خمود الفكر العربي، كيف نفسره ؟ *
خمود الفكر العربي، كيف نفسره ؟ *


بقلم: د. رضا العطار - 23-11-2016


أزمات الأجتماع والسياسة في الوطن العربي مقلقة . . ولكن الاكثر اقلاقا، عقم الثقافة والفكر وافلاسهما !.
فإن تكون ثمة ازمة في الامة، معنى هذا ان هناك مخاضا يجري وان شيئا جديدا يتبلور . . او لا بد ان يتبلور في آخر المطاف. . . مهما طال الزمن . .
ولكن ان تصل ازمة الثقافة والفكر الى حد العقم والافلاس مع كل هذه المعاناة التي تعانيها الامة واجيالها من مختلف مجالات الحياة، وبهذه الدرجة من القسوة وشدة التأزم، فهذا يدعو الى القلق حقا، والى الحيرة، والى التخوف على مصير هذه الامة بشكل عميق.
ذلك ان الفكر بطبيعته وفطرته وبحكم دوره في الحياة والحضارة يزدهر في اوقات النكبات، ويتصدى للبحث عن اسبابها ووسائل علاجها، ويغوص عميقا في اسرارها وخفاياها الى ان يقدم لها الحلول ويرسم طرق التجاوز والتخطي وبرنامج العمل وتجديد السير.
فما بال فكرنا العربي في هذه الايام لا يستجيب لهذا القانون . . وما باله يشذ عن هذه القاعدة الحضارية والحياتية ؟ . . رغم كل هذه الازمات والمعاناة والنكبات القومية ؟ هنا مصدر تخوفنا وقلقنا.
فإن ترتفع حرارة الجسم في زمن الحمى . . ذلك هو الشيء الطبيعي . . اما ان يبقى الجسم جامدا باردا فذلك ما يدعو الى القلق العميق . . وسرعة التشخيص والمعالجة . . وفكرنا العربي لا ارى حرارته مرتفعة رغم كل هذه الحمى، بل الحميات العربية . . بل اراه جامدا باردا، ويزداد جمودا وبرودة، فما السر يا ترى . . وما الاسباب الحقيقية لهذه الظاهرة ؟ وهل يستطيع تاريخنا وتاريخ غيرنا ان يسعفنا باجابة ما ؟

في القرن الرابع الهجري شهدت البلاد العربية والاسلامية ازمات اجتماعية وسياسية وحروبا وتمزقا ومعاناة اخلاقية مع اضمحلال الدولة العباسية في عصرها الثاني وظهور الدويلات المتنازعة والكيانات المتصارعة . . لكن الثقافة رغم هذا وبسبب هذا عرفت ازدهارا وتفتحا لم يسبق له مثيل . . ولم تضمحل مع اضمحلال الدولة والمجتمع العباسي . . ولم تصمت وتفلس لفتنة داخلية او لحرب خارجية او لأزمة اجتماعية او اقتصادية.
كان الانسان ما يزال مبدعا، وكانت حيويته السياسية والعسكرية قد خفت بعد اربعة قرون من البذل فإن حيويته الثقافية الفكرية الفنية لم تزل واعدة، بل كانت في اوج ازدهارها . . كان هناك ازدهار في الفلسفة.
وكان ازدها في الفقه واللغة، وكان ازدها في الشعر وازدها في الفنون.
وكبار المبدعين العرب والمسلمين في الشعر والفكر والفلسفة ظهروا في عصر بداية الانحطاط، اي القرن الرابع للهجرة والقرنين التاليين . . المتنبي والمعري والفارابي وابن سينا وابن حزم وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون وعشرات غيرهم من كبار العقول والأفئدة.
اي ان ازمات الزمن وما ينتابها من قلق وخوف ونكبات، لم تقف حائلا دون ظهورهم وابداعهم وعطائهم الثقافي الفكري والفني الرفيع.
اين نحن اليوم من كل هذا ؟ . . وهل يحق لمفكرينا المعاصرين ان يتخذوا من اسباب الازمات العامة مبررا لعدم العطاء . . وعدم الابتكار . . وعدم المبادرة.
حقا ان ازمات الإجتماع والسياسة والحرب تزعزع العقول والضمائر و تضعها في حيرة وقلق.
لكن هذا بالضبط وعلى وجه التحديد، ما يدفع العقول الحية، والضمائر الحية، دفعا الى التفكير والتحليل والتساؤل واعادة النظر لرؤية العالم والحياة والحقيقة على ضوء جديد وبمنظار جديد وروح جديدة.
هكذا تكون نتيجة الحيرة الابداع، ونتيجة القلق الخصب والعطاء، في حياة الفكر المنفتح.
فلماذا اخذ فكرنا هذه الايام من الحيرة وجهها المربك ولم يأخذ وجهها المشرق ؟ ومن القلق جانبه السلبي ولم يأخذ جانبه الايجابي ؟
ولننظر في فترة تاريخية اخرى من تاريخنا العربي الاسلامي المظلم، عندما كان الوطن العربي يرزخ تحت نير الدولة العثمانية التي كانت تتصف بالجمود الفكري والتخلف الطويل، وانتشر فيه السخف والخرافات . . اي عندما واجهنا ازمة طاحنة خارجية وداخلية واصبح وجودنا مهددا على المحك . . لم يركن فكرنا الى الجمود كما يفعل اليوم. بل بدأ يتحرك نحو الإحياء والاصلاح رغم وعورة الطريق وضخامة التحديات وضعف الامكانيات.
وعندما وقع المحظور من جديد بوقوع اغلب ديار العروبة والاسلام في قبضة الإستعمار الغربي، لم تهمد روح الثقافة والفكر . . بل اشتعلت من جديد تقاوم وترسم طريق الخلاص المنتظر . . ورغم وقوع السيف من اليد العربية في تلك الفترة، فإن سلاح القلم لم يسقط، بل اشتد اضاءة.
وكان هناك احمد شوقي والجواهري والرصافي والزهاوي وجبران خليل جبران. وكان هناك هيكل وطه حسين والعقاد وآخرون.
واذا نظرنا الى شواهد من امم اخرى، نرى ان ربيع الفكر الإغريقي جاء في زمن الاقتتال بين الدويلات والمدن اليونانية، وفي زمن الغزو الفارسي لبلاد اليونان، ثم مع حروب الاسكندر وصعوده السريع وسقوطه المريع . . فرغم هذا كان هناك سقراط وافلاطون وارسطو . . وكان هناك التفكير والبحث في المدينة المثالية والفن المثالي والانسان المثالي . . ولم تصرف الحروب والازمات مفكري اليونان القديمة عن ذلك العطاء الفكري الشاهق الذي بقى حتى اليوم من اسس الحضارة الحديثة وجذورها.

وفي روسيا القيصرية ـ عرفت الثقافة الروسية اعلامها الكبار ومجتمعها يعاني المجاعة والازمة الداخلية الطاحنة والهزائم المتكررة على يد الاوربين في الغرب . . وعلى يد اليابان الصاعدة في الشرق.
وكانت تلك المعاناة الشاملة هي وقود ذلك الابداع الروائي في قصص (الحرب والسلم) لتولستوي . . و (الجريمة والعقاب) لديستويفسكي).
ان حرية الفكر قيمة مهمة من قيم الانسان والثقافة بلا ريب، ولكن الفكر الحيوي الاصيل يزدهر بها . . او بدونها اذا لزم الامر . . هكذا يعلمنا تاريخ الفكر في حياة الامم.
ولنفترض ان حرية الفكر لم تحقق بشكل مثالي في مجتمع من المجتمعات، فهذا هو قدر المجتمع الانساني في اكثر اقطاره . . فهل معنى ذلك ان يمتنع مفكروه عن العطاء ويضربوا عن التفكير الى الابد ؟
وهل في هذا التصرف ما يساعد حرية الفكر على النمو ؟ إذن هذا ايضا ليس مبررا كافيا للعقم الثقافي العربي.

* مقتبس من كتاب تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها لمحمد جابر الانصاري



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google