34 الله: أبوته للإنسان وتجسده فيه وذكورته
34 الله: أبوته للإنسان وتجسده فيه وذكورته


بقلم: ضياء الشكرجي - 05-02-2017
[email protected]

هذه هي الحلقة الرابعة والثلاثون من مختارات من مقالات كتبي الخمسة في نقد الدين، حيث سنكون مع مقالات الكتاب الثاني «لاهوت التنزيه العقيدة الثالثة»، وتتضمن أربعة مواضيع، بنوة الإنسان لله، تجسد أو حلول الله في إنسان، وذكورة الله، وخطأ للإسلام تجاه المسيحيين.

بنوة إنسان أو عموم الناس لله

العلاقة بين البشر المخلوقين وبين الله الخالق تطرح من قبل الأديان الإبراهيمية المختلفة على نحوين؛ فهناك علاقة (البنوة - الأبوة) من جهة، وهناك علاقة (العبودية - الربوبية) من جهة أخرى. ولكل من المفهومين ثمة معنى جميل، لاسيما إذا فهم بمعنى مجازي عرفاني، فيما تتحدث به لغة القلب، وليس بمعنى حقيقي لاهوتي، فيما تتحدث به لغة العقل؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فعلى كل منهما ثمة إشكال يثيره هذا أو ذاك الطرف. ونحن هنا، باعتبار أن كتابنا يناقش القضية مناقشة عقلية محضة، أي بحيادية دينية تامة، ليس من شأننا دعم هذه المقولة أو إضعاف تلك، بل إن بحثنا عقلي فلسفي محض، أو لا أقل يسعى ليكون كذلك، ما استطاع إليه سبيلا، ذلك في ضوء فهم للمصطلحات اللغوية، كلغة تتحرك بأدوات التعبير الحقيقي والمجازي وغيرها. وكما بينا، فمثلما أن على كل من المفهومين ثمة إشكالا قد يثار، نجد أن لكل منهما معنى جميلا، إذا فهم فهما دقيقا [أو أُوِّل إلى معنى مناسب]، ومن زاوية الموضوعية النائية عن التحيز الديني. المأخذ الذي يؤخذ على مفهوم (العبودية - الربوبية) أن فيه ثمة خدشا لمشاعر الإنسان، وسحقا لكرامته، بوضعه موضع العبد المملوك المُتصرَّف به من قبل ربه ومالكه كيفما يشاء. بينما المأخذ الذي يؤخذ على مفهوم (البنوة - الأبوة) أنه يخل بتنزيه الله سبحانه وتعالى عن مجانسته لمخلوقاته، مما يتعارض مع المفهوم العقلي الفلسفي للتوحيد والتنزيه، في إطار دليل واجب الوجود الكامل المطلق المنزَّه الفرد الصمد البسيط الغني. أولئك يدافعون عن كرامة الإنسان، التي توجب تنزيهه عن العبودية، وهؤلاء يدافعون عن كمال الله، الذي يوجب تنزيهه عن أن يكون له ولد، أو أن يكون له كفوا أحد. ولكننا نجد مع كامل التفهم لكلا الإشكالين، أن بالإمكان أن تُستوحى من كل من كل من المفهومين (العبودية والبنوة) أجمل المعاني. فالمشكلة فيمن يثير هذا الإشكال أو ذاك، هو الغفلة أو التغافل عن استعمالات اللغة البلاغية، ومنها المجازات كما في الحالتين، كما إن المشكلة في الذين حولوا لغة الشعر إلى لغة رياضيات، فحولوا المعنى العرفاني المجازي إلى معنى حقيقي لاهوتي. فإن معنى العبودية لله سبحانه، إذا فهم فهما دقيقا، فهو الذي يحقق للإنسان تمام كرامته، ولا ينتقص منها. ففهم الإنسان للعبودية والربوبية في ضوء عقيدة التوحيد، بمعنى استشعاره لمعنى انحصار عبوديته لله، وتفرد الله في الربوبية له، يخلع عنه كل ألوان الرق لغير الله، سواء كان رقا بالمعنى الحقيقي، أو رقا بالمعنى المجازي، من حيث خضوعه لاستبداد الطغاة، ومغريات المال والمنصب والشهوات على حساب كرامته وحريته، يكون بذلك قد حقق لنفسه الحرية والكرامة الحقيقيتين، وهذا ما يعبر عنه قول علي: «كفاني عزا أن أكون لك عبدا، وكفاني فخرا أن تكون لي ربا». إذن مشكلة من لا يرتاح لهذا المفهوم، هو الخلط بين عبودية الإنسان لله حصرا، وبين عبودية الإنسان للإنسان، أو لأي كائن ولو كان معنويا، إذ الإنسان المالك للرق يمكن أن يتعسف ويظلم ويتصرف بعبده، مصادرا حريته وإرادته وكرامته، بيعا وشراءً وإهداءً أو عتقا عندما يشاء هو، لا عندما يشاء المستعبَد، ولا نقول العبد، وتوزيع الناس إلى سادة وعبيد يهدم ركنا إنسانيا مهما، ألا هو ركن المساواة. بينما الله عدل لا يجور، ورحيم رؤوف ودود، يحب أن يرى عبده متمتعا بحريته، محافظا على كرامته، صائنا إنسانيته. ثم العبودية لله حقيقية، فكما إننا لا نستطيع أن نعد القول بأن فلانا تلميذ لفلان، وذاك أستاذه، هو انتقاص من كرامة التلميذ وإنسانيته، وكما إن القول بحقيقة أن فلانا أو فلانة هو ابن أو ابنة فلان أو فلانة لا يمكن اعتباره تقليلا من شأن من يكون في موقع البنوة مقابل من يكون أو تكون في موقع الأبوة أو الأمومة، إذا ما اعتبرت الأبوة والأمومة منزلة أعلى من منزلة البنوة؛ كذلك لا يمكن اعتبار القول بأن الإنسان هو عبد الله ومخلوقه ومملوكه تقليلا من كرامة الإنسان. ثم إذا نظرنا إلى القضية بعقلية رياضية، فالإنسان كرقم من الأرقام، ومهما كان كبيرا، يكون أمام رقم اللانهاية صفرا إذا قُسِّم عليه، بينما مفهوم العبد ليس مساويا للصفر، بل هو رقم كبير يستمد قيمته بمقدار ما يتحلى بروحية العبودية لله، والتي لا تكون عبودية حقة إلا بتوحيدها وإخلاصها لله، وهنا تتحق الكرامة، بل والسيادة الإنسانية بأقصى أبعادها، وذلك بنفي العبودية كليا لغير الله. ثم أن يكون الإنسان عبدا لله حق العبودية، يعني انسجامه الكلي مع قيم الله، ويعني بالتالي تحقيقا لإنسانيته وتألقا وسموا بها، بمعنى أن تحقيق غاية العبودية لله لا يتم إلا بتحقيق غاية التأنسن.

وهكذا بالنسبة لمفهوم (البنوة - الأبوة)، فإنه إذا لم يفهم بالمعنى الحقيقي للأب والابن أو الأبناء، بل يراد منه التعبير عن العلاقة الحميمة بين الإنسان وربه، حيث يرعى الله الإنسان بحنان ومراعاة وحب، كما يفعل الأب، أو تفعل الأم مع أطفالهما، ويشعر الطفل بالدفء والحماية والأمان والحب والثقة في أحضان الأبوين، وهكذا يشعر الإنسان في علاقته مع الله، فهذا معنى مجازي، أو قل عرفاني، في غاية الجمال والرقة والتعبير. علاوة على مسؤولية الأب أو الأم في رعاية أطفاله أو أطفالها. وما رفض هذا المفهوم من قبل من يرفضه، إلا لكونه تحول عند البعض إلى عقيدة تتبنى المعنى الحقيقي للبنوة والأبوة، وخاصة فيما يتعلق باستخدامه للعلاقة بين المسيح عيسى بن مريم وبين الله. فالمسيح كان [حسب اعتقاده وتفاعله، أو حسب اعتقاد المؤمنين به] ابن الله بهذا المعنى العرفاني الذي أشرنا إليه، وهذا شبيه بتسمية أنبياء وصالحين بـ«خليل الله»، و«حبيب الله»، و«ولي الله». [هذا كله بقطع النظر عن استحقاقه، واستحقاقهم، لهذه النعوت، ونسبتهم بها إلى الله.] فالعقل الفلسفي لا يتبنى البنوة لله بمعناها الحقيقي العقائدي أو اللاهوتي، ولكن لا يرى ضيرا في استخدامها بالمعنى المجازي العرفاني.



ذكورة الله

مفهوم (الأبوة) المنسوب لله، والذي ناقشناه آنفا، يجرنا إلى مناقشة ما إذا كان معنى الأم هو الأرجح نسبته إلى الله مجازيا وعرفانيا من معنى الأب، إذ الأم أحن وأرق وأعطف وأدفأ، ولكن ربما اختير الأب، كونه الأقوى والأسيَد، ولعله الأحكم، والأكثر حزما، بحسب العرف السائد، لاسيما في عصور النبوات، والذي كان عصر الهيمنة الذكورية، وليس في عصرنا، عصر مساواة المرأة بالرجل. ولكن كون علاقة (البنوة - الأبوة) إنما يراد التعبير بها عن دفء العلاقة، لذا كانت الأمومة ستكون هي الأبلغ تعبيرا عن هذا المعنى، لاسيما أننا نعلم أن الله يتعالى عن اتصافه بالذكورة أو الأنوثة، ولكن الغريب أن كل اللغات التي تشتمل على التذكير والتأنيث قد ذكَّرته سبحانه ولم تُؤنِّثه أيّ منها، أو تُحيِّد جنسه، تعالى الله عن التجنُّس والتذكُّر والتأنث. ولعل تذكير الله لغويا متأت من هيمنة ثقافة المجتمع الذكوري لآلاف من السنين، وما كان للوحي إلا أن يأتي بلغة الناس، لأنهم هم المعنيون بمخاطبته، وهذا يستوجب مخاطبتهم بلغتهم هم وبأدوات لغتهم. ومع هذا لا نجد في كتاب مقدس من كتب الوحي ما يُنزّه الله عن الذكورة بالمعنى الحقيقي البشري للذكورة، فيشير - كما كان يجدر الإشارة إليه - إلى أن الذكورة شأن لغوي اعتباري، لا غير، وإنها بمعناها الحقيقي من صفات المخلوقين، وليست من صفات الخالق. ولو كانت كل اللغات تشتمل على ثلاثة أجناس؛ المذكر والمؤنث والمحايد، لكان الأقرب إلى تنزيه الله سبحانه استخدام الجنس المحايد، وهكذا بالنسبة للأشياء غير المتصفة بالجنس. ولكن اللغات عند تكونها لم تكن تعتمد المنطق والفلسفة والقانونية إلا بشكل محدود. [في حدود اللغات التي اطلعت عليها، واطلاعي بلا شك محدود، وجدت اللغة الفارسية، كلغة وحيدة، في حدود ما ذكرت، لا تميز بين الذكر والأنثى، لا بالضمائر، ولا تصريف الأفعال، ولا الصفات، فحتى الضمير الثالث، الذي نجد في أكثر اللغات تمييزا بينهما، كالإنگليزية (he/she) والألمانية (er/sie)، مع إن الألمانية هي الأقرب للعربية فيما هو التذكير والتأنيث، باستثناء الضمير الثاني، وكذلك في كثير من قواعدها؛ أما الفارسية فالضمير الثالث للمذكر (هو) والمؤنث (هي) على حد سواء (أو).]



خطأ تجاه المسيحية له إيجابياته وقع فيه الإسلام

إذا ما سلّمنا بما أذهب إليه يقينا من أن الإسلام ليس إلهي الإيحاء، بل محمدي التأسيس - سواء ابتكارا أو اقتباسا وتحويرا أو تتلمذا -، يمكن القول أن مؤسس الإسلام قد ضيّع به على نفسه فرصة كسب الكثير من مسيحيي العالم لدينه الجديد آنذاك. فلو كان الإسلام أقرّ مقولتين مركزيتين للمسيحية، مع تعديل طفيف، يجعلهما أكثر انسجاما مع أسس الإسلام وفهمه لأصلي التوحيد والنبوة، فلربما كان قد انضم إليه إما نصف أو ثلاثة أرباع أو على أقل التقديرات ثلث المسيحيين. إحداهما تتعلق بالأصل الأهم من أصول العقيدة المسيحية، والثانية تمثل حدثا تاريخيا حقيقياً، أو مدّعىً، أو متوهَّماً. ما كان على الدين الجديد فيما يتعلق بالحدث التاريخي، إلا أن يقرّ بصلب المسيح، ربما مع إضافة قوله برفع الله للمسيح إليه، ولكن بما يلتقي بقدر ما مع قيامه بعد صلبه الذي يؤمن به المسيحيون. ثم لو كان، فيما يتعلق بالأصل العقائدي، قد أقرّ وصف المسيح بصفة (ابن الله)، مع منح هذه الصفة معنى مجازيا عرفانيا، ينفي به علاقة الأبوة والبنوة بين الله والمسيح بمعنييهما الحقيقيين، ويقرهما بمعنييهما المجازيين العرفانيين، ولو كان قد خفف من هجومه في القرآن ضد المسيحيين واليهود وعقائدهما، بل دحض بموضوعية وبلغة تتسم بالاحترام من تلك العقائد، مما يعتبره غير مطابق للحقيقة، لكان قد كسب الكثيرين منهم، ولو على مدى المستقبل الممتد على طول الزمن، وليس بالضرورة عبر تحقيق النجاح العاجل والكسب السريع. لكني أقول حسنا فعل الإسلام إذ لم يفعل ذلك، مما كان سببا للحدّ من انتشاره، لأن الإفرازات السلبية على البشرية كانت ستكون أشد وأدوم. [وكما كنت قد قلت حسنا فعل المسلمون، إذ لم تتقبل الأكثرية منهم الاتجاه العقلي للمعتزلة وإخوان الصفا وابن رشد، كي يصلنا الإسلام الأكثر تزمتا، والأبعد عن العقلية والعقلانية وروح التسامح، فهذا كله مدعاة للتعجيل بإعادة النظر في إمكانية التفكيك بين الدين والإيمان، ولو بعد قرن من الآن. ثم حتى لو فعل مؤسس الإسلام ما اقترحته عليه هنا، ربما كان من الصعب أن يستجيب المسيحيون الذين تعلموا من المسيح اللاعنف والتسامح لدين يدعو لقتال غير المؤمنين به، والذي كان متأثرا بالنهج الموسوي المقاتل، أكثر منه بالنهج اليسوعي المسالم، ومن هنا كان ذكر موسى في القرآن بما لا يساويه ذكر أي نبي غيره بما.]



تجسد الله في إنسان والتناسخ والحلول

عقيدة التوحيد [والتنزيه] الفلسفية، أي المحايدة دينيا، تقرر أن واجب الوجود منزه عن المادة والتحيز المكاني أو الزماني، لأن كل ذلك من خصوصيات الوجودات الممكنة الحادثة المفتقرة إلى العلة، والمحدودة في وجودها بحدود الزمان والمكان. أما القول بأن الله باعتباره مطلق القدرة غير ممتنع عليه أن يحل في إنسان، أو يستحيل إنسانا، أو يتناسخ من إنسان إلى إنسان، فيُرَدّ عليه أن ما يقال أنه ممتنع على الله ليس بمعنى عجزه عن ذلك تعالى الله علوا كبيرا، بل بمعنى الامتناع العقلي، كامتناع عدم وجود الله، وامتناع فقره إلى العلة، وامتناع حدوثه، وبالتالي لاأزليته، وامتناع الظلم والجهل والعبث، وكذلك العجز عليه، فلا يمكن فهم القول بامتناع العدم على الله أنه عاجز عن أن يُعدِم نفسه، أو امتناع العجز عليه أنه عاجز عن أن يُعجز نفسه، وهكذا بالنسبة لكل الكمالات، فامتناع النقص عليه، لا يعني عجزه عن التحول من كامل إلى ناقص سبحانه وتعالى عن كل ذلك، فليس من الكمال تحوّل الكامل إلى ناقص، أو إلى أقل كمالا. وهذا يشبه القول أن العدد لا يمكن إلا أن يكون إما فرديا وإما زوجيا، فإننا لا نتكلم عن عجز العدد، فالعدد لا يصدق وصفه بالقدرة أو العجز، بل يجري الكلام عن الوجوب والامتناع والإمكان العقلي الرياضي. من هنا فكل أنسنة لله انتقاص من تنزيهه، وكل ألهنة للإنسان غلو في الإنسان المُألهَن أو المؤلَّه، وشرك بالله، ولا أستخدم مفردة الشرك هنا بالمعنى الديني المثقل بروحية كراهة الآخر وتكفيره، بل كتشخيص حالة، كما يوصف قصير القامة وضعيف النظر وسقيم البدن، دون أن يكون ذلك انتقاصا من إنسانيته وكرامته، بل كتوصيف موضوعي، خال من الأحكام القيمية السلبية.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google