ضفة مشرقة و جميلة لحياة خفية : قصة قصيرة
ضفة مشرقة و جميلة لحياة خفية : قصة قصيرة


بقلم: مهدي قاسم - 13-01-2017
ضفة مشرقة و جميلة لحياة خفية : قصة قصيرة

كلما رأيته بدا لي شاحبا ، كئيبا ، متبرما ، منزعجا ، بمزاج سيء .. كان مظهره مهملا ورثا دائما ، يبدو متضايقا من كل شيء ، كانما أركان الأرض و السماوات على وشك أن تنطبق عليه و تخنقه دون أن تمنحه هبة هواء واحدة ..
حتى كان يبدو أحيانا ، مثل حيوان وجل و ذعر و مرتاب ومتوجس دوما.. ما أن تقترب منه حتى يبتعد لاذا بالفرار والاختفاء في بعد بعيد نحو ضاحية العالم المنسية .. لقد كان يبدو مستوحدا لحد عواء قهرا و كبتا و ألما ، كذئب شبق يحن إلى أنثاه المستحيلة ..
ـــ ربما إنها سنوات الوحدة و الحرمان و الرغبات المقموعة و التي لم تُتح لها فرصة التفتح والتحقق ــ فكرتُ و أضفتُ ــ أو إن ثمة ابتسامة مشرقة ... و دفء احتضان واندماج بجسد أنوثة مترعة ... و قبلة دافئة من حبيبة حنونة ... فتحقيق كل تلك الرغبات المحتبسة في قعر حرمانه المتكلس ، هو ما ينقصه و يعذبه ، قد اعتمل في داخله طويلا طويلا فجعله هكذا يائسا محبطا و فاقدا حتى رغبة العيش ..
ذات مرة رأيته واقفا على جسر شاهق متمايلا كأنه على وشك أن يرمي نفسه في لجة أمواج متلاطمة جارية بدوامات عاصفة و مضطربة ..
سلمتُ عليه بصوت ترحيبي لطيف ، فجفل مرتبكا ، كمن ضُبط متلبسا بوضع محرج و شائن ، فسألني وهو يهم بأنصراف سريع ، فيما إذا كنا نعرف بعضنا بعضا
فقلت له بقليل من المبالغة :
ــ أوه .. طبعا .. فنحن جيران نوعا ما .. ههههه .. نسكن في حي واحد ..
نظر لي نظرة ارتياب و شك من جديد فعاد ليقول :
ــ ولكني لم أرك يوما ..
ــ ربما .. لأننا ــ أقصد بشر هذا العصرــ قلقون وشاردو الذهن بكثرة هموم وشجون ومعاناة .. فلم نعد ننتبه لما يجري حولنا أو يحيطنا من بشر و أشياء .. أنه مرض العصر يا صاحبي انتاب أغلبنا كطاعون جارف و ماحق !..
فكل ما قاله مدمدما وهو يتهيأ للانصراف :
ــ وما لي أنا لكي تقول لي كل ذلك ؟! ..
ــ حقا .. لا شيء .. فقط لأن المصادفة أو المناسبة هي جعلتني أن أقول ذلك .. و ...
ولكنه سرعان ما تحرك ماضيا بخطوات متعجلة وهو يقول بصوت خافت ضاع بين أصوات صفير رياح و تلاطم أمواج وهدير سيارات مسرعة بحيث بالكاد سمعته ..
ــ طز بهذا العالم اللامبالي و القبيح المقعر !.. دعني و شأني رجاء ! ..
لا أدري لماذا صحت خلفه بأن :
ــ آه ! ... بالمناسبة ... عاملة الدكان استفسرت عنك معبرة عن أملها بأن تكون بخير و قالت أنك لم تمر عليها منذ فترة لشراء حاجياتك اليومية ..
توقف فجأة ، ملتفتا نحوي بشيء من اهتمام و فضول بديا واضحين على أسارير وجهه المتجهمة التي سرعان ما لانت وأصبحت ودية بعض الشيء فسألني باهتمام :
ــ تقصد عاملة المحل الواقع في منطقتنا ؟ . .. نعم ؟ .. أجل أعرفها .. فهي بنت لطيفة و حبابة ! .. و لكني لم أعرف بأنها تهتم بي لحد تستفسر عني .. حقا هذا لشيء لطيف منها ! ..حقيقة ..
ــ أجل .. أجل إنها لطيفة و ودية مع الجميع بحكم مهنتها وعملها ..
كنت في هذه الاثناء أمد يدي لأحك جبيني تغطية على حرجي ، لأن عاملة الدكان لم تسأل عنه ولا استفسرت ، ربما أنا لا أعرف عاملة دكان من هذا القبيل ..
ولا أعرف لماذا اخترعت ُ وتخيلت ُحكاية عاملة الدكان هذه ..ربما تكون موجودة فعلا ولكني لا أعلم بوجودها ..
ربما بدافع حرص فعلتُ ذلك ، لأخلق عنده شيئا من الأمل و لهفة في الحياة ، بعدما رأيته متمايلا على حاجز الجسر ، و هو على وشك قفز أهوج في لجة أمواج مظلمة و جارفة ..
و ذات يوم ... بينما كنت سائرا على نفس الجسر تناهت إلى أذني أصوات ضحكات مرحة بفرح و مسرات ، فكم كانت دهشتي شديدة عندما رأيته " هو " متأنقا و بأسارير وجه جذلة و مشعة بغبطة كبيرة وهو يمسك يد آنسة في نزهة مسائية ، وهما يرميان بقايا و فتاة خبز لنوارس جائعة و نهمة ، كانت تجنّح فوقهما بتحليقات أجنحتها المتماوجة علوا و انخفاضا مع أصواتها المستنفرة ، مشكَّلة هالة جميلة لمساء هادئ بأجوائه اللطيفة والحلوة ..



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google