ترامب والتطلعات الأقتصادية لناخبيه
ترامب والتطلعات الأقتصادية لناخبيه


بقلم: الدكتور احمد إبريهي علي - 15-11-2016
الأقتصاد الأمريكي هو الأول في عالم الدول المتقدمة ناتجه الأجمالي يزيد على 18 ترليون دولار عام 2015، وتجاوز نموه مجموعة اليورو. وتبين انه اكثر حيوية من إقتصاد اليابان الذي كان الثاني في الصناعة بعد الولايات المتحدة ، قبل نهضة الصين، لكن اليابان تكاد تفقد القدرة على النمو الأقتصادي منذ منتصف التسعينات. والأقتصاد الأمريكي معروف بريادته وقيادته للتحولات التكنولوجية الكبرى في العالم، والتقدم التقتني والتنظيمي، في مختلف ميادين الأنتاج. كما ان قوة ذلك الأقتصاد من الروافد الرئيسية للتطور وأزدهار الحياة البشرية، وفي نفس الوقت مكّنت من خوض حروب فتّاكة في طول الكرة الارضية وعرضها، وكانت عونا على كثير من الظلم والتجبّر والعدوان وقهر الضعفاء. بيد ان لهذا الأقتصاد مشكلات لها علاقة بخصائص بنيوية تُضعف فاعلية السياسات الأقتصادية المألوفة لدى النخب الحاكمة ومستشاريها، مما شجع الرئيس المنتخب على التعهد بأتخاذ تدابير جديدة.
لا شك أن قطاعات الأنتاج السلعي تراجعت اهميتها النسبية كثيرا في توليد الدخل الأمريكي، إذ لا يتجاوز اسهامها 20 بالمائة من الناتج المحلي، ومجموع حصة الزراعة والتعدين والصناعة التحويلية في الناتج المحلي حوالي 15 بالمائة عام 2015. والمشتغلين في كل القطاعات السلعية اقل من 21 مليون، بحدود 16 بالمائة، من مجموع القوى العاملة التي تقدر 132 مليون عام 2015. والعاملين في الصناعة التحويلية عام 2015 تقريبا 12 مليون، بينما كان يزيد عددهم على 15 مليون عام 1948 من مجموع القوى العاملة آنذاك التي تقدر في نطاق 51 مليون.
هذه البيانات لأيضاح أن أقتصاد ما بعد الصناعة تعبير له دلالة موضوعية لا بد ان تظهر جلية يوما ما في السياسة والمجتمع. من جانب آخر نلاحظ ان الأستهلاك الخاص البالغ 12.284 ترليون دولار منه فقط 4 ترليون دولار سلع والباقي خدمات. وان اكثر منتجات الخدمات، اضافة على التشييد والمرافق العامة، غير متاجر بها دوليا وبالتالي لا تخضع للتنافسية العابرة للحدود. وتتشكل انتاجياتها وتكاليفها وانماط توزيع الدخل فيها بعوامل محلية، وليست مثل السلع التي تكون اسعارها دولية ولذا تتكيّف تكاليف إنتاجها ومضامينها التكنولوجية والتنظيمية لأدامة القدرة التنافسية الدولية للأقتصاد الوطني. ولأن الخدمات لها هذه الفسحة في الحماية من العولمة تُنافس داخليا قطاعات السلع وتُضيّق عليها فيتسارع انحسارها النسبي.
ويتساوق وضع الميزان التجاري السلعي مع تلك العملية فالصادرات 1.489 ترليون دولار والأستيرادات 2.291 ترليون دولار، بعجز يزيد على نصف الصادرات. وتَعايَش الأقتصاد الأمريكي مع ذلك العجز لأن تمويله ممكن، لحد الآن وفي الأمد المنظور، بصافي صادرات خدمية وتحويلات دخل من الخارج. ويبقى مع ذلك عجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات 463 مليار دولارموّلته تدفقات راسمالية صافية نحو الأقتصاد الأمريكي عام 2015 نتيجة لهيمنة الدولار في السوق المالية الدولية ولأنه عملة احتياطية رئيسية.
لكن تلك التدفقات المالية الخارجية ليست بلا ثمن فهي ترفع سعر صرف الدولار، فتصبح الصادرات اقل من الحجم التوازني للميزان التجاري الخارجي، وينحسر الأنتاج السلعي نسبيا لكي تنسجم المنظومة مع هذا التلازم في الخصائص البنيوية.
ايضا لا يخفى على ذوي الخبرة في الأقتصاد الكلي ان الأقتصاد الأمريكي يعمل مع ميل منخفض للأدخار، مقارنة مع مجموعة البلدان المتقدمة، فالأدخار الخاص 1.263 ترليون دولار منه تقريبا 827 مليار دولار ادخار شخصي بنسبة 6 بالمائة من الدخل الشخصي الممكن التصرف به، وحوالي 837 ترليون دولار ادخار قطاع الأعمال. لكن صافي الأدخار على المستوى الكلي 609 مليار دولار، حوالي 3 بالمائة من الدخل الوطني، لأن 654 مليار دولار ادخار حكومي سالب، اي ان الجزء الأكبر من الأدخار الخاص يبتلعه عجز الموازنة العامة. وللتذكير باهمية الأدخار نبين ان النمو الأقتصادي يعتمد على جزء من الدخل الوطني لا يستهلك( صافي الأدخار) يخصص لأنتاج ومراكمة وسائل جديدة لتوسيع الطاقة الأنتاجية الكلية ليستمر الناتج ( الدخل) بالنمو.
وبموازاة تلك الخاصية وبالأرتباط معها يوصف الأقتصاد الأمريكي بضخامة الدين، والحكومة العامة مدينة بمستوياتها الثلاث، دون الولاية والولاية والمستوى الفدرالي، وقد لا تجد محافظة او ولاية لايتجاوز دينها 100 بالمائة من ايراداتها، اضافة على الدين الأتحادي،ويقترب الدين الحكومي من 100 بالمائة من الناتج المحلي الأمريكي.
ونظرا لتنامي الأعتراض على الدين والدعوة القوية للألتزام بسقف لا يتجاوزه، من جهة، ولعدم التمكن سياسيا من زيادة نسب الضرائب، من جهة أخرى، اتجهت الحكومة إلى تقييد نمو الأنفاق الحكومي دون نمو الناتج المحلي الأجمالي، بل كان نموه سالبا بالقيمة الحقيقية لسنتي 2013 و 2014. وعلى المستوى الفدرالي انخفض بنسبة 5.8 بالمائة و 2.5 بالمائة سنتي 2013 و 2014 وبقي عام 2015 على ماكان عليه في العام السابق بالقيمة الحقيقية. والأقتصاد الأمريكي، حسب معالجتي الشخصية لبياناته وقناعتي، بحاجة إلى إنفاق حكومي نشط لتحريك الطلب الكلي.
لقد تأثر التوزيع الأُسري للدخل سلبا بالتحولات التي اشير إلى بعضها آنفا فقد كانت حصة 20 بالمائة من ألأسر الأعلى دخلا عام 1970 ما نسبته 43.3 بالمائة من مجموع الدخل الأُسري اصبحت تلك النسبة 51.1 عام 2015. وادنى 20 بالمائة دخلا من الأسر انخفضت حصتها ايضا ليصبح متوسط الدخل للأسرة من هذه الفئة بين 6 بالمائة إلى 7 بالمائة من متوسط دخل الأسرة على المستوى الوطني. ويلاحظ عدم تحسن دخل الأسرة لفئة الدخل الأدنى التي تشكل 5 بالمائة من الأسر في ربع القرن الماضي، بل انخفض المتوسط قيللا ومعنى ذلك ان الدخل الحقيقي لهولاء الفقراء تراجع عما كان عليه سابقا بمقدار التضخم المتراكم. ومتوسط دخل الأسرة من السود اصبح عام 2015 ادنى مما كان عليه عام 2000 فتآكل جزء من المكاسب التي تحققت لتلك الأسر في الفترة السابقة. ومن المهم الأشارة إلى تفاوت واضح للدخل ما بين التكوينات الأثنية.
تضمنت تصورات الرئيس المنتخب في السياسة الأقتصادية المنتظرة خفض الضرائب على ارباح الشركات والشرائح العليا لتحفيز الأستثمار وخفض الأنفاق الحكومي بالمقابل. بينما لايتحمّل الأنفاق الحكومي، وخاصة على المستوى الفدرالي، المزيد من التقييد الاّ على حساب الأنفاق العسكري، وقد يكون هذا الأمر دافعا لمطالبة الرئيس الجديد حلفاء الولايات المتحدة الأسهام في نفقات الدفاع، وياحبذا لو قادت السياسة الأقتصادية إلى تحجيم موارد الحرب لصالح السلام. وربما لا ينسجم التوجه نحو تقييد الأنفاق الحكومي مع مطلب تطوير البناء التحتي الذي يحتاج تمويل ضخم. وعند التساهل مع رفع سقف الدين العام فيكون ذلك على حساب الموارد التي يراد دفعها نحو الأستثمار في قطاعات الأعمال،أي الأبقاء على مشكلة تحويل الجزء الأكبر من الأدخار الخاص إلى الموازنة لتمويل العجز.
ان للأنفاق الحكومي، كما تقدم، وظيفة تنشيط الأقتصاد الذي يعاني من نقص الطلب، واتضح من ملاحظة مؤشر استغلال الطاقة الأنتاجية في عموم الصناعة الأمريكية انه ينخفض في الأتجاه العام بين عامي 1970 و2015. والأنخفاض منتظم في ذروة دورة الأعمال ونهايتها الدنيا، ومع انه ادنى من 10 بالمائة، على خط الأتجاه بين السنتين آنفتي الذكر، لكنه يكفي لتراجع دوافع الأستثمار في الصناعة.
وللرئيس المنتخب ونائبه تصريحات تفيد عدم القناعة بالعلاقة بين النشاط البشري والأحترار ولا يرغبان في اعاقة النشاط الأنتاجي والأستهلاكي بقيود مشددة في استخدام الطاقة. ولذا من المتوقع إضعاف ضوابط حماية البيئة والسيطرة على مقذوفات الكربون والتساهل مع استخراج، ونقل ومعالجة، النفط والغاز والتوسع في انتاج الفحم. وفي هذا السياق ربما، وهو الأرجح، إنخفاض التخصيصات المالية لتطوير الطاقة النظيفة والمساعدات للدول الخارجية لتقليل التلوث في توليد الكهرباء. وهذه السياسات المنتظرة تؤثر في جانبي العرض والطلب على النفط الخام.
وتحتاج التدفقات المالية الداخلة للولايات المتحدة والخارجة منها سياسة اشمل واوضح من مجرد الأشارة إلى الرغبة في اعادة رؤوس الأموال الأمريكية إلى الداخل. فالمركز الأستثماري الدولي للولايات المتحدة الأمريكية بجانبيه الدائن والمدين هو الأضخم في العالم. وتعيد مؤسسات الأعمال الأمريكية استثمار جزء من التدفقات الداخلة في الخارج. وتستلم الولايات المتحدة تحويلات دخل، ارباح وسواها، اكثر مما تدفع للخارج بفارق يقترب من 200 مليار دولار سنويا حسب احدث البيانات. وحتى على فرض التزام الرئيس بخفض نسب الضرائب، ؤتحقق له ذلك، فهذا الحافز لا يكفي لوحده. ومع زيادة تدفق الأموال إلى الأقتصاد الأمريكي يرتفع سعر صرف الدولار ويزداد عجز الحساب الجاري بمعنى ان الأدخار المحلي يبقى ادنى من الأستثمار والأستيرادات تفوق الصادرات بفارق يتسع مع حجم التدفقات الداخلة. ويصعب كسر هذه الحلقة دون تدخل اعمق في الأقتصاد الحقيقي، وتغيرات في سوق المال، لا يسمح بها النظام الأقتصادي هناك.
الهجرة إلى الولايات المتحدة مصدر دائم للعمل منخفض الأجر، وان اخراج المهاجرين غير المجازين وتقييد دخول العمال الأجانب يقلل عرض العمل للمهمات الشاقة وغير المرغوب بها ويرفع الأجر. ولا يدعم هذا الأجراء سياسة استقبال المزيد من الأستثمارالأجنبي في الأنتاج المتجه للتصدير، لأن رؤوس الأموال غادرت اصلا بحثا عن عمل رخيص.
الشركاء التجاريين الكبار للولايات المتحدة بدلالة مجموع التجارة السلعية على التوالي : كندا ؛ الصين ؛ المكسيك ؛ اليابان ؛ المانيا؛ أمريكا الجنوبية؛ بريطانيا حيث يتجاوز حجم التجارة 100 مليار دولار، استيرادا وتصديرا، مع كل منها. وتسلسلها حسب الأستيراد : الصين؛ كندا؛المكسيك؛ثم بقية الدول كما وردت. ومن جهة صادرات الولايات المتحدة إليها: كندا؛ المكسيك؛ الصين؛اليابان؛ بريطانيا؛المانيا؛ كوريا الجنوبية. والعجز التجاري مع الصين هو الأكبر 343 مليار دولار عام 2014.
وليس من دول الشرق الأوسط شريكا تجاريا مهما للولايات المتحدة سوى السعودية تسلسل 12 وإسرائيل تسلسل23. وصدّرت الولايات المتحدة إلى السعودية ماقيمته 18.7 مليار دولار، وإلى اسرائل 15.1 مليار دولار عام 2014 ولديها عجز مع كليهما. ومن مجموعة بركس اضافة على الصين البرازيل حيث صدّرت لها الولايات المتحدة سلعا بقيمة 42.4 ملياردولار ولديها مع البرازيل فائض بمقدار 11.9 مليار دولار.
لقد اظهر الرئيس الجديد توجهات ميركانتيلية قوية تشحذ الوطنية الأقتصادية التي لا يرتاح لها الغرب في عالم الدول النامية والناهضة، بذريعة انها تشدد قبضة الدولة على الأقتصاد وتدعم الحكومات المستبدة. لكن مقاربته لها حمائية انكفائية وفي نفس الوقت انتقائية، ولذلك من المشكوك في خدمتها للهدف المعلن. لأن فرض حواجز كمركية عالية ضد الأستيراد من الصين، ودول معينة، لا يضمن تعويض المستوردات بإنتاج امريكي بل قد يتحول الأستيراد نحو اسواق اخرى، في حين تخسر الولايات المتحدة فرصة التصدير للدول التي أقامت الحواجز امام تجارتها لأنها ستتخذ إجراءآت مماثلة. ولذا من المنتظر ان تعتمد الأدارة الجديدة سياسات وتتخذ قرارات نحو الحمائية الشاملة، وليس الأنتقائية، لتنشيط الأستثمار في قطاعات التعدين والطاقة والصناعة التحويلية تكون لها آثار ملموسة على المستوى الدولي بما يتناسب مع حجم السوق الأمريكي.
ومن المتوقع ان تهتم السياسة التجارية بخفض العجز ولذلك يجري التركيز على الصين ثم الدول الأخرى التي لا تجد السلع الأمريكية سوقا واسعة لديها. بيد ان الحواجز الكمركية العالية، إضافة إلى عدم جدوى الأنتقائية، تصطدم مع إلتزامات الولايات المتحدة تجاه منظمة التجارة الدولية. وتمثل ضربة قاصمة للأنفتاح التجاري وهو من العناصر الأساسية لما سمي توافق واشنطن منتصف الثمانينات، ولا ينسجم التشدد التجاري مع الأنفتاح المالي الذي لا تستغني عنه الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن الضروري الأنتباه إلى الحقيقة المهملة وهي ان العجز الخارجي انعكاس لعدم كفاية الأدخار لتغطية الأستثمار، والفارق بين الأخير والأدخار يترجمه النظام الأقتصادي في زيادة الاستيرادات على الصادرات، ليكون مجموع الأنفاق الوطني اعلى من الدخل الوطني، وبتعبير آخر الموارد الداخلية اقل من مجموع الأستخدامات. وطالما بقي الميل للأدخار ضعيفا تبقى هذه الخاصية في الأقتصاد الأمريكي، و لا تتوفر حلول سهلة لمعالجتها لأن مستوى النشاط الأستثماري منخفض اصلا فليس من المعقول انخفاضه اكثر لينسجم مع الأدخار، ومن الصعب الضغط على الأنفاق الحكومي عدا فقرة الدفاع ونفقات اخرى ذات وظيفة في السياسة الخارجية. ومن المعلوم ايضا ان الكثير من الفئات واطئة الدخل تنتظر تحسنا في معيشتها وليس من العقلانية ان تصل الحكومة معها إلى القشة التي تقصم ظهر البعير.
وعلى الأغلب سوف يتكيف البرنامج الأقتصادي للرئيس الجديد مع الترتيبات القائمة خاصة وان نائبه، المعروف بولائه لفكر الحزب الجمهوري ومعارضته للتراجع عن العولمة، يتولى قيادة الفريق الأنتقالي وترشيح من يشغل الوظائف السيادية والعليا.
الجانب الأيجابي في البرنامج الجديد التركيز على تعريف عقلاني، بمعنى ما، للمصالح بدلالة الأقتصاد والأمن الداخلي. ونأمل ان يقود هذا المنحى إلى مراجعة للسياسة الخارجية، ولو من خلال حساب التكاليف في مقابل العوائد، تساعد على انهاء الأستقطاب وتوازن العنف والأرهاب في منطقتنا.
د. احمد إبريهي علي



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google