استراتيجية تركيا ازاء العراق (3)
استراتيجية تركيا ازاء العراق (3)


بقلم: فارس كريم فارس - 09-03-2017
يواجه القادة الأتراك معضلة خطيرة، حيث لا يمكنهم التنبؤ بما ستؤول إليه الأزمة في سوريا أو إلى أين سيتمكن الأكراد المقيمون في البلدان الأربعة من فرض قوتهم بها، فتركيا بحاجة ماسة إلى موارد الطاقة في العراق وطالما علاقاتها مع بغداد في حالة ركود فأنقرة مستعدة لشراء النفط مباشرة من الأكراد دون ضوء أخضر من حكومة المركز, الذي تعتبره تركيا خاضع لإيران وامريكا. أما إلى أي مدى سيذهب القادة الأتراك وما إذا كانوا سيتخلون عن الخطة A، التي تقضي بتعزيز وحدة العراق أو الذهاب إلى الخطة B وهي الارتباط مع الكيانات المنفصلة عن بغداد(الاقاليم) مثل الأكراد وإلى حد بعيد المحافظات السنية في غرب وشمال العراق، صحيح ان وحدة العراق (الأمن الجيو سياسي), تَعتبره الحكومةُ التركية ثابتًا من ثوابت الأمن القومي للبلاد, وذلك على اعتبار أنَّ تقسيمه من الممكن أن يفتح الباب واسعًا أمام تقسيمات أخرى في المنطقة قد لا تستثني تركيا نفسها, خاصة إذا ما تمَّ رسم هذا الانقسام على طول الخط الكردي في المنطقة (بالإضافة إلى مصير كركوك والعنصر التركماني), الا انه نشأ توجُّه لدى بعض النخب التركية, مفاده أنَّه إذا أصبح انفصال شمال العراق أمرًا واقعًا وخارجًا عن إرادة تركيا لأي بسبب كان، ولم تستطع أنقرة إيقاف الانفصال, فالأفضل التعامل مع هذه الحقيقة على أن تتم مقاومتها وبالفعل فإن خطاب أنقرة تغير، ولم يعد المسئولون يشيرون إلى العراق كدولة واحدة في بعض الاحيان (فقد تم رفع العلم الكردي في مطار اتاتورك في اسطنبول لأول مرة خلال استقبال مسعود البرزاني في زيارته الاخيرة الى تركيا في شباط 2017).
ان وحدة واستقرار العراق بالنسبة إلى أنقرة مكسب استراتيجي على الصعيد السياسي والاقتصادي والامني, وعلى صعيد الاستثمار وأمن الطاقة, لقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق من عام 2003 وحتى عام 2013 بشكل هائل، وبقفزات متتالية من مجرد 900 مليون دولار إلى حوالي 12 مليار دولار رغم الخلافات السياسية وهذه تشكل احدى المفارقات في العلاقة بين البلدين, ويُعتبر العراق منذ عام 2011 ثاني أكبر مستوعب للصادرات التركيَّة بعد ألمانيا, ولقد وصل عدد الشركات التركية العاملة أو المرتبطة بالسوق العراقية إلى حوالي 1500 شركة، غالبيتها شركات مرتبطة بقاطع الإنشاءات والمقاولات, التي قامت حتى نهاية عام 2013 بتنفيذ حوالي 824 مشروعًا في العراق بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 19.5 مليار دولار, كما استثمرت شركة النفط الحكومية التركية (تباو) حوالي 6 مليارات دولار في بئرين للنفط وبئرين للغاز في العراق، وهناك طلبات لأعمال في 24 حقلاً للنفط من قبل شركات أخرى، وقد دخل إقليم كردستان العراق إلى هذه المعادلة التركية بشكل فعال مع إنشائه خط أنابيب لتصدير نفط شمال العراق بشكل مستقل عن خط النفط العراقي الفيدرالي.
مع انهيار سيطرة الحكومة العراقيَّة على الموصل و مناطق واسعة اخرى، توقفت تجارة نقل البضائع التركية إلى ما بعد المنطقة الشمالية. ويُقَدَّر عدد شاحنات الترانزيت التركية التي كانت تذهب إلى العراق بحوالي 70 ألف شاحنة شهريًّا (2300 تقريبًا يوميًّا), وانخفض إلى حوالي 1550 شاحنة، ووفقًا لجمعية المصدِّرين الأتراك فإن حجم الصادرات التركية إلى العراق انخفض بنسبة 67% في يوليو/تموز 2014 وقدَّر وزير الاقتصاد التركي حجم الخسائر التركية الناجمة عن انخفاض الصادرات إلى العراق بحوالي 3 مليارات دولار.
كما أدَّت سيطرة "داعش" إلى خسائر مباشرة في الاستثمارات التركية في العراق، فقد تمَّ إيقاف أو تأجيل العديد من مشاريع البنى التحتيَّة, التي كان قد تمَّ البدء فيها، أو التي يتمُّ الشروع فيها، ولاشكَّ أن ذلك قد ترتبت عليه خسائر ماليَّة كبيرة، كما تأثَّر العديد من الشركات التركيَّة سواء العاملة او المصدرة الى العراق بتدهور الأوضاع الأمنيَّة خاصة الشركات التي تعمل في قطاعات الطاقة والأغذية والمشروبات والإلكترونيات.
ان المحاولات الحثيثة من قبل الحكومة العراقية الحالية لإعادة العلاقات الطبيعية مع دول الجوار ومن ضمنها تركيا ادت الى ترطيب الاجواء عموما بعد ما خلفته الحكومة السابقة من تراكم سلبي وخطير في هذا الجانب, ومع وجود سياسة وطنية مستقلة وثابتة تنبذ الطائفية داخليا وتبتعد من سياسة المحاور خارجيا, تحصن العراق من مختلف التدخلات الاقليمية وتحد من التمادي بالتدخل في شؤونه الداخلية من مختلف الاطراف, ويبدو من اللوحة السياسية الحالية, ان مختلف الاطراف تضع هدف القضاء على داعش من اولويات مهامها ومن هذا المنطلق تتوفر اجواء افضل للتفاهم حول المصالح المشتركة سواء مع تركية او غيرها من دول الجوار.
وعموما يمكن تثبيت بعض الاستنتاجات حول العلاقة التركية مع العراق كما يلي:
1- شكلت انتخابات العام 2002 ، البرلمانية في تركيا علامة فارقة في تاريخ تركيا الحديث ليس فيما يتعلق بالنتائج التي آلت اليها والتي ادت الى فوز غير مسبوق لحزب العدالة والتنمية ذي الميول الاسلامية اثر حصده غالبية المقاعد النيابية بواقع 360 مقعداُ من اصل 550, وهو امر لم يحصل في تركيا من قبل على يد اي حزب, وانما في السياسات التي نتج عنها هذا الفوز والتي مهدت لتغييرات جذرية في الداخل والخارج لازالت تتفاعل الى يومنا هذا وتخط معها دور تركيا التفاعلي في المنطقة وصعودها الاقليمي والدولي بشكل بارز كدولة محورية ذات اهمية استراتيجية.
2- على الرغم من التأثير الكبير الذي تسبب فيه قرار البرلمان التركي على العلاقات بين واشنطن وانقرة الا ان الاولى اكتشفت بأنه من الصعب ان تعيد هندسة الاوضاع في العراق دون الحاجة لدور تركي مؤثر لأنه الاكثر مقبولاً في المنطقة عموماً.
3- لقد تحركت انقرة باتجاه العراق ليس استجابة للرغبة الامريكية فقط بقدر ما كان استجابة للحفاظ على مصالحها القومية والتي تتمثل اولا: في محاولة علاج تداعيات تغيير النظام العراقي ومخاوفها من تأثير الفوضى في العراق على امنها القومي. وثانيا: محاولة تقييد الطموحات الكردية الخاصة بالانفصال بإقليم كردستان لإعلان دولتهم المستقلة وثالثا: الحيلولة دون انفجار الاوضاع في كركوك. ورابعا: لأسباب اقتصادية تخص التجارة والاستثمار والطاقة .. بيد ان ذلك لا يتنافى مع وجود مصلحة امريكية خالصة في حضور تركيا بكثافة في الملف العراقي للحيلولة دون استئثار ايران به ولأهداف متعددة اخرى.
4- تمثلت مواقف تركيا تجاه العراق بالتدخل السافر في شئونه الداخلية ومحاولة لعب دور فاعل فيه, فقد تعاملت تركيا بناءاً على متطلبات الامن القومي التركي مع التطورات الجارية في كردستان العراق على انها تهديد استراتيجي مباشر خاصة وان نسبة الاكراد في تركيا اعلى من نسبتهم في العراق وفي حال قيام دولة كردية فان ذلك سيؤثر مباشرة على تركيا... واتسم موقفها بعد الاحتلال الامريكي في بادئ الامر بطبيعة واضحة وحاسمة تعد الفيدرالية وسعي الاحزاب الكردية لضم كركوك خط احمر في السياسة الخارجية التركية.
5- لكن بعد ذلك اصبح الموقف التركي يميل باتجاه الاحتواء والمهادنة بدل التهديد والمواجهة وابدى مرونة غير طبيعية تجاه سعي الاكراد الى تطبيق الفيدرالية, واتخذ التحول التركي في كردستان العراق اشكالاً اخرى فعلى الصعيد الاقتصادي تعمل اكثر من 100 شركة تركية, إذ تحال اكثر من 90% من المقاولات في اقليم كردستان على شركات تركية فضلاً عن شراء الغاز المنتج وتصدير النفط من حقول كردستان.
6- الماء عنصر استراتيجي قد يوظف لخدمة السياسة, ومن يملك مصادر المياه يملك مصادر التأثير في ظل غياب منظمات وتشريعات وقوانين ومعاهدات دولية تحكم الدول النهرية وتوضح حقها في المياه. وقضية المياه بين العراق وتركيا لم تشهد تطورا ملموساً بل ان بوادر ازمة مائية في العراق بدأ بالظهور, إذ توقع بعض الخبراء العراقيين ان مناسيب المياه لنهري دجلة والفرات ستصل الى مستويات مخيفة قد تكون لدون ال 50%, على الرغم من المؤتمرات والندوات التي عقدها الجانبان العراقي والتركي بخصوص هذه القضية.
7- أما الصراع التركي مع ايران على النفوذ في الشرق الأوسط والرغبة في التمدد الإقليمي (وخاصة في العراق) أصبح قدراً مستمراً على العراقيين حيث يذكر د.علي الوردي في دراسته ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) القول المأثور لدى البغادة ((بين العجم والروم بلوة ابتلينة)) حيث يقصد بالروم هنا الاتراك الواقعيين من جهة الروم، حيث أدى الاحتلال الأمريكي للعراق إلى نتيجة واضحة في التنافس التركي الإيراني، على اعتبار أن كل من أمريكا وإيران أصبحا الأقوى على الساحة العراقية وبعد الانسحاب الأمريكي من العراق نهاية 2011، أصبحت إيران هي اللاعب الأقوى في العراق فزاد ذلك من حدة التنافس الإيراني التركي على الساحة العراقية بالإضافة إلى التنافس بنيهما في جمهوريات آسيا الوسطى والقلق التركي من أن يؤدي توصل إيران لصنع أسلحة نووية إلى حسم التنافس التاريخي بينهما لصالح إيران.
8- وفي ظل أوضاع سوريا والعراق تحاول تركيا والسعودية من تخفيف قبضة إيران على البلدين حيث يتعمق التعاون السني بينهما رغم اختلاف الأهداف والأساليب لكسر أو قطع الهلال الشيعي الذي تسعى إليه إبران والممتد من طهران إلى بيروت. إن سعي تركيا في التأثير على معادلات النفوذ في العراق وسوريا تعني تقليصاً للنفوذ الإيراني ولكن بطريقة ناعمة وتراكمية وليس على نحو تصادمي مباشر, من ذلك يمكن القول أن الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط والرغبة في التمدد الإقليمي عمق التنافس بينهما على الرغم من الفترات التاريخية التي شهدت العلاقات فيها تقارباً بين البلدين ولكن دون أن يرقى هذا التقارب إلى مستوى التحالف الثنائي بين البلدين الجاريين.
9- لذلك تعتبر تركيا ان لإيران والولايات المتَّحدة الان النفوذ الأوسع والتأثير الأكبر على سياسات العراق الداخلية والخارجية, وان هذا النوع من النفوذ والتأثير يُؤَدِّي دورًا مهمًّا في تحديد نوعية وطبيعة علاقات حكومة بغداد مع تركيا أو غيرها من الدول، وانه يبدو الآن أن هناك مصلحة لدى كلٍّ من واشنطن وطهران في تقارب الحكومة العراقية مع أنقرة, فالأولى تُريد أن تدخل تركيا بقوَّة في التحالف ضد تنظيم الدولة، وقد يكون العراق مدخلاً مهمًّا لجرٍّ أنقرة بالنسبة إليها، وأمَّا طهران فهي تُريد احتواء أنقرة في الموضوع السوري، وإبعادها عن التجمُّع الخليجي, ومثل هكذا تصور او استنتاج لا يأخذ التوجه الجاد للحكومة العراقية في سعيها من اجل رسم وتطبيق سياسة وطنية مستقلة بنظر الاعتبار, وهذا الامر لا يساعد العراق بالتأكيد في تحقيق توجهه المستقل اقليميا ودوليا, وكل ذلك يعني بقاء العلاقات العراقية التركية متأرجحة بين الثقة وعدمها بين السلب والايجاب, بين التهدئة والتوتر.
10- ان وحدة واستقرار العراق وازدهاره يشكل عامل اساسي في الاستقرار الاقليمي وعلى دول الجوار ومنها تركيا ان تتعاون مع العراق لتحقيق ذلك, ولا تجعله كساحة لصراع النفوذ مع الاخرين, حيث ان تشرذم العراق وعدم استقراره وتنفيذ الاجندات الخاصة ودون النظر لمصلحة العراق ووحدته الوطنية واستقراره لا يعني سوى خراب وحريق هائل يعم الاقليم ودول الجوار بالأخص, ولمدى غير منظور.
انتهى



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google