أولُ طفلٍ شهيدٍ في العراق. لم يَقرأْ العراقيون نُذُر الغد.
أولُ طفلٍ شهيدٍ في العراق. لم يَقرأْ العراقيون نُذُر الغد.


بقلم: د. عبدالحميد العباسي - 11-02-2017
الطفل الشهيد حيدر عبدالحميد العباسي
ساعة مصرعه
كان بودي ان أفرِدَ لهذا الحَدَثِ فصلا في كتابي, *غيومُ البارحة والعدُّ التنازليُ في العراق*, دار السياب للنشر, القاهرة 2008
والذي كتبت جُلَّهُ قبل التغيير ولم يتسنَّ لي نشرُه الا بعد سنوات. كان من المناسب ان ترافق الفصل,إياه صورة الطفل الشهيد. ولم يكن ولن يكون جائزا أن تُزاحمَ صورةَ الزعيم, التي زَيَنَتْ الكِتابَ, صورةٌ اخرى.

رُزقتَ, عام 1968 وانا في زمالة دراسية في جامعة كولارادو الامريكية, رزقت بطفلٍ أسمَّيتُه *حيدر*. وبعد يومين أو ثلاثة من ولادة الطفل وصلتني من الخارجية الامريكية شهادة الولادة ورسالة بتوقيع *دين رسك*, وزير الخارجية يباركُ لي المولود. عُدتُ الى *وطني* بعد اكمال دراستي, التي كانت حصيلتُها أن اقمتُ, لاول مرة في العراق, مركزَ الكلية الصناعية ومركزَ الفحص بموجاتِ فوق الصوت (السونار والايكو). وحال وصولي مطار بغداد, واجهني وجهٌ كالحٌ بائسٌ, مِن تلك التي وُضِعَت في واجهة المطار بقَصْدِ إعطاء زُوار العراق, انطباعا سيئا عن العراق واهله. إلتفتَ الَيَّ *مكشخلا: هذا شنو حيدر, جايبة؟*, قلتُ اولُ الغيثِ قَطر, ثم يَنهَمِر.

وإذ قارب الطفل الثالثة, ادخلته روضة *ميكي ماوس* في مكانٍ هادىءٍ في *المنصور*, كانت تدير الروضة سيدة من السفارة الفرنسية, هكذا فهمت. وبعد بضعة اشهر سمعت ان صدام, أدخلَ إبنيه عدي وقصي الروصةَ, إياها. شعرت ان تلك الروصة لم تعد مكانا أمنا وانها واطفالها ومنهم ولدي قد يُستهدفون من اعداء النظام. قررتُ أخذَ طفلي الى الخارج فترة الصيف التي غالبا ما تكون حبلى بالاحداث, الا أن اجازة والدتِه رُفضت وبقي الطفل في الروضة.

في صباح 2 آب 1971 فجَّرَ احدُهم مفرقعاتٍ امام السفارة الليبية القريبة من الروضة, إحتجاجا على انزال القذافي طائرة قادمةٍ من لندن تحملُ بعثيين مؤيديين لمحاولة انقلابٍ عسكري فاشل في السودان, انقلاب كانت تُؤيدُه حكومة *البعث* في بغداد (وباقي القصة معروف).
اختبأ مُفجرُ المفرقعات في حديقة روصة الاطفال التي لم تكن تبعد كثيرا عن موقع السفارة, ولم يشعر به احد, هكذا قال العاملون في الروضة, مُعلمات و مُعينات وكان الاطفال يلعبون في باحة الروصة على مَقربة من مَدخلها. وحال سماع الانفجار هَرَعَ مفوضُ أمنٍ من مركز شرطة المنصور وبَدَلَ ان يتجهَ, صوب الإنفجار, توجه في اتجاه معاكس, نحو الروضة. واخذ يُطلق النار عشوائيا حال وصوله مَدخل حديقة الروصة, فاصاب ولدي ولولا ان عاجله الجاني باطلاقة ولولا هَلعُه وانهياره وعناية الله, لوقعت مجزرة بباقي الاطفال.

ادخل الاطفال الى غرفة المعلمات واسرعت مديرة الروضة بولدي المصاب الى مستشفى اليرموك, فرفض الطبيب اسعافه قبل جلب ورقة من مركز شرطة المنصور, فعادت المديرة ادراجها نحو مركز شرطة المنصور ومعها الطفل والرصاصة في صدره. وفي طريق العودة الى المستشفى. لفظَ الطفلُ أنفاسَه. وفي المستشفى أبلغت انهم ارسلوا الطفل, الى الطب العدلي. وفي الطب العدلي حاولت اثنائهم عن تشريحه لاني, كا قلت لهم, لم اكن انوي مقاظاة احد. ظل استاذي القيسي,مدير المعهد, يماطلني لحين اكمال التشريح لمعرفة *سبب الوفاة إإ*,كما رفضَ الحاكم (محمد الخضار) طلبي فائلا *ان التشريح لازم لمعرفة سبب الوفاة* وكأن سبب الوفاة غير معروف: طلقٌ ناريٌ نافذٌ الى الصدر ظاهرٌ لكلِّ ذي عين. مدخل الرصاصة جانب الصدر تحت عظم الترقوة الايمن. فالسلاح, إذن,كان مُوجها بمستوى اوطىء من قامة طفل عمره اقل من 4 سنوات في حين كان الشخص المُطارَد يقف الى جانب شجرة بعيدا في الجانب الاخر من حديقة الروضة. مُنح مفوض الامن وساما وترقية لقاء فعلته. لم يأت الروضة اولاد صدام, ذلك اليوم (لم يداوموا)إ

اخذت الطفل الى بيتي. في اليرموك وفي خِضَم الصراخ والعويل, جاءت والدتي, فاذا بها تدخل الدار لتملأ المشهد بالزغاريد وكان عرس الشهيد, صار المشهد اشدَ إيلاما. أدركَتْ والدتي بحِسِّها البدوي الذي توارثته عن اخوالها *شمَّر* حيث ترعرعت. ادركت ان حفيدها سقط في صراعٍ بين شعب صامد مُصابر وبين من استهتروا بحرمته, جاؤوا في ظلمة ليلٍ و*قطار اجنبي* كما اعترفوا هم, لياخذوا شعب العراق الى المجهول, الذي نحن اليوم فيه. لا قيمة لاي عراقي إن لم يمَتْ الى الحاكمين بوشيجة.

واريت ولدي الثرى في اليوم نفسه وعُدتُ مساء, لادخل في سُباتٍ لم أفِق منه الا مساء اليوم التالي, حيث فهمت ان ثلة من الشرطة امتلأ الشارع بهم وبسياراتهم المسلحة, يقودهم غُلام, قيل, من حواشي قُمامة السلطة, حاصروا داري, يريدون جلبي الى دائرة *الامن*. خَرجتْ عليهم والدتي تُشبعهم سَبَّا, واصفة اياهم *بالكلاب* وتسألهم, أجاؤوا يُعزُّون او يُعزِّرون والد القتيل إإ. غادروا بعد ان اكدوا على وجوب حضوري الى مركز أمنِّ المأمون, صباح اليوم الذي يلي. ادخلت غرفة على بابها شرطي مُسَلح. ثم جاء رجل بلباس مدني قالوا (حديثي) واظنه كان مديرُ أمن واخرُ بلباس الجيش ورتبة ملازم,*احمراني اشقر*, اسمُه *باسل الاعرجي*, قيل موصلي وقيل حِليِّ. قال لي الاول *انها ارادة الله* ولاول مرة اسمعُ ان الله يَريد قتلَ الاطفال الابرياء *وانهم إنما يُنفذون ارادة الله إإ اما الملازم فبدا لي أنه ممتعضٌ من الحَدَث وانه يحسُّ بمصيبتي. ثم سُمح لي بالعودة الى بيتي. واضح انهم أرادوا إرهابي وتكميمي

لم تنشر الصحف الخبر وحاولتُ, أنا نشرَه ولو على شكل *اعلانٍ مدفوع الثمن* ولم افلح. عندها ودون دعوة من احد, اخذ الطالب (الدكتور) اياد علاوي ولم اعرفه قبلها, أخذ وريقة طلبِ النشر من حاملها وراح بها الى جريدة *التآخي* الكردية, حيث نشرت في اليوم التاني, ما سَطرْتُه فيها من اتهام للسلطة. لقد تحدى الطالب أياد علاوي مِزاج حزب السلطة الذي كان هو محسوبا عليه, مَجازا ولم يكن منه. ونشرت *التآخي*, ايضا رسالة مني في رابع عيد ميلاد الطفل الذي كنا على موعد معه بعد ثلاثة اسابيع من استشهاده. وكذا فعلت الصحيفة في اربعينية الشهيد وبعد مرور عام. كانت تلك هي الايام, يحسُّ فيها الكردي آلام العربي والعكس. اما اليوم فيقوضُ الساسةُ المارقون, أخُوَةً عمرها التاريخ.

صادف, مع الحدث أن إكتملَ طبعُ كتابي *امراض القلب* باللغة العربية لتعريف العامة بتلك العلة التي اخذت مَنحىً وبائيا, فأضفت اليه اهداءٌ لولدي الشهيد, رفضت كافةُ المكتبات عَرضَ الكتاب او بيعَه. وبعد ايام جاءني المرحوم *مراد* وهو من الاخوة *الفيلية* وصاحب مكتبة *مكنزي* التي كانت في شارع الرشيد ومختصة ببيع المطبوعات الاجنبية, جاء يطلبُ نُسخا من الكتاب, اياه, ليعرضها في واجهة مكتبته ويبيع منها ما قد يستطيع, كان ذلك منه تحديا لرغبة سلطة غاشمة. توفي مراد, رحمه الله واستلم المكتبة بنُ اخيه, مراد اسمه ايضا وقد طُوردَ ولاذَ بي عندما كنت في مدينة الطب.

. كان رد فعل الشارع للحدث مختلط, *فالجيران* من حولي, منهم من عايشني مصيبتي ومنهم من قال *الدكتور سواهه رُبابة, هو جاهل هكَدَّة*. ونسوا ان أمامَ الطفل, اي طفل سنواتٌ من الحياة والعطاء تفوق ما تبقى لكُثرٍ من كهولهم وشيوخهم من سنين تتكشف فيها أعمالهم الرخيصة التى نراها اليوم. ادرك عدو الوطن ان الاطفال واليافعين هم مستقبل الوطن فراح يدمرهم بشكل مُبرمج ( والى ما يتعرض له اطفالنا اليوم من دمار مُخطط له, لي إليهِ عودة) وقد إنفض عني كُثرٌ من زملائي في الكلية والمستشفى إذ توجسوا ان وراء الامر ما وراءه.

تناهى اليَّ بعد حوالي عام على الحدث ان السلطة تنوي *لفلفة* الموضوع والافراج عن المتهمين وفق صفقة كانت عقدت مسبقا, عندها قدمت طلبا الى مجلس قيادة الثورة, اطلب فيه *الكشف عن قاتل ولدي كائنا من كان*. قدمت الطلب بواسطة دائرتي, كلية الطب كي يمر الى الجامعة ووزارة التعليم واخيرا الى مجلس قيادة الثورة ليطلعَ على ما سطرته فيه, اكبرُ عددٍ من المواطنين. كان عميد كلية الطب المرحوم الدكتور تحسن معلة وهو بعثي, يعلم أن السلطة لا توافق على رفع هكذا طلب او ترويجه ولكنه رخمه الله لم يبالِ وهو بما عرف عنه من شجاعة.

وبعد شهرين او هكذا فهمت ان *المتهمين* أُحيلوا الى محكمة الثورة التي كانت تَعقِد جلساتهِا في معسكر الرشيد وان بعثيين سيساعدوني على حضور تلك الجلسة. وفعلا هذا ما حصل واجلسني رئيس المحكمة المرحوم *النجار* الذي صُفّيَّ فيما يعد, اجلسني الى جانبه. وجئ بمُتهمَين شابين يعملان في مخبزٍ في الكاظمية وجاء كذلك القاتلُ, مفوض الامن, كشاهد والذي سأله رئيس المحكمة عن الطفل القتيل, فاجاب باستخفاف واضح * يا طفل انا لم اسمع عن طفل قتيل*.لماذا تجاهل مقتل الطفل, لماذا؟؟
بدى الغضب على الحاكم بحيث وهو يصدر الحكم على المتهمين, بالاعدام, ذكر اسم مفوض الامن بالحكم بالاعدام,*زلة لسان*.إإ

وبقيت اسئلة لم تجد لنفسها جوابا وكان مُؤملا ان يُماط اللثام عن خفايا ما ارتكب من جرائم ذلك العهد ولكن الذين اختطفوا الحكم في غفلة من الزمان ومنهم من قفز من السفينة وهي تغرق والتحق بركب القادمين , انتقموا لما نال ذويهم فقط وانصرفوا الى نهب الغنيمة, العراق, كل العراق:
1. لماذا توجه رجل الامن الى روضة الاطفال بدل ان يروح صوب الانفجار في موقع معاكس لموقع الروضة, هل كان يعلم ان الجاني سيختفي في الروضة وهل كان هو, بالذات مؤتمنا على هذه المعلومة دون غيره لانه من الحواشي: *قضية سهلة تحصل بها على وسام وترقية* اي ان كل شيء كان مدبرا وان هذه المنظمة كانت منتظمة في اجهزة السلطة كما عرف فيما بعد؟
2. لماذا لم تُحاصَر الروضة ويُخرَج الاطفالُ الى برِّ الامان قبل الرمي على الجاني الذي كان بين اشجار جديقة الروضة, ولم يُرمَ الجاني بل كان الرمي صوب الاطفال.
3. لماذا بدأ رجلُ الامن الرميَ حالَ وصوله باب حديقة الروضة وليس امامه غير الاطفال في حين كان عليه, كما تلزمه حِرفيته ان يحاصر الروضة ويُمكِنَ العاملين في الروضة اخلاءها من الاطفال اولا, ام انه اراد تحقيق سبقا وجني ثماره
4. كان مدخل الاطلاقة, تحت عظم الترقوة لطفل يقل عمره عن 4 سنوات. اي ان السلاح كان موجها الى اسفل, اي الى الاطفال وهم على بعد لا يزيد عن ثلاثة امتار من مكان رجل الامن وهو يطلق النار اي ضمن مرآه. وليس الى الجاني الواقف خلف شجرة في الجانب الاخر من الحديقة. هل كان قتل اطفال لا يهمه كما لم يكن يهمُّ مخططي العملية, لان الاطفال كانوا من العامة وليس ممن تجري في عرقهم دماء زرق.
5. لقد ارتكب رجل الامن اخطاء قاتلة, فهل يكافأ على ذلك بوسام وترقية كما حصل؟ إإ
6. لماذا ارهبُ انا وكأن ولدي هو القاتل وليس القتيل ؟؟.
7. لم يحضر اولاد صدام الى الروضة ذلك اليوم. كان صدام يعرف ان اولاده سيكونون في خطر اكيد لو داوموا في ذلك اليوم ولكنه لم يكن ليهمه ما سيتعرض له باقي الاطفال من مخاطر اكيدة.
.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google