52 آدم وحواء وتحدي القرآن
52 آدم وحواء وتحدي القرآن


بقلم: ضياء الشكرجي - 12-03-2017
[email protected]

www.nasmaa.org

هذه هي الحلقة الثانية والخمسون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث نكون مع المقالات المختارة من الكتاب الثالث «مع القرآن في حوارات متسائلة»، وتشتمل هذه الحلقة على موضوعين قرآنيين.

تأويل ممكن لقصة آدم وحواء القرآنية

مقالة نشرت باسمي المستعار (تنزيه العقيلي).

لنتساءل في حال التسليم بأن القرآن كتاب الله، حتى لو على قاعدة أن فرض المحال ليس بمحال، ألا يمكن يا ترى تأويل قصة آدم وحواء على أنها قصة رمزية؟ فآدم يرمز للإنسان الذكر الأول، وليس هو شخصا محددا يمثل، وحواء تمثل الإنسان الأنثى الأول، وهما باعتبارهما الإنسان الأول بطرفي الزوجية الجنسية (ذكر/أنثى) لا يمثلان فعلا أول إنسان على وجه الأرض، بل يرمز الإنسان الأول هنا إلى النوع الإنساني الأول، إذا ما اعتمدنا نظرية التطور؛ هذا النوع الإنساني الأول، الذي يكون قد بلغ من الرشد العقلي ما يؤهله أن يكون مسؤولا بحكم عقله وضميره؛ هذه المسؤولية التي تنعت بالمصطلح الديني بالتكليف، أي إن الإنسان الأول يمثل بداية تحول الإنسان من حيوان بشري غير مسؤول وغير مكلف، إلى إنسان مسؤول ومكلف، مسؤول أمام ضميره، مكلف من الله بتكاليف الوجوب والحرمة والإباحة والاستحباب والكراهة؛ هذه المسؤولية التي تتجسد بالرقابة الذاتية، التي يصطلح عليها على وفق المصطلح الديني بالتقوى، وبالمصطلح العام بالضمير، وتارة بالرقابة الاجتماعية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) على وفق المصطلح الديني، وبالتناصح على وفق المصطلح المدني، والرقابة القانونية (الأحكام)، وكل ذلك في عصر قيادة الرجال للمجتمع الإنساني، أو قوامة الرجال على النساء، أي قبل عصر المساواة الذي نعيش مخاضات ولادته، دون أن تكتمل بعد هذه المخاضات بشكل نهائي. أما الجنة، فليست جنة الثواب بعد الحياة الدنيا، بل جنة آدم وحواء المشار إليها في القرآن، فهي ترمز إلى ما أودع الله في الطبيعة من إمكانات تتمثل بالمواد الطبيعية والقوانين الطبيعية، وفي الإنسان من ملكات عقلية، وميل فطري للجمال والإبداع، ومن غريزة حب الذات الميالة لتحقيق أكبر قسط من السعادة، ومن نزعة إنسانية في حب الخير للآخر كما للذات، والميل إلى قيمة العدل؛ كل ذلك يجعل بالإمكان تحويل الإنسان لموطنه الأرض نفسها إلى جنة نعيم خالد، يرفل الإنسان فيها بالسعادة والرفاهية، ويتمتع بالأمن والسلام، ويسود بين أفراده ومجموعاته الوئام والمحبة، لولا ظلم الإنسان للإنسان، وبالتالي ظلمه لنفسه. والشجرة الممنوعة عنه هي ليست شجرة تفاح، أو أي ثمرة أخرى، ولا هي شجرة الممارسة الجنسية، بل هي «الشجرة الخبيثة»، شجرة الجشع والطمع والحسد والأنانية، وشجرة العداوة والبغضاء، والظلم والعدوان، والإفساد في الأرض وسفك الدماء، وكل ما يترتب على ذلك وما يتفرع عنه.

وهكذا هي قصة هابيل وقابيل «وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ ابنَي آدَمَ بِالحقِّ إِذ قَرَّبا قُرباناً، فَتُقُبِّلَ من أَحَدِهِما وَلَم يُتَقَبَّل منَ الآخَرِ»، فهذه القصة لعلها ليست من جهة إلا رمزا لإنسان العنف والبغضاء والاحتراب الذي «قالَ لَأَقتُلَنَّكَ»، ومن جهة أخرى إنسان الرفق والمحبة والسلام الذي «قالَ لَئِن بَسَطتَّ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَني ما أَنَا بِباسطٍ يَدِيَ إِلَيكَ لَأَقتُلَكَ؛ إِنّي أَخافُ اللهَ رَبَّ العالَمينَ»، مع إن إنسان الرفق هذا وفق القصة بصيغتها القرآنية لم يكن مثاليا في عقلانيته وحكمته، فهو لم يكن حكيما في الإجابة، إذ استفز أخاه فـ «قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ منَ المُتَّقينَ»، بما يعني ضمنا أن أخاه غير متحلٍّ بالتقوى، ومن ثم غير مستحق أن يتقبل الله منه قربانه، وبالتالي يمثل هذا الرد أول انطلاق لثقافة التفسيق، كمقدمة لثقافة التكفير، ودعوى احتكار الحقيقة والإيمان والتقوى والاستقامة، وثقافة تزكية النفس وتبرئتها مقابل إدانة الآخر والحكم عليه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنه كان من الناحية الأخلاقية مثاليا أكثر من المعقول، كونه حتى لم يحاول أن يدافع عن نفسه، بل اكتفى بقوله «لَئِن بَسَطتَّ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَني ما أَنَا بِباسطٍ يَدِيَ إِلَيكَ لَأَقتُلَكَ»، حتى إنه لم يحاول أقلها أن يدرأ عن نفسه الخطر، حتى لو بالهروب، ثم الاختفاء، أو حتى بالهجرة. لا بل حتى لم يكن مثاليا في إنسانيته، بل نراه ناقض نفسه عندما تحلى بمواجهة العدوان والعنف من أخيه بالعفو والرفق من جهته، لكنه كان عفوا ورفقا سلوكيا، وليس نفسيا، وكان عفوا عاجلا زائل الأثر، وليس آجلا دائم الأثر، إذ نراه تمنى لأخيه أن يقتله، لينال عذاب الله الخالد «إِنّي أُريدُ أَن تَبوءَ بإِثمي وَإِثمكَ، فَتَكونَ من أَصحابِ النّارِ وَذالكَ جَزاءُ الظّالِمينَ»، مما يشير إلى بغض دفين عنده، ورغبة في الانتقام، لكنها رغبة موكَل أمر تحقيقها إلى الله، وهو انتقام الضعفاء العاجزين، كما إنه انتقام أشد قسوة وأدوم بقاءً، بحسب الوصف الديني لله، مما يجعل عفوه، أي عفو هابيل الظاهري العاجل فاقد القيمة الحقيقية. نعم، كل ما في الموضوع إنه استطاع كظم غيظه المنبعث من ذلك البغض بموقفه: «ما أَنَا بِباسطٍ يَدِيَ إِلَيكَ لَأَقتُلَكَ». وكذلك قابيل لم يكن شرا محضا، لأنه عبر عن ندمه بعد قتل أخيه «فَطَوَّعَت لهُ نَفسُهُ قَتلَ أَخيهِ فَقَتَلَهُ، فَأَصبَحَ منَ الخاسرينَ، فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبحَثُ في الأَرضِ لِيُرِيَهُ كَيفَ يُواري سَوءَةَ أَخيهِ، قالَ يا وَيلَتا، أَعَجَزتُ أَن أَكونَ مِثلَ هذا الغُرابِ فأُوارِيَ سوءَةَ أَخي، فَأَصبَحَ منَ النّادِمينَ». وهذا كله يشير إلى إن ثمة بذور خير في الأشرار، وثمة بذور شر في الأخيار، مما يؤكد النسبية عند الإنسان، النسبية في أدراكاته الذهنية، والنسبية في أحاسيسه الإنسانية وأخلاقه. وهنا يأتي الصراع الذاتي في داخل الإنسان، وما الشيطان إلا رمز لتلك القوى التي تُفعِّل نوازع الشر وتُغلِّبها على نوازع الخير، التي هي انعكاس للروح التي نفخها الله من عنده في الإنسان، أو ما يعبر عنها بالفطرة التي فطره عليها. فهناك نفس أمّارة بالسوء والشر، وهي شيطان كل إنسان من لدن نفسه، وليس من خارجها، وإن كانت عوامل خارجية من قبل المجتمع والأسرة والعوامل الوراثية وغيرها تؤثر فيها تقوية أو تضعيفا، إقواءً أو إضعافا. والملائكة هي رمز الطهر والسمو الروحي والألق العقلي، اللذين يمكن للإنسان أن يبلغهما لو سعى حق سعيه في تزكية نفسه وتعليم عقله، ومع هذا فالملائكة هم أنفسهم ليسوا إلا نسبيين، وإن كانت نسبيتهم دونها عند الإنسان، فهم يُقرّون لله أنهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله، فعقولوهم وإدراكاتها هي الأخرى ذات حدود، تأكيدا بألّا مطلق إلا الله، وحتى الجانب النفسي أو الروحي أو قل الأخلاقي أيضا ليس كاملا كمالا مطلقا عندهم، فقد ترشحت من كلماتهم ثمة رائحة للحسد، «وَنَحنُ نُسَبِّحُ لكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»، ثم توحي بقصور في فهم الذات الإلهية، وكأنه مشتهٍ لأن يُسَبَّح ويُعبَد.

هذا التأويل هو من الممكنات في حال اعتبرنا القرآن كتاب الله، ولكن دون دعوى أن هذا التأويل يمثل تفسيرا لتلك الآيات، بقدر ما هو محاولة فهم على نحو احتمال الرمزية لهذه الآيات، ثم احتمال أن ترمز إلى هذه المعاني كواحد من الاحتمالات، وليس الاحتمال الوحيد. أما إذا كان القرآن من تأليف البشر، وهو ما تفرضه الدراسة المعمقة عبر الفهم الدقيق لعقيدة وفلسفة التنزيه الإلهي، فهنا أيضا تأتي مجموعة احتمالات لتأويل ما أراد المؤلف من ذلك، وعما إذا كان مجرد ناقل لأسطورة توارثها، أو وجدها في كتب ملل أخرى أو حكايات أقوام آخرين، ثم أجرى عليها بعض التنقيح، فأضاف وحذف وعدّل حسبما رأى أحيانا، أو اقتُرح عليه أو أوحيَ به له من البعض أحيانا أخرى، أو حسب ما أملى عليه كل من ذوقه، وفهمه، ونزعته، وميله.

كتبت في فترة سابقة منه 2009 | روجعت في 26/11/2009 ثم في 13/11/2011




آيات تحدي القرآن بالإتيان بمثله

نشرت كمقالة باسمي المستعار (تنزيه العقيلي).

من المصطلحات الدينية (المُعجِز) أو (المُعجِزة)، تذكيرا أو تأنيثا، وجمعها معاجز أو معجزات. والكلمة كما هو واضح هي اسم فاعل للفعل (أعجَزَ، يُعجِزُ، إعجازاً)، ومعنى ذلك أن الصادر منه الإعجاز، أي (الفاعل) يجعل الموجَّه إليه الإعجاز، أي (المفعول به)، عاجزا، فهو يُعجِزُه، أي يجعله عاجزا، أي يسلب منه القدرة، وهذا غير المراد من المعنى الديني للإعجاز، بل هو المعنى الثاني، أي يتحداه بالإتيان بما يعجز عنه، ليثبت له أي للمُعجَز عجزه عما هو، أي المعجِز، آت به. والمعجزات حسب لاهوت الأديان، أو لاهوت الإسلام تحديدا، هي من خصائص الرسل والأنبياء، ولعلها تشمل غيرهم من الذين خصهم الله بتلك المعجزات حسب عقيدتهم، وسمى المسلمون النوع الثاني بالكرامات. وسُمِّيت المعجزة أيضا في قرآن المسلمين بالآية، وجمعها آيات، مع إن لمفردة الآية مجموعة معان، منها المقطع القرآني الذي هو جزء السورة، ومنها الدليل، أو العلامة، أو الغضب الإلهي النازل على قوم ما. والغرض من ظهور المعجزة النبوية أو الآية هو إثبات صدق دعوى النبوة، وإقامة الحجة على المُعجَزين، أي أولئك الذين ظهرت لهم المعجزة النبوية. والمعجزة النبوية غالبا ما تكون إما خرقا لنواميس الطبيعة، وإما أي عمل خارق للعادة، على أقل تقدير في زمن ظهور المعجزة. وفسر قسم من اللاهوتيين الدينيين ظهور الخارق لنواميس الطبيعة، بأنه تعطيل من الله لقانون من قوانين الطبيعة، وقسم آخر يقولون إنه لا يمثل تعطيلا لقانون طبيعي، بقدر ما يمثل توظيفا من الله لقانون طبيعي آخر، لم يكتشفه الإنسان، على أقل تقدير إنسان عصر ظهور تلك المعجزة النبوية، طبعا مع افتراض حصول تلك المعجزات. أما الخوارق التي تُدَّعى لغير الرسل والأنبياء، فلا تسمى بالمعجزات، لأن المعجزات - لا أقل عند المسلمين - من خصائص النبوة، ولذا سميت الخوارق الظاهرة لغير الرسل والأنبياء، كالقديسين وأئمة أهل البيت وأئمة الطرق الصوفية، أو لعله أيضا أئمة المذاهب، ولمن سواهم، سميت هذه الخوارق بالكرامات، ومفردها (الكرامة).

نُسِبت الكثير من المعجزات للأنبياء، خاصة لإبراهيم، وموسى، ويونس، وعيسى. والمسلمون نسبوا أيضا المعجزات لنبيهم، ونسب قسم من الشيعة الكرامات لأئمتهم، لاسيما لعلي، والمتصوفة السنة للأولياء أو أئمة الطرق الصوفية. ولكن المسلمين يركزون على ما يسمونه بالمعجزة الخالدة، ألا هي معجزة القرآن. وأكثر ما طرح الإعجاز البلاغي، بدعوى أن بلاغة القرآن كانت في وقت ما يسمى بالنزول، وإلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة، مما يعجز الناس عن الإتيان بمثلها. ولكن في العقود الأخيرة ظهرت مجموعة صرعات للإعجاز القرآني في العديد من المجالات، ومنها ما سمي بالإعجاز العددي، وما ادُّعِي من الإعجاز العلمي، ناهيك عن إعجاز الإنباء بأحداث لاحقة زمنيا للنص القرآني المُنبِئ عن ذلك الحدث.

أريد هنا تناول الإعجاز القرآني بمعناه الكلاسيكي، لا بالمعاني المستحدثة منذ القرن العشرين، في حدود اطلاعي. سأتناول الموضوع باختصار، لعدم توفر الوقت لإجراء دراسة تفصيلية شاملة. وسأورد بعض نصوص التحدي أو (الإعجاز) من القرآن:

البقرة 23 – 24:

«وَإِن كُنتُم في رَيبٍ مِّمّا نَزَّلنا عَلى عَبدِنا فَأتوا بِسورَةٍ مِّن مِّثلِهِ وَادعوا شُهَداءَكُم مِّن دونِ اللهِ إِن كُنتُم صادِقينَ. فَإِن لَّم تَفعَلوا، وَلَن تَفعَلوا، فَاتَّقُوا النّارَ الَّتي وَقودُهَا النّاسُ وَالحجارَةُ أُعِدَّت لِلكافِرينَ.»

هود 11 – 12:

«أَم يَقولونَ افتَراهُ، قُل فَأتوا بِعَشرِ سُوَرٍ مِّثلِهِ مُفتَرَياتٍ وَّادعوا مَنِ استَطَعتُم مِّن دونِ اللهِ إِن كُنتُم صادِقينَ، فَإِن لَّم يَستَجيبوا لَكُم فَاعلَموا أَنَّما أُنزِلِ بِعِلمِ اللهِ وَأَن لّا إِلاهَ إِلّا هُوَ، فَهَل أَنتُم مُّسلِمونَ.»

يونس 38 – 39:

«أَم يَقولونَ افتَراهُ، قُل فَأتوا بِسورَةٍ مِّثلِهِ، وَادعوا مَنِ استَطَعتُم مِّن دونِ اللهِ إِن كُنتُم صادِقينَ، بَل كَذَّبوا بِما لَم يُحيطوا بِعِلمِهِ وَلَمّا يَأتِهِم تَأويلُهُ، كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم، فَانظُر كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمينَ.»

هود 13 – 14:

«أَم يَقولونَ افتَراهُ، قُل فَأتوا بِعَشرِ سُوَرٍ مِّثلِهِ مُفتَرَياتٍ، وَادعوا مَنِ استَطَعتُم مِّن دونِ اللهِ إِن كُنتُم صادِقينَ، فَإِن لَّم يَستَجيبوا لَكُم، فَاعلَموا أَنَّما أُنزِلَ بِعِلمِ اللهِ، وَأَن لّا إِلاهَ إِلّا هُوَ، فَهَل أَنتُم مُّسلِمونَ.»

هناك تكرار للطلب التعجيزي، أو هكذا يظن المؤمنون بإلهية القرآن، ألا هو الإتيان بمثل القرآن، ولو بمثل جزء منه. فنحن نقرأ «فَأتوأ بِسورَةٍ مِّن مِّثلِهِ»، و«فَأتوا بِعَشرِ سورٍ مِّثلِهِ مُفتَرَياتٍ». ثم يتوعد القرآن المخاطَبين المتوجِّه إليهم الإعجاز (التحدي) في حال عجزهم بالقول: «فَإِن لَّم تَفعَلوا»، ثم يجزم بعجزهم بقوله: «وَلَن تَفعَلوا»، ثم يتوعدهم بالنار بقوله: «فَاتَّقُوا النّارَ التي وَقودُهَا النّاسُ وَالحجارَةُ أُعِدَّت لِلكافِرينَ»، أو يَعدّ عدم استجابة المخاطَبين بالإتيان بمثله دليلا على صدق دعوى إلهية القرآن، بقوله مخاطبا المسلمين: «فَإِن لَّم يَستَجيبوا لَكُم، فَاعلَموا أَنَّما أُنزِلَ بِعِلمِ اللهِ، وَأَن لّا إِلـاـهَ إِلّا هُوَ، فَهَل أَنتُم مُّسلِمونَ». أقول إن المطالبة بالإتيان بمثل القرآن مطالبة لا معنى لها، ولا تعبر البتة عن إعجاز، ولا تمثل دليلا على أن مؤلف هذا الكتاب الموسوم بالقرآن هو الله، تعالى عن ذلك حقَّ التعالي، وتنزّه تمام التنزُّه. فلكل أديب، ولكل شاعر، ولكل كاتب، ولكل مفكر، طريقته الخاصة في التعبير، ولاسيما الاستثنائيون والمبدعون والمجددون، فهم يتميزون عن غيرهم بأسلوب خاص بهم، وبثمة جمالية بلاغية، أو دقة في التعبير، أو تألق في الحكمة، أو بأفكار لم يسبقهم إليها أحد. ولو كان عجز الآخرين عن الإتيان بمثل ما كتب وما ألف مثل هؤلاء دليلا على كونهم أنبياء، أو ملائكة، أو كائنات خارقة، أو ربما آلهة، لاكتضّ التاريخ الإنساني بالآلهة والأنبياء والكائنات الخارقة. نعم، سيقال إن أولئك الاستثنائيين لم يدّعوا النبوة، ولكن يبقى العجز النسبي المدعى عن الإتيان بمثل ما جاء به مؤلف القرآن عاجزا عن أن يكون دليلا على إلهيته. ويلاحظ إن الآية الأخيرة، لم تقل للمسلمين في حال عجز المشككين: «فَاعلَموا أَنَّما أَنزَلَهُ اللهُ»، بل: «فَاعلَموا أَنَّما أُنزِلَ بِعِلمِ اللهِ»، ثم هناك فرق بين القول أن شيئا حدث بعلمه، أو إنه حدث بأمره وإرادته.

عندما يوجه إليّ مثل هذا التحدي، سأقول إن هذا لا يعنيني، فإني إن أتيت بمثله، ولو بمضامين أخرى، فسيكون تقليدا، ولا إبداع ولا تميّز في التقليد، وإن أتيت بشيء مغاير، فمسألة أيٌّ من القرآنين أفضل، قرآن نبي الإسلام، أم قرآن تنزيه العقيلي [الاسم الذي نشرت المقالة تحته]، ستبقى قضية نسبية ومختلفا فيها. لكن دليلي على عدم أفضلية القرآن نسبة إلى كل ما كتبه الناس قديما وحديثا، هو إن القرآن مفتقر إلى الكثير من التنقيح والتصحيح، بما فيه تصحيح الأخطاء اللغوية، النحوية منها والبلاغية، ومعالجة التكرار والإطالة، وسد الثغرات، وإزالة حالات سوء الفهم، ورفع اللبس عما يسميه القرآن بالمتشابهات، والاقتصار على المحكمات، ومعالجة حالات التعميم والإطلاق فيما لا يحتمل عادة التعميم والإطلاق، وحذف كل مبررات الكراهة والعداوة والاحتراب بين أفراد المجتمع الإنساني، بسبب التغاير والتباين في العقائد والأديان والإيمان والكفر، ومعاقبة الإنسان لا لشيء، إلا بسبب قناعاته، مما يُعَدّ تعارضا واضحا وصارخا مع العدل الإلهي، وذلك بجعل الإيمان معيارا، بينما معيار الجزاء الموافق للعدل الإلهي، يجب أن يكون وفق الرؤية الفلسفية المنزِّهة لله من النقص، هو العمل المقترن بالنية، على ضوء تحديد العناصر الاختيارية من غير الاختيارية في شخصية العامل إيجابا أو سلبا، أي إتيانا أو تركا. وكذلك دعوى أن الله لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، أو أنه كان كنزا مخفيا، فأحب أن يُعرَف، فخلق الخلق، كما جاء في نص تحت عنوان الحديث القدسي، وكذلك الحاجة إلى تنقيح القرآن بحذف كل ما يمكن أن يكون خرافة، أو لا أقل ما يمكن تأويله إلى فهم خرافي، وسأعرض إلى كثير مما أشرت إليه في مقالات وبحوث لاحقة. التنقيح إذن، أو إمكان - إلم نقل - وجوب التنقيح للقرآن، بما يجعله أكمل مما هو عليه، وأكثر عقلانية ومعقولية وإنسانية، وأكثر وضوحا في المعنى المراد، أي جعله مُحكَما دائما، وليس بعضه مُحكَما وبعضه الآخر مُتشابِها، أي متعدد المعاني المحتمل قصدها من النص؛ كل ذلك لهو الدليل على نقصه، وعلى لاإلهيته، بضرورة أن الكامل، لاسيما كمالا مطلقا سبحانه، لا يأتي منه إلا الكامل، ويستحيل استحالة قطعية أن يصدر عنه ناقص، أو كامل كمالا نسبيا، وبالتالي مفتقر إلى الإكمال، أو التكميل. إذن قدرتي على الإتيان بأفضل منه، عبر تنقيحه وتصحيح أخطائه الفلسفية والعقلانية واللغوية، دليل على عدم كماله، وبالتالي عدم صدوره عن الله. فالارتباك مثلا في ترتيب الآيات، والتنقل غير الحكيم والمربك، بل التداخل أحيانا بين المواضيع، دليل آخر على نقصه. فإذا كان هذا الارتباك في الترتيب آتيا من الذين جمعوا القرآن من الصحابة من بعد نبي المسلمين، وليس من مؤلفه المدعى أنه الله سبحانه، فأين ضمانة الحفظ المدعاة إذن؟ أين هذا من الضمان الإلهي المدعى قرآنيا والمعبر عنه بـ «إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ، وَإِنّا لَهُ لحافِظونَ»؟

وجاء في سورة النساء: «أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ، وَلَو كانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدوا فيهِ اختِلاَفاً كَثيراً»، وهذا تشكيك ذاتي، فقد جعل عدم الاختلاف والتناقض دليلا لصدق دعوى إلهية القرآن، وهذا هو منطوق الآية بتعبير المناطقة، أما مفهومها المترتب على منطوقها، فهو إن الاختلاف والتناقض - إذا ما اكتشف - فهو دليل على عدم صدق دعوى إلهية القرآن. وسنجد في بحوث لاحقة مدى التناقض وحالات الازدواجية في القرآن، فإذا ما ثبتت صحة نتائج تلك البحوث، فسيدل ذلك - بحسب تقرير القرآن نفسه - أنه «مِن عِندِ غَيرِ الله»، عندها سيتحتم القول بعكس النص ليكون: «أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ، وَلَو كانَ مِن عِندِ اللهِ لَما وَجَدوا فيهِ اختِلاَفاً كَثيراً».

ولعلي أشير - بتسديد الله وتوفيقه - في بحوث أخرى إلى الأخطاء اللغوية في القرآن، النحوية منها والصرفية والإملائية والبلاغية، وما أجده من الثغرات وحالات الارتباك والتناقض، وكل ما يتعارض مع مبادئ الإنسانية، وقواعد العقلانية، وأسس العقل الفلسفي، وكل ما ينقض مبدأ تنزيه الله عن النقص، والذي يمثل القاعدة الأساسية للإيمان بالله، ولعلها تتقدم مرتبة على مبدأ التوحيد، لأن التوحيد ما هو إلا نتيجة للتنزيه. وهذا لا يتعارض مع ما ذكرته في مقالات أخرى من أن التنزيه يمثل أعلى مراتب التوحيد. وإذا لم أضمن هذا الكتاب البحوث التي أشرت إليها، فسيكون ذلك بكل تأكيد ضمن كتاب آخر بعنوان «القرآن .. قراءة نقدية»، أو «... قراءة مغايرة»، أو بعنوان آخر، إذا ما وفقني الله لإنجازه.

17/12/2009



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google