل ان يدعو المتحدثين، الذين ننشر في ادناه مساهماتهم كاملة او مختصرة قليلا بسبب ضيق المساحة المتاحة.

علي الفواز .. الايقونة الثقافية العراقية

على الفواز ايقونة ثقافية عراقية ورمز من رموز الثقافة الوطنية، صافٍ لا يداجي ولا يجامل على حساب حق او وطن او انسان، مثقف بالثراء الثقافي ومشع بروح التسامح والتعايش المشترك والمحبة، مدرك لما يقول، ويمتلك ادوات التعبير عن الواقع والذات والانسان العراقي بلغة محببة ومفردات "فوازية" بامتياز.
على الفواز هو الواحد المتعدد ثقافة وابداعا، فهو المثقف الانساني المتسامح والمفكر المتوازن المتعقل والناقد الذكي والشاعر الرقيق الممتليء بالحب والجمال والتجدد، وهو الانسان المخلق الودود المحبوب المفتوح القلب المحتضن حتى خصومه صاحب ضمير حي. واني لأشعر بالعجز حقا حينما اتحدث عن قامة عراقية كبيرة مثل علي الفواز، اشعر كمن ينقل الماء بغربال.

علي الفواز الناقد

على الرغم من ان قناعات علي الفواز بالنقد الادبي بدأت تتغير، لشعوره ان نقد الادب ما عاد الوجه الاكثر تعبيرا والاهم تاثيرا في واقعنا الثقافي، وعلينا ان نتجاوز محطة النقد الادبي الى محطات اخرى اكثر ثراء وتأثيرا حياتيا. وهذا ما صرح به اليّ بعد تغيير النظام بسنوات ونحن نجلس في مدينة السليمانية على سفح جبل فيه متنزه جميل، وكان القمر يتسلق قمم الاشجار الندية، قال لي اصبحت الثقافة والفكر هما موطن التغيير والتطور. ومنذ ذلك الحين او قبله بقليل بدأ علي الفواز ينحاز الى الكتابات الفكرية ذات النزعات الثقافية والسياسية، اما انا فاختزنت نصيحته واتجهت الى حقل اكثر اتساعا وحرية يجمع النقد بالثقافة ويوائم نزعتي الاكاديمية فاتجهت الى حقل "النقد الثقافي" بانفتاحه الثقافي الشمولي على كل التخصصات والعلوم الاخرى والاتجاهات الفكرية، فعوضت ما فاتني من نصيحته ولكني بقيت وفيا للنقد الادبي ولم استطع تجاوزه مثلما هو فعل.
علي الفواز ناقد يتقن لعبة النقد جيدا ويدرك اسرار النص الادبي بذكاء نابه، ويتعامل معه بقدرات تحليلية ليست هينة. وباستطاعتي ان الخص موقفي من علي الفواز الناقد في كونه الناقد الذكي النابه المتمكن من ادواته النقدية في سبر اغوار النصوص وتفكيكها بذكاء باهر. وقد يبدو علي الفواز في نظر بعض الدارسين ومن زاوية بعض نقده ناقدا انطباعيا، لكن تلك نظرة تجافي واقع ممارساته النقدية وقدراته التحليلية. نعم قد لا يحكمه الخضوع الصارم إلى منهج نقدي محدد، وقد يتمرد على بعض اجراءات المناهج الاكاديمية المنضبطة ويرفض تحديد مساراته ليمارس حريته النقدية. فالنص لديه حالة ابداعية لا يمكن فرض قيود اي منهج نقدي عليها ما لم تكن منسجمة معها او مع النص، والفواز من هذه الزاوية ناقد حر وذكي يتحاشى القيود الاكاديمية الجافة وهو يتعامل مع النص الابداعي فيأتي نقده فوق المناهج، او تأتي المناهج بعفوية متجانسة مع طاقات النص الابداعية. وليس عيبا ان يعبر الناقد عن ذاته من خلال النص ليكتسب حريته بل من المفروض ان يتأثر الناقد بما يقرأ ويتفاعل معه، لان الادب كائن حي متدفق المشاعر والافكار، وتلك ميزة علي الفواز. ويمكننا ان نحدد سمات نقده بـ "التحليل والتعمق والحرية المنهجية واللغة المتفردة". علي الفواز ناقد حصيف في كل ما يتعلق بتحليلاته النقدية، واثق بنفسه وعمله مع تواضع ادبي جم. ظل يتجه بنقده إلى نصوص الآخرين من المبدعين بغض النظر عن اجيالهم ليضيء تجربتهم ويحلل نتاجهم ويقدمهم الى القراء على طبق ابداعي متجانس الاهتمام وبحيادية محببة نابعة عن ثقة يتسلح بها كأنها نوع من السمة الخاصة به.

علي الفواز الشاعر

كان هناك اعتقاد لدى بعض النقاد والشعراء في حقبة مطلع القرن العشرين وما بعدها بقليل، ولا سيما مدرسة الشعر الاجتماعي او التجديد الموهوم، وهو اعتقاد ساذج بلا شك على الرغم من تعميقه وقناعة كثير من الشعراء به آنذاك، هو ان الشعر يكون عظيما لمجرد ان يتناول حوادث حياتية وقضايا عظيمة. فأي شيء كان يكتب ضد الاستعمار ونقد الانظمة المرتبطة به، او عن قضية فلسطين او عن ثورة الجزائر او ضد اسرائيل او امريكا على وجه الخصوص يجد طريقه الى الناس بمباركة الصحف ويجد قاعات تستقبله وجمهورا يصفق له ويطرب وينال الاعجاب، وكأنما كان يعتقد ان سماع هذا الشعر جزءا من لذة النص والانبهار به.
غير ان علي الفواز شأنه شأن شعراء الحداثة كان دائما يؤمن بالمناخ الثقافي الذي يقال فيه الشعر، والصياغة الفنية العالية لمفرداته وسماته التعبيرية بعيدا عن موضوعه عظيما كان ام متواضعاً. فالثقافة هي ما تفصح عن اعماق الانسان وشخصيته وهويته، وهذا ما يقتضي ان يكون مستوى اختلاف الرؤى بين الشعراء المبدعين والنقاد اجمالا. علي الفواز يتقن اللغة بثراء معرفي في مواجهة من يجهل اللغة ولا يدرك اسرارها. ولو علم الجاهلون ان اللغة العربية هي لغة شاعرة - بحسب العقاد – رقيقة بطبيعتها وعلاقتها مع الشاعر علاقة تصالح لا علاقة تصادم، لكونها لغة اشتقاق وليست لغة نحت، وان اللغة العربية في مجملها مجازات ذات محمولات دلالية لا تبدو على هيئتها، وعلي الفواز في شعره مدرك تماما ان لغة الشعر مجاز ثان داخل مجازات المفردات وتداولها، بمعنى ان ما تقوله لغة الشعر لا ينظر اليه بمعيار الخطأ او الصواب والباطل والحق، والكفر والايمان، فما تقوله لغة الشعر هو تخييل ورمز وليس حقائق ندين بها الشاعر او المبدع.
علي الفواز يقيم علاقات تماهٍ بين الايقاع والشعر او بين النثر والشعر، فشعرية النص لديه هي جوهره وليس الشكل الفني الذي صبّ فيه. فالشعر بعامة والفن بعامة هما بين الاشياء الاكثر دقة وصعوبة، واذا كان الذوق نفسه ثقافة فان علياً الفواز يدرك تماما ان تقويم الشعر يتجاوز جذريا عبارة اعجاب مثل: "قول جميل او يثير الاعجاب "..الخ. انه – اي الشعر – يتطلب رؤية فنية غنية وتجربة متفردة وثقافة واسعة ولغة عذبة وهنا ما يمتلكه علي الفواز الشاعر.

على الفواز الانسان

اما علي الفواز الانسان فالحديث عنه يطول ولكني سأكتفي ببعض ملامح شخصه وسمات روحه وسعة رؤاه ورقة مشاعره وسمو انسانيته ورقي سلوكه. علي الفواز انسان يفتح قلبه للجميع ويتسع حتى لمن يختلف معه بنبل واصالة. ويرى وجوده يكتمل باصدقائه ومعارفه ومحبيه، ويؤمن بمبدأ التسامح حينما لا يجعل للخلافات مع اصدقائه من سبيل في فضاءات محبته، يمحو بوسع بياض قلبه كل ما يبدر حياله. والاهم من كل هذا انه لا يسمح للوشاة أن تضيق مساحات التسامح والمحبة التي تسكن قلبه وتملأ روحه. احييه على سعة صدره ودماثة خلقه التي تجعله مقبولا بل محبوبا من الجميع خصوم واحبة. أُدرك باعجاب ان علي الفواز قلبا وروحا لا يسكنهما غير المحبة والوئام والود وهذا ما يكمل الابداع.

صانع البهجات

قراءة في شعر علي حسن الفواز

د. جاسم الخالدي
يبدو أنه من الصعب أن نلمَّ بأطراف اشتغالات الشاعر والناقد" علي حسن الفواز"، أولاً لتعددها، وتنوعها، ومن ثمَّ لتقدمه في التجربة شعراً ونقداً واعلاماً.
ولذلك سوف نقتصر في هذه الورقة على تجربته الشعرية، عبر إنموذج من شعره، وهو ديوانه: الواح الحضور الواح الغياب، الصادر عام 2014م.
إنَّ الحديث عن تجربة عليِّ الفواز يعيد الى الأذهان، ثنائية "الشاعر/ الناقد"، الذي توقف عندها النقد كثيراً، وانقسم بشأنها النقاد بين مؤيدٍ يرى أنَّ الشاعرَ هو الناقدُ الاولُ لنصه، ولا عجب إذا ما استهوته تجربة شعرية، فوقف عندها بعين الشاعر، وبأدوات الناقد، ويحاول ان يعطي أمثلة كثيرة قديمة او حديثة عن وجود شعراء مجيدين، ونقاد مجيدين في الوقت ذاته.
كلا الجانبين لهما مسوغاتهما وحججهما، لكن ما أوّدُّ قوله إنَّ كلامَ الفريق الثاني قد يصدق على شعراء بعينهم، ممن يفتقدون الموهبة النقدية، والقدرة على الغوص في عمق النص الشعري، لكن لا يصدق على شعراء آخرين ولدوا ليكونوا شعراء ونقاداً في آن واحد، وربما تأريخنا العربي قديماً وحديثاً حافل بأسماء كثيرة، نذكر منهم على سبيل المثال: علي جعفر العلاق، حاتم الصكر، محسن اطيمش،سامي مهدي، خالد علي مصطفى، علي حداد، عباس اليوسفي، رحمن غركان، وعلي حسن الفواز. وغيرهم. مع ملاحظة أنني غيرُ مهتمٍ إذا ما تباينت اشتغالات الشاعر/ الناقد، إذا ما غلب النقد على الشعر، او الشعر على النقد، ما يهمني أن النقد قد تولد في الشاعر او غير الشاعر.
وأياً كان الموقف من التجييل الشعري، وأهميته عند دراسة أي ِّ شاعر، فإنَّ من المهم معرفة الحقبة الزمنية التي برز فيها صوت" علي حسن الفواز" شاعراً، لأن ذلك مهم في تفسير كثير من الظواهر الشعرية الفنية التي انمازت بها قصيدته، وجعلته واحداً من الشعراء الذين يُشارُ إليهم حين الحديث عن الشعر العراقي في الثمانينيات.
ولذلك جاءت قصائده الأولى، بفعل الحوار اليومي الذي توفّر له من خلال الجو الأدبي العام". وهذا يمنح أية تجربة شعرية أصالة وعمقاً، فضلاً عن أنه جعل تجربته الشعرية تحيل عليه لغة واسلوبا ومضموناً، ولعل ذلك يعود إلى جملة خصائص أسلوبية انماز بها شعره، من بينها لغته المائزة عن كثير من شعراء جيله أو غيرهم، اللغة التي تتساوى لديه كتابة وحديثاً، فلا تجد فرقاً بين ما يكتبه أو تسمعه في حديثة العادي.
ولكي يكون كلامنا المتقدم مدعوماً بالأمثلة الشعرية، فإننا نقف عند نماذج من مجموعته "الواح الحضور/ الواح الغياب" الصادر عام 2014م.
العتبة الأولى التي تصادفك وانت تدخل إلى قصائد هذا الديوان، تجد أنه " كتاب اهداءات" بحسب وصف الشاعر نفسه، بعضها مهداة إلى اصدقائه الأحياء أو الأموات، لكن الطريف في الأمر، أن الأولى لا تختلف عن الثانية، فكأن الحياة والموت يستويان عند الشاعر، فلا رثاء ولا بكاء؛ بل هي قصائد تعرية للواقع الإجتماعي الذي كان سبباً في انطفاء جذوة الأبداع ، وتوقّف دورة الحياة لديهم.
فضلاً عن ذلك، إذا ما انعمنا النظر في أسماء المُهدى إليهم، فإنَّهم يتوزعون المشهد الشعريّ العراقيّ والعربيّ، على أجيال مختلفة، وأجيال متنافرة؛ لكن الفواز بما يملك من قلب ابيض نجح في جمع هذ الاسماء في ديوان واحدة وقصائد متعافية، يمكن ان نطلق عليها " متوالية شعرية" بمعنى انها كلها تنتظم في موضوع واحد، ولغة تكاد تكون واحدة من حيث الانزياح والتنوع، والاستعارات والتشبيهات التي تبدو للقارئ متنافرة أو متضادة؛ لكن حين تنظر إليها في سياق القصيدة كلها، تبدو مقبولة، ومتسقة مع عموم تجربة الفواز الشعرية والثقافية التي لم تكن بعيدة عن مرافئ الفلسفة أيضاً.
وهذا يدعونا إلى الحديث عن لغة الفواز التي تشتغل على المجاز والتشفير والرمز والاستغراق في التأريخ إلى حدٍّ كبير، إذ تتحول القصيدة لديه الى مجازات كبرى، بمعنى أن قصيدة الفواز ليست ومضة تنتهي بضربة شعرية؛ بل هي قصيدة لا تُعرف فلسفتها إلا اذا انهيت قراءتها. فلو وقفنا على قصيدته "أيها الدلموني ما تبقى هو الكلام"، لوجدنا شغف الفواز بلغته إلى حد تبدو الصناعة طاغية عليها، عبر تتابع المجازات، وتعدد التشبيهات، وتنوع الاشتغالات. يقول الشاعر:
عند آخر الجهات تعلن العصيان
على العمر والقصيدة والمرايا
تركبُ عكازك الباذخ مثل بساط الساحرات
ترشُّ الاخطاء على تفاحات آدم
إذ تدعو إلى أنوثة باردة
وغوايات لاخطائنا الطازجة
وخياناتنا الانيقة...
يفصح المقطع الشعري عمَّا بيناه أعلاه، وانتهينا من وصفه، فالجهات تعلن العصيان، وهو يركب عكازه الباذخ مثل بساط الساحرات، ركوب العكاز، قد لا يشبه بساط الساحرات، وترش الاخطاء على تفاحات آدم، مع ان التفاحات هي رمز الاغواء، لكن الفواز عكس هذه الصورة، وخياناته على غير العادة انيقة، أية مخيلة تستطيع أن تجمع بين هذه التناقضات لتولد صورة شعرية محبوكة.
ومن جانب آخر، فالفواز حين يحاور قاسم حداد، فهو يحاول تعرية الواقع العربي الممزق، وابعد من ذلك، الإنسان بشكلٍ عام، فهو يعيش زمن الحروب والحصارات والقتل لذلك، لا عجب أن تتحول المدن من طاردة- كما وجدناه عند شعراء الخمسينيات والستينيات- إلى مدن مطرودة، ومفتوحة لإحتلالات متعددة، ولم يجد ما يماثلها سوى أبنائها، الذين توزعتهم الأمكنة، ما تبقى للشاعر، وهو يعيش المحنة، هو الكلام، بعد أن صارت الارصفة، ملاذاً للجلود المكشوفة، والمقصية عن وطنها.
بإزاء هذا الوطن المعطوب والعاطل من كلِّ شيء، لم تبق للشاعر، سوى لغته التي يحاول أن يحلمَ بها وطناً خالياً من كل عطب:
مدننا مطرودة كابنائنا الضالين
مكشوفة للغزاة
صالحة لتناسل القطط والاكاذيب والعسس الليلي
ما تبقى هو الخطوة الباردة
هي الارصفة الشاحبة
هي الجلود المكشوفة
للتأويل والفؤوس والحروب الصغيرة
فهل لنا ان نصنع اوطانا مغلقة كالصناديق
وطيبة كالفقراء
وهل هناك أوطان عاطلة لا يجسها البرابرة
أو أوطان مكثفة لا تمشي.
فمعجم الفواز لا يشبه الا الفواز نفسه، فهو يكاد أن يتكرر في كل قصيدة ، ولكن بنسيج اخر لا يشبه النسيج السابق، انها لغة الشاعر، الشاعر الذي خَبَرَ المعاجم ، وانتخب منها ما يتساوق مع تجربته الحياتية، التي تشتبك فيها الأشياء إلى الحد الذي تبدو فيه خالية من المعنى، لكنها ممتلئة بروح الشعر وبأسراره العصية على البوح.
قصائد الفواز كلها مراث، مراث الحياة والموت، مراث الوطن المطرود من نعم الحياة، الذي ما إن يخرج من حربٍ حتى يقعَ في شباك أخرى، أنها لعبة الحياة والموت، ولعبة الوجود والامحاء.
فاستحضار روح محمد القيسي لديه يستدعي منه الإبحار صوت تخوم الماضي؛ ليوقظ الكنعانيين من نومتهم الطويلة، المستغرقة في الماضي، ليبكِ حالة "الامحاء والفقد" التي اصابت الوطن المعطوب:
ماذا تبقى من الوقت الأبيض
لتبادلنا الساعات السود،
أوهامنا الباردة
ماذا تبقى من السلالات الكنعانية
ليبادلنا التتار والترك والفرس والانكليز
أوهامهم الرثة
وترتفع لغة الفقد أكثر، حين يجعل "محمد القيسي" يرتدي قناع الكنعاني، ليخاطب بهذه اللغة المفجوعة:
ما تبقى سيدي الكنعاني
هي اسماؤنا الضالعة بالفضائح والمرويات
ولا نعدم في هذا النص، على الرغم من كونه نصاً رثائياً، انساقاً مضمرة كثيرة، يمكن ان تنهض بدراسة مستقلة، لما ينطوي عليه من رغبة الشاعر الملحمة من تسليط الأضواء على القبحيات، وإظهار خيبات الحياة، وتعريتها، ووفتح صدر التاريخ لمحاكمته أو فضحه، والدعوة إلى التمرد عليه، فالوطن لدى الفواز- دائما- موضع اتهام، وسبب مقدم لتعاسة الإنسان العراقي:
كان الوطن كالحانة بارداً، نعساناً
لجوجاً في السكرة والمدائح
وكان الحمقى السكارى يركضون إلى اليافطات
من كل هذيان عميق
كنت تكتب ببلاهة غريبة
تكتب ما تشاء عن الوطن والنساء
هيمنت مفردة الحرب ومشتقاتها، على عموم قصائد الديوان، المهداة الى سعدي يوسف مثلاً أو كزار حنتوش، ونعيم عبد مهلهل وآخرين. بل اكاد أجزم ان هذه المفردة قد طبعت حتى قصائده الاخيرة التي كانت عودة إلى الحب والرومانسية؛ ولكن ليست رومانسية المخذول والمنكسر، الرومانسية المزكرشة بالوعي، والمعرفة بالمرأة لا بوصفها حبيبةً مثاليةً، بل كائن يشارك الآخر أشياءه وموجوداته.
حتى ألفت صورة الحرب الضلع الاخير من مربعه الشعري، او من مجموع اشتغالاته سواء أفي هذا الديوان ام دواوينه الاخرى، واقصد التاريخ، والمرأة، والجسد، و والحرب، حتى امتزجت الصورتان: الحرب والحياة في بوتقة واحدة، ويمكن ان نمثل ذلك في قصيدته المهداة الى حاكم حبيب حسين، التي منها:
كلما جاءته الحرب
ارتدى قميصه واحلامه
وهرب من النافذة...


علي الفواز باختصار جدا


علوان السلمان
علي الفواز.. الانسان.. الحضور الدائم.. الوجود والفعل المفجر للبرك الراكدة.. الساعي إلى التنوير الفكري جدلا عقليا..كونه مثقفا عضويا على حد تعبير غرامشي..
ـ فهو الصحفي بصريا وسمعيا عبر عموده وتحريره الصفحات الثقافية "ورقيا وفضائيا عبر برامجه الثقافية" المستفزة لذاكرة المتلقي كي يكون..
ـ علي الفواز الشاعر.. الشعرية عنده جزء لا يتجزء من تركيبته الفكرية واللسانية والشاهد الاول "مرايا سيدة المطر" بمقاطعها العشر التي ارتسمت عليها ومقطعا اخترقها وكان خاتمة لمقدمتها التي التزمت قافية عمود الشعر نظاما شكليا لبنائها:
أهفو اليك شفيف الروح ياطرقي واعتلى وجعي من زهوه القلق
ـ علي الفواز.. يلجأ الى تجسيد لحظات التوتر من خلال التناقض الموجود في الحقيقة الانسانية والواقع..
قالت لي..// انك رجل ابيض لا يعرف سحر المدن السوداء
رجل يهبط في لحظته الاولى///ويسلم بيت القلب// ويغرق في
نصف الموجة دون عناء
ـ اما في مراثيه.. فهو يعتمد لغة مباشرة لانها وسيلة لنقل الاحساس بالوجع..
وسيظل الوطن الابيض يحمل اسماء الاهل// ومراثي العائلة
امشي واكول وصلت// والكنطرة بعيدة
ـ علي الفواز في نصه الشعري تتسع دائرة الاخر بحضوره وان كان غائبا وتفتح لحظة الحزن لحظة فجاءتها على كل زمان ومكان..وهذا يعني انفتاح الذات على نفسها بشكل حقيقي مخترقا كل الحواجز وهو يتخذ من قول بول ايلوار درسا حين يقول "من العالم المفروض علينا ننشيء العالم الذي نحلم به" .
ويستمر الشعر عند الفواز حضورا وغيابا لانه فن اللغة وفلسفة الكلام وحاجة وجودية وموقف ازاء حركة العالم تتأكد فيه ارادة الانسان من اجل التغيير للوصول الى المثال.. فلعبة الحلم عنده تأخذ بعدا وحيزا واسعا من خلال الخيال الذي يضرب في الزمن ويجعله يتوهج باتساع الحياة وتشعب مسالكها وتشظيها..لذا كان للمكان عنده أثره وفعله باعتباره الوعاء الذي تتحرك فيه القوى البشرية وتتفاعل معه فتستجيب له وتتأثر وتؤثر فيه.. ففي "مراثيه المكانية" النقدية يحقق الفواز هوية المكان الرئيسة كونه كيانا اجتماعيا يحتوي خلاصة التفاعل بين الانسان والمجتمع..هذا يعني ان الفواز من النقاد الذين امتلكوا مؤهل القارئ/ الناقد ..كونه يمتلك خزينا معرفيا اهله لان يحقق وجوده فعلا فاعلا من خلال منجزه النقدي التطبيقي فبزغ نجمه بفضله ومقالاته وطروحاته النقدية التي احتلت حيزها ..كونها نقودات عقلانية/ موضوعية تمتاز بالتكثيف والايجاز والتركيز.. فضلا عن مشاركاته الوجدانية المتأصلة للمنجز الابداعي..اذ انه يحاور النص فينقله من حالته السكونية الى حالته الحركية من اجل خلق حالة من التفاعل بينه وبين والمتلقي..لانه يعي ان النقد القيم هو النقد الذي يصبح نفسه ادبا عن طريق التدخل والتداخل والتأويل واستنطاق ما خلف الالفاظ ومن ثم الكشف عن القيم والرموز..
اخيرا وليس آخرا...الفواز في قراءاته النقدية وكتاباته الشعرية يكشف عن حيثيات النص الداخلية لتحقيق التواصل الجمالي..

خليلي .. ذو الوزارتين


ابراهيم الخياط
جادك الغيث اذا همى
يا زمان الوصل في الاندلس
لم يكن وصلك الا حلما
في الكرى او خلسة المختلس
وما إتياني بهذين البيتين إلا لغرض الإحالة، أن أحيلكم ونفسي إلى قائلها، لسان الدين الخطيب، الذي عرف بذي الوزارتين.
واليوم أتحدث عن علي الفواز وهو ذو الوزارتين: الشعر والنقد، اذ قلّما مالَ النقاد إلى جنس إبداعي آخر غير النقد وما هم بمخطئين، ولكن الفواز قال وأجاد وفاز.
وهنا أقول وأشدد أن الإجادة لوحدها لا تخلق مبدعا ما لم تتلألأ الإجادة بموقف نقدي أخلاقي من الأدب والناس والحياة والى الأدب والناس والحياة.
والموقف هنا موقفان، أولهما الاصطفاف مع أحلام الأنام وحمل آمالهم وآلامهم والتغني بها، وثانيهما هو نوع التصدي للكتابة، وفي النقد بخاصة، فالتشهير والتسقيط والحطّ ليس من غايات الكتابة بل الغاية في التقييم والتقويم والارتقاء بالذائقة الاجتماعية.
وهذا الجميل الجيد الحسن هو ثوب الفواز، وأضيف أننا كثيرا ما نقرأ لكاتب ونعجب بما يكتب وقد نتبناه وما أن نلتقيه حتى نكفر بالساعة السوداء التي وقعت أعيننا أولَ مرة على اسمه، فيما الفواز تزيد من إعجابك اعجاباتٍ بعد ان تلتقيه غبّ قراءات ماضية.
إنه المثقف المستقل، وأعني غير "الثارد" مع الحكومة أو مع الحكومات، انه المثقف النقدي وأعني صاحب الموقف الجمالي والمصدّع لحائط التلميع والرافض للوقوف على "التل" المزدحم بالأشباه، انه المثقف العضوي وأعني النازل الى معمعات المهرجانات الأليفة والنقابيات الصادقة والساحات الضاجة لأنه لا يملك برجا ناهيك عن العاج، فنراه مؤسسا وخائضا في لجّة المهرجانات، ونراه صار ويستحق، من القيادات التاريخية لاتحاد الأدباء، ونراه مدنيا تنويريا، منيرا بكل قزحه وبكل فصاحة.
علي الفواز، بعد ذلك أو قبل ذلك، هو أحد أمهر مصممي المشهد الثقافي العراقي الحالي، فلا يمكن لذي عقل من صاحب قرار أو حزب أو جريدة أو منظمة أن يفكر بمشروع ثقافي دون أن يستعين او يتشاور مع ثلاثة مثقفين على الأقل، وحتما تصيب الخيبة والإخفاق من لا يختار الفواز أحد هؤلاء الثلاثة، فما بالك إذا استعان بأكثر من ثلاثة.
علي الفواز قد تختلف معه لكنك لا يمكن إلا ان تتواصل معه لأنه رمز للحوار العراقي او قل هو رمز عراقي للحوار.
علي الفواز، مبدع كبير لأنه إنسان كبير، ولم أستسهل مفردة "كبير" أو أجازف بها، فأنا أعني ما أقول.... والفواز، أستاذ بحقّ وصديق أثير ورفيق درب شائك مفضّ..
إنه خليلي في وقت بحّ صوتي وأنا أقول وأردد:
أخاللُ من؟
أخاللُ من؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة "طريق الشعب" ص5
الثلاثاء 15/11/ 2016
( ماتع )



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google