كارل ماركس في العراق/ الجزء الثامن والعشرون
كارل ماركس في العراق/ الجزء الثامن والعشرون


بقلم: فرات المحسن - 22-11-2016




ــ تروح على كَهوة أبو داوود وكَله عمي أبو صبري يريدك، يجينا وبدون عذر.. كَله شغلت عشر دقايق ويرجع.
ــ صار عمي.
قالها ابو سبتي وذهب مترنحًا خارج الدار.
ــ زين طلع هويتك أحسن ما أنطلعه أبدالك.
ــ لا توجد لدي هوية أو أوراق إثبات.
ــ هاي شنو يابه.. فتشو خل نوكَع على ما يه.
نهض ماركس عن الكرسي وتقدم اثنان وراحا يفتشان ملابس ماركس، لم يجدا شيئًا. فصرخ أحدهم بوجه ماركس..
ــ لك انته شنو ومنو ومن وين؟ هذا كلشي ما عده لا فلوس لا هويات.. يبين جاي ومضبط شغله حتى محد يكشفه لو انلزم.
تلك اللحظة أنفرج باب البيت ليدخل أبو تركي الأعضب وخلفه رجل طويل القامة ممتلئ الجسد يرتدي العباءة والعقال. كانا يتحادثان دون أن يلتفتا لما يحدث داخل البيت واقتربا من فتحة السلم المفضي إلى السطح عندها تنبه أبو تركي لتلك الزاوية من الدار فشاهد ماركس جالسًا على الكرسي تحيط به مجموعة رجال أبو صبري.
ــ هاي شنو هذا شجابه هنا؟
ــ عمي أبو تركي هذا جاي للسوكَ ويسأل على كهوة أبو داوود ويكول هوه صديقه.
عندها ضحك أبو تركي الأعضب قائلاً.
ــ هاي أنتو شلون صيده صايدين اليوم.. هذه خطية.
ــ شنو تقصد عمي أبو تركي؟
ــ صحيح هذا عرف لأبو داوود... أنته أستاد قادر مو؟
ــ نعم أنا أستاذ عبد القادر.
ــ يابه شباب هذا عرف راجع لأبو عفيفة وأبو داوود وهمه وصوني عليه، لحد يكَيسه، أخذنه محصوله من أبو عفيفة.
ــ لعد أحنه أتصورناه بالأمن وأبو داوود عنده علاقة وياه.
ــ يمعود يا أمن، تره أبو داوود وأبو عفيفة جماعتنه ومن عدنه وبينه ما يخونون.. وياما وكفولنه وكفات.. وهو هذا الرجال بيا حال، ما تشوفونه بيا حال.. هذا جان أستاد مال جامعة وانسجن وصار بي ألي صار.
ــ أها، لعد من هيج كلشي ما عنده موشل هينوب..
بعد أن صعد أبو تركي الأعضب السلم ودخل أحدى الغرف في الطابق الأعلى وقبل أن يغلق الباب خلفه قال.
ــ أذا تكدرون أنتم ودو للرجال الكَهوة أبو داوود. هذا هو بيا حال وأنتم حاصرينه بهالشكل؟

راحت عيون ماركس تتنقل بين الوجوه، لقد تعرف على هؤلاء اللصوص وقدم نفسه لهم دون ماض أو هوية. شخصيته الجديدة دخلت عرينهم ولم يجد بدًا من خداعهم رغم اضطرابه، ولكنه هذه المرة يشعر أنه كسب الجولة بسهولة، ضربة حظ كانت، فلو إن هؤلاء عصابة لا علاقة لها بأبو تركي الأعضب وأيضا بأبو داوود لكان الآن في حالة لا يحمل معها غير مشاعر استعجال الموت وليس غيره. ولكن رغم انقشاع حالة الشك عند هؤلاء فمشاعر عدم الاطمئنان كانت راسخة في فكر ماركس، فهو على يقين من أن أفكار جميع رجال العصابات سريعة العطب ومن السهولة تغييرها في أية لحظة يشاءون. فكرة سيئة منحهم الثقة، فعالمهم المشحون بالصراعات والمؤامرات والخدع والجريمة يجعل منهم في حالة إرباك وارتباك دائم، وهم غير راضين عن وقائع يومهم لا بل واقع حياتهم بمجمله، ويكاد المرء يلمس ذلك في عيونهم القلقة وأمزجتهم المتقلبة، وحديثهم الخشن القاسي. فكيف يطمئن المرء ويعرف حاله بعد حين. احتمل ماركس نظراتهم الشرسة وهي تتسقطه بالكامل، وفي نفس الوقت كان يفكر بالخطوات القادمة التي سيتخذها معه أبو صبري، فربما ينقلب فجأة كل شيء ويبدأ الجميع ممارسة العنف معه باستهتار وشيطنة بحجة مداعبة أو الهزأ من مجنون. فالمجنون في هذا البلد دائمًا ما يكون ملاحقًا من الناس ومصدرًا للسخرية والطعون ويهمل ويعزل ويضرب ويطرد دون رحمة.
لم يسمح ماركس لتفكيره الابتعاد كثيرًا عن حيز المكان أو الذهاب شططًا نحو فكرة تبعده عن الذي هو فيه. كان تفكيره محصورًا في باحة هذه الدار الخربة، ولكنه أيضًا يتذكر كيف كان مصير حبه معلقًا عند شفتي والد بيرتا الجميلة، كان يطلب منه أن ينطق كلمة القبول بزواجهما، وتلك كانت أصعب اللحظات التي ترقبها بصبر لا حدود له وانتهت بخيبة أمل مع كلمة كلا. فهل ينتظر الآن قرارًا مجنونًا من أبو صبري في حالة عدم حضور أبو داوود. ولكن ما علاقة هذا بذاك، كيف سمح لنفسه أن يجمع بين هاتين الحكايتين، هل بدا ذهنه يتشتت وينحرف نحو مسالك لا جامع بينها. كل تلك الحوادث التي توالت عليه قربته من عالم الهلوسات، أم يا ترى فعلا تلبسته روح أستاذ عبد القادر وبدأ ذهنه بالهذيان. شعر بتعب شديد يدب في أوصاله فأرخى جسده على الكرسي ووضع رأسه بين يديه.
تلك اللحظة فتح الباب ودخل الرجل العجوز أبو سبتي وخلفه أبو داوود القهوجي الذي توسط الباحة ونظر في زوايا البيت وحين وقع نظره على كارل ماركس هز رأسه وقال.
ــ يمعود الخاطر الله متكلي وين وليت.. العفو يابه السلام عليكم.. شلونك عمي أبو صبري.
ــ هله أبو داوود.. الشباب لكو تايه بالسوكَ.
ــ خطيه أبو رجب صار تلث ساعات ما خله مكان بالسوكَ ما دور بيه على هذا البلية.. مسكين..
ــ بالريش همزين الله ستره.
ضحك ماركس ضحكة مفتعلة وقال بصوت عال.
ــ شنو يعني بالريش؟
ــ هسه محله أستاذ قادر د كَوم يمعود.. تعال نروح، الرجال أبو رجب خبص الدنيا عليك بس عوزه يبجي حسبالك مضيع ابنه.
قال أبو صبري ضاحكًا:
ــ هاي غير حنيه على هذا الطباكَات!
ــ مو هو يعرفه من جان أستاد بالجامعة. يله بينه أستاذ قادر.
ــ أنشاء الله.. الله يحفظكم أغاتي.
قالها ماركس ذلك مبتسمًا فراح الجميع ضاحكًا ومرددًا.. ألله وياك استاذ قادر.

***
بعد أن خلت أزقة السوق من البشر وأغلقت المحلات أبوابها ومثلما باقي الليالي، حاول ماركس النوم ولكن هيهات، فالنعاس لا يأتيه قبل الضياء الأول للفجر وبعد صراع طويل مع الأفكار، حلوها رغم قلته ومرها الذي يسيطر على أغلب ما يدور بخلده. يحضره الآن فولتير الذي أُعجب بالكثير من أفكاره حول الحقوق المدنية وحرية العقيدة ودفاعه عمن يتعرضون للاضطهاد دون وجه حق، وانتقاده الحكم الارستقراطي، والتوزيع غير العادل للثروة، ونظرته النقدية حول فرض الضرائب المجحفة، والعقوبات على أبناء العامة من قبل رجال الحكم ورجال الدين والنبلاء، أيضًا فكرته عن أن الكون قائم على العقل واحترام الطبيعة. ولكن من دراسته لتأريخ الشعوب التي أسهمت في بناء الحضارات الكونية فإن فولتير خلص إلى فكرة عدم الثقة بالديمقراطية، كونها تروج لحماقات العامة والدهماء وكان ينادي بحاكم مستنير منفرد بالحكم ولكنه يستمع لنصائح مستشارين أذكياء. وهذا الحاكم يمكنه دفع القوة والثروة التي يتمتع بها رعاياه في الاتجاه الأفضل. فولتير يفكر بالاستبداد المستنير كمفتاح للتقدم والتغيير. كفيلسوف نابغة كان يثير مثل هذه الأفكار وهو يشاهد الفوضى العارمة التي تعم فرنسا والعالم وما يواجهه الناس من مصاعب ومتاعب.
لن يكون مثل هذا الأمر سليمًا في الكثير من الدول. هكذا فكر ماركس، فهو بالذات ينشد حكم الطبقة العاملة وبناء الاشتراكية لتحقيق دولة العدالة الاجتماعية، دولة يكون الإنسان فيها أثمن رأس مال، ويجزم أن فيها خلاص البشرية. ولكن ما العمل مع بلد يخلو من تصنيف وانشطار طبقي، فالبرجوازية الوطنية طعنت من السلطة فأفرغت ساحتها لصالح تجار الفساد وصناع الجريمة، الذين يمارسون الأدوار المنحطة في مسيرة الاقتصاد والاجتماع، وهم من ولد كل هذه التناقضات والفوضى والأزمات الاقتصادية والاجتماعية دون ان يلعبوا دورًا رياديًا في بناء وطنهم. أما الطبقة العاملة فتبدو في حالة أكثر غرابة وتغريب من البرجوازية، فهي تظهر وكأنها منزوعة طبقيًا، أي لا يمكن وفي اغلب الأوضاع، توصيفها وتصنيفها طبقيًا. فليس من الجائز إدراج كل من يعمل بأجر أو من يؤدي عملاً نافعًا ضمن جوقة العمال، وباستجلاء الموقف فإن أعداد من يدخلون في علاقات الإنتاج الرأسمالية وهم جميع من يبيع قوة عمله وينتج عنها فائض القيمة، عندها يمكن تسميته بالعامل، وفي هذا البلد لا يوجد ما يشير لوجود مؤشر حقيقي لهذه القوة العاملة، ولذا يضمحل الوعي الطبقي الذي يلعبه الفرد وأيضًا الطبقة، والطامة الكبرى أن هلامية الطبقة العاملة جعلت المرء يتعذر عليه وسمها حتى بطبقة لذاتها فكيف والمطلوب في الصراع الطبقي والدور التاريخي أن تكون طبقة بذاتها؟
ولكن أيمكن أن تكون نظرية فولتير في الحكم صالحة للعراق بشكل خاص. فما شاهده من انفلات وفوضى عارمة تتعكز على ما سمي بالديمقراطية والحريات التي جلبها الأمريكان للإفساد وليس للإصلاح، فراحت الناس تتصرف فيها بعشوائية مقيتة بل مهلكة في الكثير من المواقف. ربما من المقنع أن هذه الأفواج من البشر الضائعة تحتاج إلى سلطة ذكية حكيمة واعية لمهامها، وذات برنامج سياسي اجتماعي اقتصادي يحيي البلد وينقذه من الذهاب نحو الفشل والسقوط المريع. وعليها قبل أي شيء آخر منع العامة والدهماء من فرض خياراتهم على الناس، وأن يكون الحاكم شديد المراس قويًا يعرف كيف يوجه رعاياه نحو الفضائل والتغيير والحداثة، ويقف بحزم لمنع التصرفات الطائشة وعصابات الجريمة والحريات السائبة، ولكن من أين وكيف يأتي هذا الحاكم وقد تقاسم الدهماء السلطة وقبضوا عليها بيد من حديد.
ــ أكَعد يمعود، أكعد اليوم جمعة والصلاة على رسول الله محمد.

ــ لست نائمًا فقط أغمضت عيني لفترة وجيزة، كم الساعة الآن؟
ــ هاي هم حلوة.. تسأل على الساعة.. شنو تريد تروح للدوام؟!
ــ كلا، فقط أردت أن أعرف الوقت.
ــ نعم أخويه أستاذ قادر آني يوم الجمعة أفتح من وكت لأن يوم الجمعة يوم مو عادي أولا هو يوم الله والكهوة تنترس بي زباين.
ــ ماذا تعني زباين؟



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google