قراءة نقدية لقصيدة للدكتور فرج ياسين
قراءة نقدية لقصيدة للدكتور فرج ياسين


بقلم: د. باسل مولود الطائي - 19-01-2017
اعتمدت قراءتنا لقصيدة (الطريق) لكاتبها فرج ياسين على محورين أساسيين هما السردية والوصف, فضلا عن كشفها على رؤيته الشعرية في أبعادها الأربعة: الإنسان, والقصيدة, والتشكيل الفني, والذاتي والموضوعي وأفصحت عن مظاهر الحزن ومشقة الحياة في تجليات مظهر واحد هو(رحلة العمر). وتتخذ هذهِ القصيدة من الإنسان المحور الأساسي لها.

أولاً- السردية في القصيدة

لعل تلك الحدود التي أقامها النقد بين الأجناس الأدبية المختلفة حالت حتى وقت قريب دون تداخلها, فكل جنس لهُ خصائصه الجمالية وكل جنس له لغته ومنهجه الخاصان, اللذان لا يشاركه فيها جنس آخر.

ولقد دخلت القصيدة الحديثة أبواباً جديدة في سبيل توكيد حداثتها ويُعد السرد والحوار من أكثر هذهِ التقانات حضوراً في القصيدة المعاصرة (قصيدة النثر).

الطريق ********

منذ زمنٍ طويل,

منذ أن بدأتُ أدبُّ على الطريق منفرداً

عكازي يتعثّر بالحجارة

وصُرّتي على ظهري,

رأيته ألف مرّة.

كان يظهر لي بشتّى الأشكال والألوان والصفات,

وعَبر مسيرتي الشّاقة تلك؛

تأكد لي بأنه لم يكن شيئاً واحداً

مع أنه في كل مرّة,

كان يقول لي: أنظر, أنظر

أنا هو الماء الذي يموجُ في ذلك السراب,

فأصرفُ عنه نظري

وأواصل السيرْ.

إذ يعمل تناوب السرد والحوار في تشكيل قصيدة (الطريق) لفرج ياسين على تنوع الايقاع, وبدأت بداية سردية عبر ايقاع بطيء بعض الشيء, إذ بدأ حضوره ثم اتجه الخطاب نحو التفصيل والدخول في الجزئيات واستلهام أجواء ذاتية تقترب من المونولوج الداخلي (Flash Back), وبذلك استدعى إعمال الذاكرة التأملية وما فيها من بطء وهدوء ينسجم مع الأسلوب الحكائي الذي جاء عليه السرد.


هذا البطء الإيقاعي ما لبث أن تحرك بسرعة أكبر حتى انتقل السرد في هذهِ القصيدة إلى تقديم بنية حوارية تقليدية.

ومنذ زمن بعيد

منذ أن بدأت أدب على الطريق منفرداً,

تتوزع بعده جمل حوارية أخرى لم تخضع للأسلوب البنائي المعروف في تشكيل بنية الحوار بالأفعال التالية: (يتعثر, رأيتهُ, يظهر) إذ غابت أطراف الحوار وظهرت نتائجه اللغوية فقط في شكل برقيات, ثم عاد الايقاع إلى سكونه وهدوئه عندما عادت هيمنة السرد مرة أخرى بالأسلوب الحكائي نفسهُ ليقدم مزيداً من التفاصيل والجزئيات في تصوير الحالة الشعرية (لهذهِ القصيدة).

تنتقل بعدها هذهِ القصيدة إلى خاتمتها السردية لتختم ايقاعها ببطء وثقل كالذي ابتدأت به بعد أن قفلت الحكاية بآخر عرض تفصيلي:

أنا هو الماء الذي يموجُ في ذلك السراب,

فأصرفُ عنه نظري

وأواصل السيرْ.

لقد تمكن هذا النص الشعري من استيعاب الكثير من خصائص النص السردية, وقد تمكن من إيصال شفرته.

ويقدم لنا الأديب فرج ياسين في هذهِ القصيدة رؤية سردية تجمع بين المنظور السيكولوجي الداخلي والحوار الخارجي, ويقدم الراوي أيضاً الكون الشعري في القصيدة بوصفه عالماً مفهوماً, يسود فيه التعب والارهاق والمشقة.

يمزج الكاتب في هذا النص الشعرية والصوفية, فالفنان في عملية الخلق الفني أشبه بالصوفي, ورحلته للوصول إلى إبداعهُ تشبه رحلة الصوفي الذي يرتقي ضمن جدل حميمي بين المقامات والأحوال ليصل إلى غايتهُ في الشهود والتخلص من أغلال النفس والجسد, فالتلقائية في التجربتين الشعرية والصوفية والاستناد إلى المكابدة الداخلية والكفاح الذاتي للوصول إلى حالة الصفاء العقلي والقلبي, يجعل التجربتين متداخلتين مع اختلاف الدافع والغاية, ولكنهما تتوحدان في المنبع, إذا أن كلتيهما تستندان إلى الحفر في الذات للوصول إلى الغاية, لذا يصبح الحدس الصوفي/ الشعري طريقة حياة وطريقة معرفة في آن واحد ونتصل عبره بالحقائق الجوهرية, وبهِ نشعر أننا قادمون بلا نهاية, إنه يرفع الإنسان إلى فوق الإنسان حيث يتخطى الزمن في قصيدته.

ثانياً- الوصف في القصيدة

كان الوصف في هذهِ القصيدة ذو قيمة تصويرية محضة هيَّأ الكاتب للخطاب مسرح الأحداث, كما جسد هيئة الأشياء, الشخوص, الأمكنة, وعرض ملامح الأزمنة, وقد تجلت لنا في النص الشعري حيث حدد الأشياء المعنية بالوصف ورصدها, في إطار العناصر والتنسيق معها وساهمت معها في تقديم الصورة ذات الدلالة, وبالتالي قام الوصف بإقصاء عناصر أخرى لا يهم حضورها في تشكيل ملامح الصورة.

ومحلل التشكيل في القصيدة, يجد نفسه مع الكلمة سواء كانت اسماً أم فعلاً, وقد حملت داخل السياق الشعري معاني وإيحاءات متعددة وهذا التشكيل قد برز من خلال التراكيب اللغوية والنحوية المختلفة في هذا النص: (الفعل, النعت, الإضافة, التكرار) وأسس كوناً شعرياً يتراسل مع الحواس وحقق تصويراً معبراً واستثمر فيه الكاتب مراحل عمره وتفاصيل حياته الخاصة في صور عادية ومعهودة وبسيطة, وقد انتظمت في هذا النص وجعلها ايحائية.

ويلوح في هذا النص التشكيل الثنائي الرائع (السرد والوصف) وقد اقترب بهما من واقع الحياة المعيشية وخبراتها... التي تموج في داخل النص وقد نقل لنا الكاتب هذهِ الخبرة وأوصلها إلى المتلقي على نحو مميز.

تميز الوصف بهذا النص الشعري بخصائص عدة, فرج ياسين لا يتجشم عناء الوصف والتصوير وإنما كان يجريهما في ثنايا كلامه كالمرتجل في غير ما حد أو رويّة, وقد حرص على أن يرهف لغته ويشحذها ويفجر فيها من الطاقات التعبيرية ما يمكنها من استيعاب رؤيته الشعرية مستعيناً بخبرته الطويلة وتقاناته العالية المعهودة, رسم لنا الحياة اليومية وتصوير الواقع وأدواته البسيطة بشكل رائع وكشف لنا بها المستور والمخفي وقرب لنا البعيد.

ويتضح لنا من خلال قراءتنا للنص أن الكاتب لا يعتمد في وصفه طابعاً سكونياً جامداً, وإنما يقرنه بالتمهيد للسرد, وقد امتزج به على النحو الذي شهدناه في مقاطع القصيدة, فالوصف قد حمل بُعداً رهيف الاثارة من خلال الكثافة الخاصة التي أعطاها لبعض الاشارات القائمة في النص.

عكازي يتعثّر بالحجارة

وصُرّتي على ظهري,

رأيته ألف مرّة.

اعتمد الكاتب هنا في بناء النص الشعري على الحدث أكثر من الوصف.

كان يظهر لي بشتّى الأشكال والألوان والصفات,

وعَبر مسيرتي الشّاقة تلك؛

تأكد لي بأنه لم يكن شيئاً واحداً

مع أنه في كل مرّة,

كان يقول لي: أنظر, أنظر

|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|

تعرفنا على الشخصية الموازية في هذهِ القصيدة على القرين الذي يتداخل مع شخصية كل إنسان وأوضح لنا الكاتب مداخلة القرين بشكل فعال ومؤثر في صياغة النص من خلال أحداث وإيماءات وهواجس فعلها من خلال السرد وليس من خلال أوصافه.

أما المشهد الآخر الذي يقوم على ثنائية الوصف والسرد, فإنه وصف قام على رصف أجزاء المنظر رصفاً متتابعاً سريعاً حافلاً بحركة تضفيها عليه الأفعال المضارعة (بدأت, أدب, يتعثر, رأيته) وكل ذلك في إطار رحلة طويلة ثم تراه يستعين بعناصر الطبيعة ليملأ المنظر بالأحداث والشخصيات والحركة.



أنا هو الماء الذي يموجُ في ذلك السراب,

فأصرفُ عنه نظري

وأواصل السيرْ.

وباكتمال المنظر من وجهة نظر الرؤية القصصية, تصبح الطبيعة إطاراً لمجموعة الأحداث الصغيرة التي شحنت المنظر لعرض موضوعه.

وقد يتبادر إلى الذهن أن الشعر الذي خيرناه في هذهِ القصيدة يتنازل عن شيء من بهاء لغته, وزخم مجازاته حين يدخل تخوم القصة لكنه لم يفعل ذلك في هذهِ القصيدة.

إذ أجبر خاطرنا الشاعر وخالف القاعدة وأتى لنا ببدائع اللغة وأبدع في بلاغة النص وجميل اللفظ.

كان يظهر لي بشتّى الأشكال والألوان والصفات,

وعَبر مسيرتي الشّاقة تلك؛

تأكد لي بأنه لم يكن شيئاً واحداً

مع أنه في كل مرّة,

كان يقول لي: أنظر, أنظر

|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|*|

أنا هو الماء الذي يموجُ في ذلك السراب,

فأصرفُ عنه نظري

وأواصل السيرْ.

في هذا المقطع اعتمد على الوصف, وايقاع سرده جاء هادئاً وكان أكثر هدوءاً وسكوناً مما سبقه انطباقاً مع القاعدة التي تقول: (إن إيقاع أسلوب السرد, ووصف الأمكنة لابد من أن يكون أكثر ميلاً إلى الهدوء والبطء من إيقاع أسلوب المحادثة والحوار).

بانتهاء هذهِ القراءة تبين لنا مركزية الإنسان في نص القصيدة وقد أرخ لنا الشاعر الحياة الروحية لشخصية البطل وترصد جدله الداخلي ورؤيته النفسية والعالم, ومزج بين الشعرية والصوفية في هذا النص الشعري وتبين أن اللغة أخذت أشكالاً عالية التنظيم, وكانت في أقصى طاقاتها, وهذا ما قدمناه ولغيرنا أن يقدم قراءته في جوانب أخرى. وفي النص سعة لأكثر من قراءة ومن الله التوفيق.

*** وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ***


باسل مولود يوسف



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google