المثقف ...لمحة نقدية من الواقع
المثقف ...لمحة نقدية من الواقع


بقلم: رفعت الزبيدي - 18-03-2017
/ عراق المستقبل للدراسات والبحوث التنموية

أكثر المجتمعات تكثر فيه مفردة ( المثقف ) هو العربي ، لاسيما العراقي منها. لاغرابة في الأمر مع تأريخ العراق قديما وحديثاً. الى درجة أن العراقي دائم الافتخار ( نحن علمنا البشرية القراءة والكتابة )! أما تاريخ العراق الحديث فالجزائر استعانت بالمدرسين العراقيين عندما تبنت سياسة إعادة تأهيل المجتمع الجزائري للغة العربية ضحية سياسة ( الفرنسة ) إبان الاحتلال الفرنسي لها. ولعل السادة القراء لديهم أمثلة اضافية أخرى لما أشرت. وعندما كانت حركة العلم منتشرة في المجتمع العراقي فمن الطبيعي يكون النتاج ملموساً من الناحية الثقافية. نحن أمام مفردتين في مقالي هذا هما ( الثقافة المنتجة ) او الثقافة الانتاجية بمعنى الثقافة والانتاج. لامعنى بأنك مثقف دون أن تنتج لنا فكراً وعملاً ينفع المجتمع. لدينا أمثلة كثيرة حركة الشعر الحر او مايسمى بالشعر الحديث كان روادها من العراق ( بدر شاكر السياب ، نازك الملائكة ،بلند الحيدري ، عبد الوهاب البياتي ) الشعر الكلاسيكي او المقفٌى كان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري علماً بارزا فيه بالاضافة الى شعراء آخرين مثل أحمد الصافي النجفي ، عبد الرزاق عبد الواحد ، مصطفى جمال الدين وعشرات غيرهم. في الحركة الفنية كالمسرح تأليفاً واخراجاً وتمثيلاً الى النحت ، الرسم، الموسيقى والغناء . بل حتى نجد الحركة المنتجة في الثقافة العراقية وفي لهجتها ( الشعر الشعبي ) أسماء لامعة كمظفر النواب ، عريان سيد خلف .والسؤال هل كان الانتاج الثقافي والابداعي في المجال الأدبي والفني فقط ؟ بالتأكيد كلا ، لدينا الطب، الهندسة المعمارية ، علم الاجتماع .... حتى في المجال الثقافي الديني كانت هناك أسماء بارزة ولعل آخرها للأسف د. أحمد الوائلي. هنا يبرز السؤال ، هل نحن امام ازمة ( المثقف ) وبالتالي خلوا الساحة العراقية من ذلك الانتاج الذي أشرنا الى أسمائهم ؟. ماهي العوامل المؤثرة ومتى بدأت تاخذ طريقها في المجتمع ؟ هنا لابد لي وأنا أفتح باب ( النقد الاجتماعي ) على مصراعيه الى الباحثين في مجالي علم الاجتماع وعلم النفس التربوي ، لابد من الرجوع الى مصدرنا الملهم الباحث وعالم الاجتماع د.علي الوردي . ولعل أهم مصادرنا الثقافية ( دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ) الذي تعود طبعته الأولى الى العام 1965 أي مرت على ذكراه نصف قرن من الزمن . خلاصة الفكرة لمرجعنا الوردي أنه قدم لنا تحليلاً للشخصية العراقية حيث الازدواجية والصراع بين البداوة والحضارة والحروب وتأثيراتها الى الوضع الاجتماعي في المدن وتفسخ مجتمعاتها ، مواضيع كثيرة سلط عليها الضوء من خلال دراساته ولم تقتصر على الكتاب بعينه انما كتباً اخرى لكنني أشرت الى ( طبيعة المجتمع العراقي ) من الناحية الزمنية ( نص قرن ) بين العام 1965 الفترة القريبة جداً من انقلاب حزب البعث 1968 والى اليوم 2017 كذلك نقترب من نصف قرن آخر . الاحداث خلال هذه الفترة الزمنية ماذا أنتجت ؟ أعتقد وهنا أدون ملاحظاتي النقدية للمثقف العراقي ، أنه بعد العام 1968 كان الصراع بلغ ذروته ، إما أن تكون بعثيا ( صلفاً متعجرفاً لاتعترف بالنقد والطرف الآخر ) أو أنك مخالف ومعارض وخائن للوطن . بدات مرحلة السقوط بين الموت في الزنازين او المقابر الجماعية او الحروب والخيار الآخر الهروب من الوطن. كلاهما له اسقاطاته ونتائجه المؤثرة في عملية الانتاج الثقافي الابداعي ، تحولت العملية الى انتاج ثقافي سلطوي ( قسري ) ثم جاءت المرحلة الثانية هي مرحلة المسخ الآدمي في الشخصية العراقية بعد العام 1991 ( الحصار والعقوبات الدولية ) حتى هوت تلك الشخصية الى قاع السقوط بعد العام 2003 . نحن الآن امام جيل ثالث بعد كتاب ( طبيعة المجتمع العراقي ) هذا الجيل يعاني ليس من المسخ ، السقوط ، انما الاحساس بالنقص ومحاولة خلق حالة تعويضية لمفردة ( الثقافة ) في كل ماينتج منه من حركة في المجتمع ، فهو مثلاً يصارع أقرانه أنتم كنتم في الخارج منعمين وجاء بكم المحتل ، أو أنتم كنتم في الداخل تابعين مطبلين لصدام حسين، في الخارج أصبحت الحركة الانتاجية مرتبطة حسب امزجة شخصية لاعلاقة لها بالانتاج الثقافي بدليل لاتوجد مؤسسة ثقافية تبدا وتنتج وتستمر فهم لايمتلكون ثقافة التأقلم مع بعضهم وفق قواسم مشتركة ، وفي الداخل تحولت الثقافة الى جزء من الممارسة اليومية ( القتل على الهوية الطائفية ، سرقة المال العام). المجتمع في الداخل والخارج أصبح يعاني من امراض نفسية واجتماعية أسوأ من تحليلات الوردي في حقبة ماقبل العام 1965. في تصوري أن مرحلة الاحساس ( بالنقص ) هي اخطر من المرحلة الثانية ( السقوط ) لأن في السقوط هناك تشخيص مُعترف به ممن سقط أن عوامل قد أجبرته على ذلك وعندما تزول تلك العوامل إن تهيأت الاسباب لمعالجته هناك احتمالية عودته الى طبيعته الآدمية أي الانتاجية النافعة ولكن المرحلة الثالثة التي يعاني منها المجتمع في الداخل والخارج ( النقص او الدونية ) هذه علٌةُ العلل . فهو يشعر بالفوقية على غيره وينتقم ممن يتعرض له بالنقد او التوجيه ويقف بوجه او يحارب من يرى فيه انتاجاً نافعاً في المجتمع ، لهذا هناك حالة اختناق للانتاج في المجالات التي كنا قد تباهينا بها. هنا أستعرض حالات ألقت بظلالها على واقعنا الاجتماعي ( تطور أساليب المكر والخداع العشائري، تطور أساليب المكر والخداع الديني ، تطور أساليب المكر والخداع السياسي ) هذا الثالوث المتحكم في مفردات الحياة اليومية في المجتمع ، الدين ، السياسة ، العشيرة ، ماذا أنتج ونحن كجاليات نعيش في دول العالم نتأثر بهذا الثالوث المقرف؟. سؤال آخر هل ماأطرحه ينطبق على المجتمع العراقي بقومياته وطوائفه ؟ هنا سأتجاوز ما لم يشر اليه الدكتور علي الوردي حيث لم يتناول المجتمع الكردي وبقيت دراساته في هذا المجال منحصرة في مجتمع الوسط والجنوب . ربما يتساءل القارئ الكريم لماذا؟ ربما ذاكرتي ضعيفة مع ماقرات لمرجعنا الوردي. أقول أن طبيعة الشخصية الكردية تختلف عن طبيعة الشخصية العراقية في الوسط والجنوب ، فكلمة ( المثقف ) وحركته الانتاجية في المجتمع كردياً هي اكثر واقعية من العراقي في الوسط والجنوب. السبب الثاني يعود الى عدم طغيان الثالوث ( الدين، السياسة ، العشيرة ) كماهو في الوسط والجنوب. سؤال آخر ، هل من علاج ؟ اقول نعم هناك عدة علاجات وليس علاجاً واحداً ، لدينا حركة ارتداد ديني في المجتمع العراقي ، لاسيما الشباب ، هؤلاء سيقدمون نتاجات مستقبلية تكون لها ارتدادات في الجيل الرابع، لكنهم هل سيعالجون حالة المسخ في الشخصية العراقية ؟ والمثقف جزء منهم . في تصوري أن الجيل الرابع سيتسم بأكثر عنفا وتجرداً من القيم الشكلية الدارجة الآن ، لاسيما مع تطور وسائل الاتصال . العلاج الأهم حركة تغيير في المجتمع يقودها ضحايا الصراع بين البداوة والحضارة ، ممن يحترمون خصوصية المجتمع العراقي دون اغتراب فكري جديد حيث الارتداد الديني ، ويؤمنون بالحركة التنويرية في المجتمع الجديد أي يطرحون قيماً حضارية لم تكن مالوفة في العرف المتداول خلال الخمسين سنة المنصرمة. هذا الجيل يفجر طاقات مكبوتة للقدرات الشخصية حين تتوفر لها عوامل مساعدة. انا شخصيا لست متشائماً من هكذا علاج لأن مجرد التفكير بالعلاج الألحادي في المجتمع يعني انهيار منظومة دفاعية لماتبقى من الخير وبنسبة عشرة بالمئة .هي لسيت دعوة مثالية فقط انما قراءة للمشروع الوطني الذي لابد من تضمينه بهكذا دراسات نقدية . قد يتسائل القارئ كيف نطرح المشروع الوطني ونحن نعارض الالحادية في المجتمع فمن يطرح المشروع الوطني عليه أن يؤمن بمبدأ التسامح ؟ أقول أن نسبة الأمية في المجتمع تجاوزت نسبة 40% بالاضافة الى تغلغل الفساد الاداري في الوسط التعليمي ، نسبة كبيرة من حملة الشهادات العليا تم منحها بالغش والرشاوى ، وهي ليست وليدة مابعد العام 2003 انما ظهرت بوادرها بسبب الحصار الاقتصادي ضد العراق بعد العام 1991 ، وهو جزء من المسخ الثقافي في الشخصية العراقية، فكيف لنا أن نتبنى حركة ارتداد دينية في المورورث الثقافي الهزيل أصلاً؟ لان الارتداد هنا ناشئ من ردود أفعال نتيجة ممارسات متخلفة أيضا وفاسدة في قيم المجتمع يفترض أن تكون حركة تقدم الى الأمام في التشخيص والمعالجة كمن ترتد على حجابها لمجرد أنها خرجت من الاجواء الجوية للبلد الذي جاءت منه وهي اصلاً لاتملك ثقافة الحجاب القسري والمفروض عليها. أو كمن ترتد على الأسرة لأن الزوج لم يقم بمسؤولياته كقائد للأسرة . هنا تكمن الخطورة معالجة الخطأ بالارتداد الخاطئ وليس المدروس . ان أهمية فتح الباب البحثي لملف المثقف مهم جداً باعتباره يمثل قيمة عليا في اعادة بناء الشخصية نحو القيام بمهمة مايُطرح اليوم من حركة ( الاصلاح ) الممسوخة أيضا . لأن المنادين بها هم جزء من الجريمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لااعتقد أن المثقف المتصدر للمشهد العام العراقي لديه القابلية على التفاعل مع هكذا طرح لأنه في الأصل يحتاج الى اصلاح ذاتي في قيمه وحالاته النفسية ( التعالي على الآخر، النفاق الثقافي ) ثم نتحول الى القيم الثقافية المُتبنٌاة. ( يتبع ) .



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google