الأخلاق بدون إله ! *
الأخلاق بدون إله ! *


بقلم: د. رضا العطار - 24-03-2017


تقدم لنا الخبرة العملية في عالم الاخلاق كثيرا من الامثلة على اخلاقية اناس لا يكترثون بتعاليم الدين او لا يؤمنون اصلا بالله. وليس في الامر ثبات دائم، بل يوجد انفصام بين العقيدة الاسمية المعلنة وبين سلوك صاحبها.
فهناك اناس متمسكون بالدين تمسكا شديدا بل قد يكونوا من العاملين في الدعوة الدينية، ومع ذلك لا تجد سلوكهم يختلف في شيء عن سلوك الماديين العُتاد، والعكس ايضا صحيح : فهناك اناس كثيرون منسوبون الى التفكير المادي، ومع ذلك يتمتعون بأخلاص شديد ومستعدون للمعاناة بل للنضال من اجل الاخرين. من هذا التشوش وعدم الثبات تنشأ الكوميديا الانسانية فتحيًر عقول المفكرين الجادًين حتى اكثرهم استنارة.

ليست هناك اذن علاقة (اوتوماتيكية) تلقائية بين عقيدتنا وسلوكنا. فسلوكنا ليس بالضرورة من اختيارنا الواعي ولا هو قاصر عليه. انه على الارجح نتيجة التنشئة والمواقف التي تشكلت في مرحلة الطفولة اكثر منه نتيجة للمعتقدات الفلسفية والسياسية الواعية التي تأتي في مرحلة متأخرة من مراحل الحياة. فاذا تعلم شخص ما ان يحترم كبار السن، وان يحافظ على كلمته، وان يحكم على الناس بصفاتهم، وان يحب الاخرين ويساعدهم، وان يقول الصدق، وان يكره النفاق، وان يكون انسانا بسيطا أبيًا، اذا نشأ على كل هذه الاخلاق الحميدة، فستكون هي صفاته الشخصية، بصرف النظر عن افكاره السياسية الاخيرة او فلسفته الاسمية التي يعتنقها. هذه الاخلاقيات مدينة للدين ومنقولة منه.
فقد نقل التعليم فضائل دينية اصيلة معينة في ما يتصل بالعلاقة بين الانسان والانسان، ولكنه لم ينقل معها الدين الذي هو مصدر هذه الاخلاقيات. في هذه الحالة توجد خطوة واحدة بين التخلًي عن هذا الدين وبين التخلًي عن اخلاقياته.
بعض الناس لا يقدمون على هذه الخطوة، ومن ثم يظلون (منقسمين) بين دين لا يتبعونه في الاساس، وبين اخلاق هذا الدين التي يستمرون في اتباعها، رغم انهم لا يؤمنون بالكيان الذي اقيمت عليه هذه الاخلاق.
هذا الموقف يمنح الفرصة لبروز ظاهرتين تعقًدان البحث : الملحدون الاخلاقيون، والمؤمنون الذين لا اخلاق لهم.

ومن ثم، سيبقى السؤال عما اذا كانت (الاخلاق بدون إله ممكنة) مطروحا للحديث النظري، حيث انه لا يمكن اجراء اختبارعملي في هذا المجال، ولا الرجوع الى احداث تاريخية معينة تساند رأيا دون رأي. فنحن لا نعرف حالة واحدة خلال التاريخ الانساني لمجتمع لا ديني خالص، ولا دولا تربًت فيها اجيال بعد اجيال على نبذ الدين لتعطينا اجابة مؤكدة على سؤال ما اذا كان هناك اخلاق بلا دين، او ما اذا كان ممكنا وجود ثقافة إلحادية ومجتمع ملحد.
فهذه المجتمعات لا يمكن ان تبقى خارج المكان والزمان، فالماضي باسره موجود هنا يشع بطرق مختلفة، والعالم كله موجود هنا يؤثر في الحاضر بقصد او بغير قصد، وانني لأجرؤ على الجزم بان السلوكيات والقوانين والعلاقات الانسانية والنظام الاجتماعي لاي مجتمع نشأ فيه اعضاؤه جميعا على جهل تام مطبق بالدين، ستكون مختلفة اختلافا جذريا عن اي شيء صادفناه اليوم سواء في المجتمعات المتدينة او في المجتمعات التي تعيش تحت سيطرة وتأثير افكار إلحادية. بل لعل كثيرا من الناس غير المتدينين سيصدمون اذا اطلعوا على افكار وقوانين مجتمع الحادي تام الالحاد، او اذا واجهتهم فجأة صورة عالم ثابت الالحاد. (جورج اورويل).

* مقتبس من كتاب (الاسلام بين الشرق والغرب) لعلي عزت بيجوفيتش.






Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google