تشظي المشهد السياسي العراقي: المشكلة والحل!
تشظي المشهد السياسي العراقي: المشكلة والحل!


بقلم: ناجح العبيدي - 26-03-2017
لا أحد يعرف بالضبط عدد الكتل السياسية الممثلة في مجلس النواب العراقي. فهي تتوالد وتنشطر وتتخذ لها أسماء رنانة، ثم تعود لتختفي أو تتجمع في إطار أكبر. وكل ذلك يحدث لأسباب غير معلومة، قد تكون خلافات مبدئية أونفعية أو شخصية أو نتيجة صراعات على المناصب والتنافس على تصدر المشهد. رسميا يعتبر التحالف الوطني الكتلة الأكبر وكان يضم عند الإعلان عن تشكيله عام 2014 أكثر من 170 نائبا. لكن حتى رئيسه الحالي عمار الحكيم لا يعرف بالضبط عدد أعضاء "كتلته" الهلامية، لا سيما وأن معظم نواب ائتلاف دولة القانون والتيار الصدري يشعرون بولاء أكبر لنوري المالكي أو لمقتدى الصدر، أو يراعون توازنات أخرى لا يعرفها إلاَّ الراسخون في العلم. أما كتلة التغيير التي قيل بإنها عابرة للطوائف فقد دخلت طي النسيان كما ظهرت فجأة. ما يقال عن الكتل "الكبيرة" يسري على الصغيرة أيضا. فقد نجح التيار المدني الديمقراطي مثلا في الانتخابات الأخيرة في إيصال ثلاثة نواب إلى البرلمان، ولكن لم تمضِ فترة طويلة حتى شكّل كل واحد منهم "كتلته" الخاصة به. لهذا ليس من المبالغة القول بإن مجلس النواب العراقي يضم 328 "كتلة"، أي بعدد النواب لأن كل نائب يتصرف عمليا على هواه ويصعب الحديث عن وجود انضباط داخل الكتلة، كما هو سائد في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية. لا يعني هذا الوضع مزيدا من الديمقراطية والتعددية، بل هو تعبير مكثف عن حالة التشرذم داخل الاصطفافات السياسية وأحد مظاهر فشل الدولة العراقية.
لا يعود هذا التشظي في الحياة السياسية إلى حداثة التجربة الديمقراطية وضعف الخبرة لدى السياسيين وعدم التعود على الانضباط فحسب، وإنما يعبر بالدرجة الأولى عن حالة الاستقطاب السياسي والثقافي والآيدولوجي السائدة في المجتمع العراقي نتيجة تنوع الانتماءات والولاءات القومية والدينية والمذهبية والمناطقية والعشائرية. لكن حتى الكتل "المنسجمة" مذهبيا أو قوميا تعاني من انشقاقات وحالات "تمرد" وتسرب الأعضاء وغياب المواقف المشتركة. هنا تشكّل أيضا ثقافة الغالب والمغلوب السائدة في المجتمع العراقي التي سلط الضوء عليها عالم الاجتماع علي الوردي، عقبة كبيرة أمام التوصل لحلول وسط بين الآراء المختلفة. ويشير ذلك بوضوح إلى أن هوس الزعامة والانفراد يلعب أيضا دورا هاما في إشاعة الفوضى وفي تضخم التنظيمات والمنابر والكيانات الفعلية والمفتعلة. من جانب آخر تُعتبر الامتيازات والفوائد المالية والاجتماعية التي يوفرها المعقد البرلماني أو المنصب السياسي عامل إغراء لا يقاوم يدفع عشرات الآلاف للترشح للانتخابات على المستويين الاتحادي والمحلي في إطار قوائم وائتلافات تتنافس في اختيار الأسماء الرنانة المتشابهة مثل "وطنية" و"عراقية" و"إسلامية". في نفس الوقت أصبح تضخم المرشحين بالمقارنة مع عدد المقاعد ظاهرة غير صحية تلقي بظلالها على سير الانتخابات. ففي انتخابات عام 2014 تنافس أكثر من 9000 مرشح ينتمون لنحو 300 حزب وقائمة على 320 مقعدا فقط، أي قرابة ثلاثين متنافسا على المعقد الواحد. وفيما كانت هذه النسبة في محافظات إقليم كردستان تقل عن 10 مرشحين لكل معقد، بلغت المنافسة أوجها في بقية المحافظات ، وخاصة في بغداد حيث سجل متوسط عدد المرشحين للمعقد الواحد رقما قياسيا قارب 50. في ظل هذه الظروف يجد الناخب نفسه في حيرة من أمره بدلا من أن يفرح بهذا "التنوع الديمقراطي". في المقابل انهالت السخرية على المئات من المرشحين الذين لم يحصلوا في الانتخابات الأخيرة إلاَّ على صوت واحد فقط. وبعد إعلان النتائج يجد البرلمان نفسه إزاء تركيبة معقدة تضم عشرات الكيانات والقوائم والأحزاب والائتلافات الهشة والتي تتحكم بها مختلف الأهواء والميول وتتصارع بقوة على المناصب.
تتمثل إحدى أخطر نتائج تشتت المشهد السياسي في صعوبة تشكيل الحكومة. بعد انتخابات عام 2010 دخل العراق من دون شك كتاب جينس للأرقام القياسية عندما احتاج نوري المالكي 9 أشهر من المفاوضات الشاقة والمساومات والمناورات لكي يشكّل حكومته الثانية "العرجاء" ليتفوق بذلك العراق على هولندا التي بقيت في سبعينات القرن الماضي 208 أيام دون حكومة. أيضا حيدر العبادي لم يلتزم عمليا بالمواعيد الدستورية بعد انتخابات 2014 ، إذ لم تبصر كابينته الأولى (دون وزارتي الدفاع والداخلية) إلاَّ بعد أكثر من خمسة أشهر تخللتها أيضا مفاوضات ماروثونية لإقناع الأطراف الرئيسية التي لم تتررد في مواصلة صراعاتها على الرغم من أن ثلث البلاد كان واقعا تحت قبضة داعش. بطبيعة الحال يرتبط التأخر في تشكيل الحكومة بالديمقراطية التوافقية (أو نظام المحاصصة) السائدة في العراق والتي يفرضها التنوع الإثني والمذهبي في البلاد. غير أن وجود عدد كبير من الأحزاب والقوى في البرلمان، والكثير منها صغير جدا وهامشي، يجعل من التوصل إلى توافق حول البرامج الحكومية وتوزيع المناصب عملية شبه مستحيلة لأن الجميع يرى في أي حل توافقي إجحافا بحقه. هذه المشاكل لا تنتهي بتشكيل الحكومة وإنما تظهر في كل منعطف سياسي وفي كل نقاش حول مشروع قانون جديد أو تعديل وزراي بسيط حيث تحاول الكتل الصغيرة إرباك التوافقات بين الكتل الكبيرة وتعطيلها. والنتيجة هي انعدام الاستقرار السياسي وتلاشي القدرة على اتخاذ القرار. لا شك إن الكوارث التي مر بها العراق ومنها تمدد داعش المخيف في منتصف 2014 وتفشي الفساد وغيرها، يصعب تفسيرها دون أخذ مشكلة تشرذم المشهد السياسي بنظر الاعتبار. من جهة أخرى يوفر هذا الوضع الأرضية المناسبة لتضخم الجهاز الإداري للدولة نتيجة استحداث المزيد من الوزارات والمناصب غير الضرورية بهدف ترضية أكبر عدد ممكن من الأطراف، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تبديد الموارد المالية وانتشار الفساد. علاوة على ذلك أثبتت تجربة العراق أن إشراك جميع الكتل الفائزة في الحكومة ومحاولة إعطاء الجميع حصة من "الكعكة" أدى إلى نشوء وضع شاذ حيث تحرص معظم القوى على أخذ نصيبها من الامتيازات والمناصب وتواصل في نفس الوقت انتقاد الحكومة وذم المحاصصة وكأنها في المعارضة.
مبدئيا يمكن حل مشكلة التشظي في الحياة السياسية من خلال اعتماد نظام الانتخاب بالأغلبية (أي الانتخاب المباشر للمرشح في الدائرة الانتخابية) كما هو معمول في النظم الديمقراطية المطبقة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكذلك الهند وهي بلدان تتميز بدرجة عالية من الاستقرار السياسي. في هذه الحالة يتم تقسيم العراق إلى 320 دائرة انتخابية (إلى جانب 8 مقاعد مضمونة للأقليات) حيث يفوز بالمقعد الانتخابي المرشح الذي يحصل على أغلبية الأصوات في الدائرة، بينما تذهب البقية وبغض النظر عن أصواتها خالية الوفاض. سيعني ذلك أن عدد القوى التي ستنجح في الصعود إلى البرلمان لن يزيد عن عدد أصابع اليد، بينما تجد القوى الهامشية نفسها خارج اللعبة السياسية. وعلى الرغم من المزايا الواضحة لهذا النظام الانتخابي، إلاَّ أنه يعاني أيضا من نواقص خطيرة، وفي مقدمتها إبعاد القوى والأحزاب الصغيرة عن المشاركة في العملية السياسية. وفي ظل التنوع الاثني والمذهبي في العراق فإن ذلك سيعني أيضا توجيه ضربة قوية للديمقراطية التوافقية الأمر الذي يجعل من تطبيقه في العراق أمرا شبه مستحيل.
إذن يجب البحث عن إمكانية أخرى للحد من ظاهرة التشتت الحزبي في ظل نظام الانتخاب النسبي (أي التصويت للقائمة) المعمول به في العراق حاليا. كما تبين تجربة الديمقراطيات العريقة في عشرات البلدان فإن التوصل إلى هذا الهدف يتطلب اعتماد العتبة الانتخابية، أي تحديد نسبة معنية من الأصوات (مثلا 3 % أو 5%)، ما يعني أن أي حزب أو إئتلاف لا ينجح في الحصول على هذه النسبة من الأصوات لن يكون ممثلا في البرلمان . بهذه الطريقة يتم استبعاد الأحزاب الهامشية والصغيرة جدا وضمان صعود عدد معقول من القوى السياسية إلى مجلس النواب. من البديهي أنه كلما كان عدد الفرقاء أقل، تكون عملية التوصل إلى توافقات أسهل وأكثر سلاسة. من جانب آخر يُفوت هذا النظام على التيارات الهامشية فرصة المزايدة ومحاولة تعطيل اتخاذ القرار.
وَجدَ نظام العتبة الانتخابية طريقه إلى التطبيق في العديد من البلدان منذ عشرات السنين. في ألمانيا مثلا أستحدث هذه النظام مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية كردٍ على فشل التجربة الديمقراطية وصعود الحزب النازي في ثلاثينات القرن الماضي. منذ ذلك الحين تم الاتفاق على الأخذ مبدئيا بنظام الانتخاب النسبي وعلى أن لا تدخل البرلمان إلاَّ الأحزاب والقوائم التي تحصل على الأقل على 5% من الأصوات. وبقيت هذه العتبة الانتخابية ثابتة حتى يومنا هذا رغم الكثير من الجدل والاعتراضات والشكاوى لدى المحكمة الدستورية.
على المستوى العالمي أخذ الكثير من البلدان الأوروبية التي تعتمد نظام الانتخاب النسبي بالعتبة الانتخابية مثل هولندا (0,7%)، إسبانيا (3%)، إيطاليا (4%)، بولندا (5%) وروسيا (7%) وغيرها. أما أبرز بلد إسلامي يطبق هذا النظام فهو تركيا حيث تبلغ العتبة الانتخابية 10% وهي نسبة مبالغ فيها بكل المقاييس. من الواضح أن هذه النسبة التي يتمسك بها الرئيس الإسلامي رجب طيب أردوغان تهدف إلى استبعاد قوى المعارضة وخاصة الأحزاب الكردية من ساحة البرلمان وحتى يخلو الجو لحزب العدالة والتنمية لتمرير تعديلاته الدستورية وتكريس سلطات رئيسه المطلقة. ويُبين مثال تركيا الخطورة التي ينطوي عليها سوء استخدام العتبة الانتخابية وتوظيفها كأداة لتقويض جوهر الديمقراطية.
لكن حتى العتبة الانتخابية بنسبة أقل لا تزال تثير في مختلف البلدان التي تعتمد نظام الانتخاب النسبي جدلا قانونيا وسياسيا واسعا. أهم انتقاد لهذا النظام يتمثل في خرقه لمبدأ المساواة. فمن الواضح تماما أن تطبيقه سيعني ضياع أصوات الناخبين الذين يصوتون للأحزاب التي تفشل في تجاوز العتبة الانتخابية. وكلما كانت نسبة هؤلاء عالية، تتفاقم ظاهرة تجاهل إرادة جزء من السكان. من جهة أخرى يرى الكثير من الخبراء أن وجود العتبة الانتخابية يؤثر على سلوك الناخبين ويدفع عددا منهم للتصويت للأحزاب التي تملك فرصة واقعية في دخول البرلمان بدلا من الأحزاب الصغيرة، ليس لعدم القناعة ببرامج الأخيرة، وإنما خشية ذهاب أصواتهم "هباءً". وهذا يعني في نهاية المطاف انتهاكا لمبدأ تكافؤ الفرص بين الأحزاب المشاركة في الانتخابات.
تُقر أغلبية فقهاء القانون الدستوري بوجاهة هذه الانتقادات، ولكنهم يطالبون بضرورة الموازنة بين مقتضيات الحفاظ على الاستقرار السياسي للبلاد من جهة ومخاطر التشرذم السياسي نتيجة صعود الكثير من الأحزاب وبما فيها أحزاب هامشية وصغيرة جدا من جهة أخرى. ولهذا يرى هؤلاء بأن مزايا وحسنات العتبة الانتخابية تتفوق بشكل واضح على سلبياتها ومساوئها، وهذا ما يثبته الواقع العملي في البلدان التي تعتمد نظام الانتخاب النسبي حيث لا توجد تجربة ديمقراطية راسخة يشار إليها بالبنان استطاعت أن تستغني عن العتبة الانتخابية. بل ويمكن القول بإن المبالغة في تخفيضها يمكن أيضا أن يؤدي إلى نتائج سلبية، وهذا ما أثبته تجربة هولندا في الانتخابات الأخيرة قبل شهر عندما نجح 13 حزبا في تجاوز العتبة الانتخابية البالغة 0,7% فقط ، الأمر الذي يجعل من ولادة الحكومة الجديدة عملية عسيرة للغاية. ولا يستبعد أن تعود هولندا مجددا لإزاحة العراق عن "عرش" الرقم القياسي في طول فترة انتظار الحكومة الجديدة.
إن تجربة الانتخابات الاتحادية والمحلية في العراق منذ عام 2003 تشير بوضوح إلى مخاطر انعدام الاستقرار السياسي نتيجة التشظي في المشهد السياسي. ولا ريب أن استحداث عتبة انتخابية سيساعد في الحد من هذه الظاهرة الخطيرة. وبما أن العراق مقبل على استحقاقات انتخابية فإن مناقشة تطبيق العتبة الانتخابية انطلاقا من الحرص على مستقبل التجربة الديمقراطية في البلاد يحتل أهمية كبيرة على الرغم من المقاومة المتوقعة من قبل الأحزاب والقوى والتيارات الصغيرة التي ستخشي من الاضمحلال والاختفاء في حال اعتماد مثل هذا النظام.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google