انتفاضة آذار 1991، الشرارة الأولى والتعاطف الاستثنائي لأحرار المؤسسة العسكرية
انتفاضة آذار 1991، الشرارة الأولى والتعاطف الاستثنائي لأحرار المؤسسة العسكرية


بقلم: اللواء الركن جليل خلف - 14-01-2017
فِي صباح يوم 18 تشرين الثاني 1995 كنت آنذاك اشغل منصب ضابط ركن أول في إحدى الفرق في القاطع الشمالي.. رن الهاتف في مكتبي بشكل مستمر.. عند رفعي سماعة الهاتف اخبرني عامل بدالة الفرقة ان ضابط امن الفيلق الخامس يطلبني بشكل عاجل. كان صوته مرتبكا بشكل ظاهر لم يستطع ان يخفيه واخبرني ان شخصية عسكرية مهمة برتبة عالية متجهة الى محافظة اربيل والتي كانت تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني ضمن المنطقة الآمنة ويجب ابلاغ كافة سيطرات الفرقة بإيقافها فورا ولم يخبرني من هذه الشخصية العسكرية المهمة. واخذت أتساءل مع نفسي من هذه الشخصية؟ وبدوري اخبرت السيطرات التابعة لفرقتنا ونفوا ان اية شخصية عبرت سيطرتنا الى الجهة الاخرى. وبعد اتصالي ببقية الفرق الموجودة في قاطع الفيلق الخامس علمت ان العميد الركن نجيب الصالحي رئيس اركان الفرقة الاولى قد اتجه الى محافظة اربيل بسيارته المدنية «اولدزموبيل» زرقاء اللون مع لاندكروز عسكرية وبصحبته بعض العسكريين هذا وقد وضعت كافة سيطرات الفيلق بأعلى درجات الانذار. كان الكثير من الضباط يتمنون هذا الامر، ولكن ذلك يحتاج الى الجرأة والجسارة.. لان هناك عواقب وخيمة تنتظر عائلته وأقرباءه من الدرجة الاولى.. لقد استطاع الاخ نجيب ان يتخلص من قبضة النظام في اللحظة الحرجة، قبل ان يتمكنوا من القبض عليه. هذه الحادثة خلقت ردة فعل كبيرة من قبل الجهات العليا وتشددت المراقبة على الضباط وبخاصة ممن عليهم مؤشرات معينة.. ولكنها في المقابل كسرت حاجز الخوف وأسقطته في نفوس الاخرين.. وكانت بارقة امل للذين يحلمون بالتخلص من النظام والعبور الى الجهة الاخرى الامينة في كردستان العراق.. وكانت الحادثة حديث الساعة لدى ضباط ومراتب وحدات الفيلق بالرغم من ان الاوامر المشددة بعدم الحديث عن ذلك ومراقبة الذين يتكلمون او يتهامسون مع بعضهم؟! أما على المستوى المدني في مدينة الموصل فقد كان للحادث وبهذا الأسلوب من الجرأة أيضا رد فعل كبير اضعف من هيبة النظام وادعائه انه لا يستطيع احد ان يفلت من قبضة الأجهزة الأمنية بالنسبة للعسكريين او المدنيين بل قلل هذا الأمر من أهمية هذه الأجهزة.. وأن بالإمكان التخلص منها.




دخل النظام الأراضي الكويتية في 2 آب 1990 وهو لا يعلم أنه حمل مصيره النهائي وزوال حكمه فيما كان الشعب العراقي وأبناء الجيش رافضين لهذه الحرب بكافة تفاصيلها وفصولها لنتائج معروفة مسبقا ولأول مرة كان التذمر والرفض والانتقاد يجري علنا وبعدة أشكال منه هروب الضباط والجنود إلى الأراضي السعودية والإيرانية أو اتجاه عوائلهم في العراق. وفي بداية القصف الجوي الكثيف لقوات التحالف ضد القوات العراقية في الكويت بدأ التذمر وهبطت المعنويات فتسرب المقاتلون من الضباط والمراتب من وحداتهم إلى عوائلهم داخل العراق. لكن مع الأسف حاول القادة الكبار في القوات المسلحة العراقية تصوير الأمر لرئيس النظام السابق بأن هذا التسرب لا قيمة له ويعادل خسائر معركة واحدة في الحرب العراقية الإيرانية، علما أن معدل هذا التسرب بلغ في الكثير من الوحدات (80%) إذا لم يكن أكثر.




الشرارة الأولى للانتفاضة المباركة




بدأت الشرارة الأولى للانتفاضة من البصرة أطلقها احد المقاتلين الغاضبين من النظام ورئيسه والعائد من جبهات القتال وقد اختلفت الروايات حول الحادث، منها: أنه أطلق قذيفة دبابة باتجاه صورة صدام في مدينة الزبير حولها إلى ركام مما لاقى استحسانا لدى الجنود العائدين من القتال.. وإحدى الروايات تقول انه أطلق الرصاص من بندقيته باتجاه إحدى الصور لرئيس النظام في ساحة سعد في البصرة. وسواء كانت بندقية ام دبابة فقد مثلت التحدي والرفض والسخط على رئيس النظام المخلوع ويبقى هذا حدثا كبيرا في وقته بل شجاعة وبطولة نادرة من قبل هذا المقاتل الثائر وهكذا انتشرت أخبار هذه الحادثة بشكل سريع جدا في كافة أنحاء محافظة البصرة وبقية المحافظات إيذاناً ببدء الانتفاضة المباركة للتخلص من الظلم والطغيان.




لقد مثل هذا الجندي البطل شعور أبناء الشعب العراقي بكافة طوائفه وأعرافه في ضرب وتدمير «الصنم» ليعلن عن رفضه عما حصل ويحصل للشعب العراقي والجيش العراقي الذي شوهه رئيس النظام بحروبه المستمرة التي حولت العراق من أغنى بلد إلى أفقر بلد كما دمر البنية التحتية والاجتماعية للعراق وجعله بلد ملايين الشهداء والجرحى والمعوقين.





في تلك الأحداث المصيرية كنت اشغل منصب آمر لواء 16 وكان الأخ أبو عامر، نجيب الصالحي، يشغل منصب رئيس أركان الفرقة المدرعة السادسة وكان آمر (لواء مدرع/30) الأخ عبد الكريم وكان آمر (لواء المشاة الآلي/25) العقيد محمد علي أما قائد الفرقة فكان اللواء الركن رعد العاني.


وتربطني بالأخ «أبي عامر» روابط متينة فنحن من دورة عسكرية واحدة بالإضافة الى روابط الأخوة والصداقة والمصير المشترك. ومن خلال علاقتي معه كان يتميز بمواقفه الوطنية ورفضه كل مواقف النظام الطائفية والعنصرية ويبدي تعاطفا مع أهل المحافظات الجنوبية بسبب ما تعرضوا له من اضطهاد وقمع وسجون وتعذيب وإعدامات وتهميش لم ينقطع.

ولكوني من سكنة البصرة ومن أهل الجنوب فقد كان الأخ ابو عامر يثق بي كثيرا ويسرني بأمور في غاية الخطورة. واتذكر اجتماعه بنا في 2/3/1991 اليوم الاول للانتفاضة عندما اوصانا بعدم تنفيذ الأوامر التي تؤدي الى إيقاع الأذى بأبناء المنطقة في ناحية «الدير» محافظة البصرة، كما كان لا يخفي تعاطفه مع رجال الانتفاضة واخذ يوصينا بعدم المس بهم أو أذيتهم والتخلص من المواقف المحرجة بأي ثمن كان. والباقي عليه أمام المراجع العليا، وكان ذلك يتم عبر التفاهم والثقة التامة بين آمري التشكيلات ورئيس الأركان بشكل منفرد. وهكذا سارت الأمور حتى النهاية.


حادثة أخرى أتذكرها. بعد استقرار وحدات وتشكيلات الفرقة في ناحية «الدير» قرب مقر الفيلق الثالث، كانت توجيهات المراجع العليا قصف القرى او المنازل التي تخرج منها فوهات نارية ضد المقرات او الوحدات العسكرية وكانت قرب مقر الفيلق قرية صغيرة بائسة. ذكر ان بعض رجال الانتفاضة فيها طلب من تشكيلات الفرقة معالجة ذلك، لكن الاخ «ابا عامر» اجتمع بنا وطلب منا عدم تنفيذ الأمر بالشكل المطلوب خوفا على أهالي القرية وهكذا نفذنا ما اتفقنا عليه.


عانى أهالي البصرة الصامدة الكثير من المآسي والدمار والخراب في ظل هذه الحروب المستمرة وقد توزعت وحدات تشكيلية على معمل ورق البصرة والمناطق المحيطة به وقرب مذخر «الدير» وقد نهبت محتويات هذا المذخر من قبل الأهالي بسبب الجوع الذي تعرضوا له، واستطعت ان أحافظ على عدد من اكياس الطحين والرز وبقية المواد الغذائية كأرزاق للواء. وحدث ان راجعني احد المواطنين هو مع أطفاله وكان يشكو من الجوع والعوز وان عائلته وأهالي المنطقة يتغذون على «طلع النخيل» ولم يذوقوا طعم الخبز منذ فترة وعندها أخبرت ابا عامر بالأمر واتفقنا ان نقتسم الطحين والمواد الغذائية مع أهالي القرية والجنود وهكذا تم هذا الأمر وظهر تلاحم الجنود مع أهالي القرية في الظروف الصعبة.


من ضمن الحوادث كانت هناك منطقة قريبة من ناحية الدير وفيها معمل لكبس وتعليب التمور. حيث قام عدد من اصحاب سيارات الحمل الكبيرة بكسر ابواب المعمل والاستيلاء على آلاف من اكياس التمور زنة (10) كغم وتم تحميلها بسياراتهم واستطاع مقر اللواء ان يستعيد هذه الاكياس من الاسواق وعددها اكثر من عشرة الاف كيس وتم توزيعها على اهالي القرى القريبة بعد الاتفاق مع الاخ نجيب الصالحي. والباقي تم توزيعه لبعض الوحدات العسكرية. وفي احدى المرات وكنت موجودا في مقر الفرقة وكنا نتكلم عما حصل بالوحدات العسكرية وبحضور رئيس اركان الفرقة. وحدث ان ذكرت مواقف بعض المسؤولين الحزبيين وكنت اتكلم بصوت عال وعندها دخل المسؤول الحزبي للفرقة وهاجمني بشدة متهما لي بتشويه سمعة المسؤولين وعندها عاتبني الاخ العميد الركن نجيب الصالحي لعدم ردي على تهجمه غير اني ذكرت انني من اهالي الجنوب وأي تصرف قد يؤدي لاتهامي بمختلف الاتهامات إذا أراد ذلك.


هنا لا بد من ذكر حادثة كادت تؤذينا من قبل النظام بعد تحرك قطعات الحرس الجمهوري باتجاه الضفة المقابلة لشط العرب مقابل قطعاتنا وبعد قصف المنطقة عبر الكثير من أهالي المنطقة باتجاه وحدات لوائي وكانت الأوامر تنص على حجزهم والتحقيق معهم للاشتباه بهم وخوفا عليهم من الأذى اتفقت مع رئيس أركان الفرقة العميد الركن نجيب الصالحي، فأطلقت سراحهم جميعا، وقد أثار هذا الإجراء شكوك أمن الفيلق بسبب إشراك احد من عناصرهم بذلك، وعندها اتصلت برئيس أركان الفرقة وطلبنا منه أن يتلافى الموقف وبدوره استطاع ان يقنع الفيلق بأن الأمر جرى بشكل صحيح وسليم.

لقد كانت مواقف العميد الركن نجيب الصالحي تثير قلقا لدى الأجهزة الأمنية والحزبية، كان ذا شخصية فعالة في الوسط الذي يعمل به اضافة الى كفاءته العسكرية وبسبب هذا كسب الكثير من الضباط والجنوب وأحبوه كثيرا وكانت عيون الأمن والسلطة تتربص به وتترصد به وتترصد حركاته أولا بأول، وقد تعامل بذكاء وحكمة كبيرين مع هذه الامور. لقد رسموا له «خطا احمر» من ناحية توليه المناصب العسكرية لا يمكن تجاوزها فكان اخر منصب له رئيس اركان الفرقة وهذا المنصب ايضا خطا وقع فيه النظام ولكن ظروف الحرب هي التي أجبرته على ذلك. لان إعطاءه أي منصب قيادي معناه تشكيل خطر على النظام. وبعد انتهاء الحرب وتحرير الكويت اخذوا ينقلونه من منصب لآخر وجميع هذه المناصب غير مؤثرة أو قيادية ولا تتناسب مع كفاءته العسكرية او خدمته العسكرية، والله العالم ماذا كان النظام يخبئ له لو لم يكن قد استبق الأحداث بانتقاله إلى المعارضة العلنية في جغرافية لم تكن تحت سيطرة السلطة.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google