المرأة، الحب ـ ـ ضوؤها الشاعر ! *
المرأة، الحب ـ ـ ضوؤها الشاعر ! *


بقلم: د. رضا العطار - 19-02-2017


يقول امرؤ القيس لصاحبته حين تمتنع عليه :

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * * فالهيتها عن ذي تمائم محول

بينما يقول عمر بن ابي ربيعة، وهويحكي حكاية تتفق خطوطها الرئيسية مع حكاية امرئ القيس ولكنها تختلف عنها اختلاف مجتمع عن مجتمع.

فلما فقدت الصوت منهم واطفئت * مصابيح شبت بالعشاء وانؤرُ

وغاب قمير كنت ارجو غيابه * وروّح رعيان ونوم سمًر

وخفف عني الصوت اقبلت مشية ال * حباب وشخصي خفية القوم أزور

فحييت اذا فاجئتها فتولهت * وكادت بمكنون التحية تجهر

وما كاد القرن الاول الهجري ينصرم حتى كانت هذه المذاهب الثلاثة في النظر الى المرأة – كما ذكرت في الحلقة السابقة – قد استوفت غاياتها، وصادف ذلك ان اصبح الشعر العربي صناعة من الصنائع او حرفة من الحرف، يلجأ اليه الشاعر الى التجويد والتحسين، والى مجابهة مستمعيه بما يلذ لهم ويطيب، عوضا عن التعبير عن ذات نفسه، وبذلك اصبح الغزل مقصدا من مقاصد القول، لا اساسا ذاتيا بالمرأة. فهو يلتصق بأول القصيدة كنوع من التقاسيم التي يصطنعها العازفون قبل اللحن الرئيسي.
وفي هذه الحالة يلجأ الشاعر الى استيحاء معان مما سبقه الاقدمون – فيتحدث عن غلبة الوجد عليه ولجوئه للبكاء ليشتفي قلبه من الجوى. ورؤيته لاطلال الاحياء وعن عين الحبيبة الحوراء التي سلبت لبّه وتميت قلبه. الى غير ذلك.

ذلك هو شأن اوساط الشعراء – اما كبارهم فان لهم الى جانب هذا الشطر الاجتماعي من شعرهم شطرا آخر يخلصون فيه لذواتهم. وقد كان بشار بن برد شاعر بداية العصر العباسي رجلا مغرقا في النزعة الحسية مع ذكاء مفرط وشاعرية دافقة – وقد حفظ لنا ديوانه ابياتا من رائع الغزل تكشف عن نفسه التي لا ترضى بهذا الحب الرومانتيكي – بل تطلب الحب المتحقق الذي يحرص على ان يستوفي ثمرته وصلا وعطاء.

ألا قل لتلك المالكية اصحبي * والاّ فمنينا لقاءك واكذبي

عدينا، فان النفس تخدع بالمنى * وقلب الفتى كالطائر المتغلب

اذ يئست نفس امرئ من حبيبه * تبدل اخرى مركبا بعد مركب

وما الحبُ الا صبوة ثم دنوة * اذا لم يكن كان الهوى روغ ثعلب

ذلك هو ازهى جوانب غزل بشار – اما جوانبه الاخرى فمفحشة في القول. بالغة الهزء والسخرية من المرأة.

اما ابو نؤاس فحسب المرأة عنده لون من اللهو والعبث كشأن تناوله للحياة كلهاـ

الحب فوقي سحاب * * والحب تحتي سيول

فذا يسيخ برجلي * * وذا عليّ هطول

ولحنين لقلبي * * محلة وقبيل

وليس حولي الا * * رياح حب تجول

ونظل نمضي حتى نجد الشاعر المتعشق ( العباس بن الاحنف)، والعباس سيرة غرامية زكية – وهو يحب الحب لا المحبوب لما في الحب من ترقيق للنفس وبعث لشوارد المعاني – ولما يجلبه الحب من ذكر حسن لصاحبه – واظن ادل ابيات العباس ابن الاحنف على نفسيته بيتيه المشهورين :

واحسن ايام الهوى يومك الذي * تروع بالهجران فيه وبالعتب

اذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا*فاين حلاوات الرسائل والكتب

وقد كان العباس بن الاحنف اخر شعراء الغزل المشاهير - - اما من تلاه من كبار الشعراء – فلم يكن الغزل عندهم الا غرضا من اغراض الشعراء.

كان القرن الحادي عشر بداية تاريخية جديدة لعصر من عصور الحب اطلق عليه
(عصر الحب الرومانسي)
وقد بدات الحركة في بديتها في جنوب فرنسا وعلى يد بعض الشعراء - - وهناك أدلة تبين ان هؤلاء الشعراء والذين يعرفون (بالتروبادورز) قد تأثروا بقصص الحب العذري التي وردت على لسان الشعراء العرب والتي انتقلت اليهم من العرب في الاندلس – ويقال ايضا ان هؤلاء الشعراء في تجوالهم كانوا يخصون فقط النبلاء من الذكور بمديحهم والتغني بفروسيتهم- وان احدهم في تجواله قد أمّ قلعة لاحد النبلاء – ووفق بالباب يغني امجاده طمعا في عشاء ومأوى، ومن سوء حظه لم يكن النبيل في قصره عندئذ. كما ان زوجته لم تعر نشيده اي اهتمام، - - وبدافع قوي من الجوع والحاجة للمبيت، بدل الشاعر من هدفه وراح يغني بجمال وكرم سيدة القصر التي اخذت بهذا المديح، فأوته واطعمته واكرمته بافضل مما كان يتوقع من النبيل سيد القصر.

وهكذا انتشرت تقاليد مدح النبيلات من الشعراء - - ومنهم الى غيرهم من الفرسان النبلاء الذين جمعوا بين موهبة الشعر والغناء والفروسية. غير ان هذا المديح اقتصر فقط على النساء المتزوجات من النبيلات. كما خلا المديح مما ينم عن اي غرض جنسي. – وقد اتخذ هذا النوع من العلاقة صفة مأساوية تربط بين الشاعر وبين من يحب. دفعته الى التفاني والقيام باعمال عظيمة لخدمة من يحب وتبرير حبه. واصبح هذا النوع من الحب حبا صادقا لانه لا وصل فيه.

ان هذا النوع من المشاعر لا يؤدي الى العلاقة الجنسية. لان الطرف الاخر منه هو سيدة نبيلة ومتزوجة ولا يمكن تصورها الا امرأة لا يمكن الوصول اليها والوصل بها.
وكما هو واضح فان هنالك بعض اوجه الشبه بين هذا النوع من الحب وبين الحب العذري الذي اتسم ايضا بمظاهر الفروسية والمأسوية من حيث انه حب لا امل ولا وصل فيه، - وكما ان الحب العذري قد غنى الحب بالالم والمعاناة فان الحب الرومانسي فيه عبادة وتغزل - - وقد كان من الطبيعي ان تؤدي بعض هذه الحالات من الحب الرومانسي الى الوصل والزنى – غير ان تقاليد حب الفروسية قد حرمت هذا المسلك. كما ادانه الشعراء في العصور الوسطى ونظروا الى مرتكبيه نظرة ازدراء – ومع مرور الزمن تحول هذا النمط من الحب الرومانسي والذي خلا من الجنس الى اتجاه تدريجي نحو العلاقة الجنسية.
وفي مثل هذا الجو لم يكن هناك بد من غزل الحب عن الجنس وعن الزواج – وقد ساعد على هذا الفصل راي الكنيسة في الجنس والزواج – فالكنيسة رات في الجنس الخطيئة الاولى وسوغته فقط في الزواج. وحتى عندئذ لاغراض الانجاب – ومن الناحية الرومانسية نظرت الى العلاقات الجنسية في الزواج على انها تفسد الحب- ولهذا قلا بد للحب ان يكون حبا غير جنسي وان لا ينتهي بالزواج. - - ولعل هذه النظرة هي التي اوجدت الحب العذري.

في القرن السابع عشر تحول الحب الرومانسي من السيدة المتزوجة الى الفتاة البكر- - وفي القرن التاسع عشر تحول الحب الرومانسي الى علاقة حب قبل الزواج وتمهيدا له.
واعتبر هذا النوع من الحب، انه العلاقة المثلى التي تربط الحب بالزواج وتنتهي بالوصل. - - الا ان هذا التحول الجذري لم يفقد الحب الرومانسي محتواه الاساسي، وهو محتوى من المعاناة والالم في شعور المحب مع ما يدفع اليه ذلك من الالتزام والتفاني والتكريس والى الحدود المأساوية للمشاركين فيه. ولعلنا نتوقع في حياة الانسان المعاصر من امكانية التقارب بين الجنسين مما لم يتيسر له في الماضي.
الا ان الواقع يشير على ان مثل هذه الرابطة العاطفية هي في تزايد وبانها لا تمثل العلاقة الطبيعية اللازمة قبل الاقدام على الزواج. مما يدل على ان العاطفة الانسانية تحتاج الى اشكال غير مباشرة من صور التعبير التي يتخذها الحب من نوع الى آخر، وفي زمن الى آخر.

* مقتبس من كتاب (المرأة، اللعبة، ضوؤها الشاعر) لنزار قباني.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google