محنة الفكر الأنساني(9)
محنة الفكر الأنساني(9)


بقلم: عزيز الخزرجي - 17-04-2017
ألمكوّن ألثّالث للثّقافة: ألعولمة و ألتّحولات ألتكنولوجيّة:
مُقدّمة ألحلقة:
سنبحث تأثير العلم و تكنولوجيا الأتصالات و آللوجستيات على حياة الأنسان المعاصر كركن من أركان الثقافة الأنسانيّة المعاصرة.

لعقود و حتى قرون ظلّت ألأسرة و آلمدرسة و آلمسجد تلعب دوراً أساسيّاً في تكوين و ترشيد سلوك و مدارك الإنسان و ثقافته، حيث تساهم في تشكيل منظومة القيم التي يتمسك بها الأنسان و يتّخذها معالم تتحدّد من خلالها مقومات السّلوك الإجتماعيّ بما فيها علاقات الآباء بالأبناء و علاقة الأثنين بما يحيط بهم من بشر و حجر و شجر.

أمّا اليوم فقد تغيير الوضع, و إنتقل جزء كبير من هذا الدّور إلى شبكات الإنترنت و الهواتف الذكية و الألعاب الإلكترونية و تكنولوجيا الأتصالات عموماً، الأمر الذي فتح الباب أمام أنماط من التواصل المجازي الذي حلّ الكثير منها محلّ الحوار و المحادثة المباشرة بين أفراد الأسرة الواحدة و حتى على مستوى العلاقات الأجتماعية, ممّا ساهم في توسيع الفجوة و تكريس الصّراع بين جيلي الآباء و الأبناء, و العوارض المرضية الخطيرة في الجانب السايكلوجي و البايلوجي و بآلتالي إنعكاساتها سلباً على الجميع.

إنّ هذه التحولات التكنولوجيّة أفرزت تفاعلات جديدة للعلاقات على صعيد الأسرة و المجتمع أدّت إلى تعزيز العزلة و التنافر بين آلأفراد و الأزواج, بجانب التأثيرات السّايكلوجية و البايلوجية و التلوث البيئي بسبب المشعّات الضوئية و الأليكترونية و آلكهرومغناطيسية!

فما هو أثر التكنولوجيّا الجديدة للاتصال على تلاشي قيم العلاقات الأسريّة و آلخصائص الأخلاقيّة و التراحميّة؟

و ما هي السُّبل الكفيلة بتسهيل إستعادة الأسرة لدورها الرئيسي في التربية و التوجيه؟

و كيف يُمكن الأستفادة من آلجوانب الإيجابيّة لوسائل الأتصال الحديثة؟

و ما هي الآليات التي يُمكن من خلالها القضاء على الأميّة التكنواتصالية للوالدين لتسهيل عملية التوجيه ألأسري؟
بإختصار .. أننا بحثنا في هذه الحلقة بآلتفصيل أساساً و مُكوّناً آخر من مكوّنات ثقافة الأنسان المعاصر.

و قبل بيان التفاصيل نشير كتكملة للمقدمة أعلاه؛ بأنّ أهل الشرق كما أهل الغرب, تعاملوا مع مفهوم الثقافة بإفراط و تفريط, حيث أفرّط الشرق في الجانب الشكليّ و الطقوسي و ركّزوا على ظواهر الدِّين و فرطوا في الباطن مهملين قضايا القلب و الوجدان, و كذلك العلم و التكنولوجيا بإعتبارها مسألة عادية.

أمّا في الغرب و بعد تجارب مريرة مع الكنسية المنحرفة إبان القرون الوسطى حدث العكس, مركّزين على الجانب العلميّ و التكنولوجي و معتبرين الدِّين أفيون الشعوب و سبباً لظلمهم و تخلّفهم كردّ فعل على تصرفات و مظالم الدّين الكنسي, الذي إعتبروه مُجرّد علاقة غيبية بين قلب الأنسان المؤمن و خالقه و لا علاقة له بآلحياة الأجتماعية و السّياسية و الأقتصادية, و هذا هو التفريط الواضح بأهم ركن من أركان ثقافة و سلوك الأنسان!

هذا التفريط الواضح أدّى إلى أنهاء الوجود العائلي, بحيث لم يعد هناك شيئ إسمه الزواج, و بآلتالي لم يعد الرجل كما المرأة يهتمون بقضايا التوالد و تربية آلأبناء, مفضلين تربية الكلاب و الحيوانات على ذلك.

كما أدّى إلى ظهور موجاتٌ و تياراتٌ فكريّة أبدعها نفرٌ من عِليّة المجتمع العلميّ في الغرب هالَهُ ما آلَ إليه أمرُ هذا البنيان الشامخ و الهشُّ في آنٍ، خصوصًا بعد ما تبيَّنت الأضرار الكبيرة التي لَحِقَت بالرّوح و آلجسم الأنسانيّ جراء إصرار القائمين على المؤسَّسات العلميّة الرّسمية في الغرب و من فوقهم النظام السياسيّ - الأقتصادي الذي يتحكم ببرامجه الأساسيّة (ألمنظمة الأقتصاديّة العالمية) بجعل العلم وحده هو المعيار الأول و الأخير في تحقيق السعادة, بل في الحقيقة في تحقيق رفاه و سعادة أصحاب المنظمة!

حدث هذا كلّه بسبب موت الضّمير و الوجدان و إنقطاع الأنسان عن الغيب و تجاهُل الكثير من ظواهر الوجود و الإعراض عن قيم السّماء و آلرّسالات الخالدة التي أُسيى فهمها أو تمّ تغييرها و تزوير مضامينها لصالح الحكام و المتسلطين و أصحاب دين الوجاهة الذين حاولوا ربط الدِّين بشخوصهم و كياناتهم من دون نشر وتعميم الأسلام و تطبيقه بين الناس كنظام للحكم و كأن الدين ملك لهم وحدهم, مُدّعين بأنّ أمر أقامة الدِّين عمليّاً, مسألة تخصّ الأمام(ع) و المسيح الموعود(ع) أو (الحتمية التأريخية) بدخول الناس ألمرحلة آلشيوعية الموعودة كآخر مرحلة للأشتراكية بحسب فلسفة النظام الأشتراكي, و ما على المسلمين – بحسب إعتقاد مراجع الوجاهة - في زمن الغيبة الكبرى إلا تقديسهم .. ثمّ إطاعة الحكومات الظالمة من الجانب الآخر و الأبتعاد عن معارضتهم, لأنّ الوقوف بوجه الظالم يُعَدُّ بمثابة (رمي النفس في التهلكة) و هو حرام بنظر هذه الطبقة من الفقهاء التي أهملت دور الأقتصاد و العلم و التكنولوجيا تماماً!

لا شكّ أنّ للتكنولوجيا التي تتطور بسرعة هائلة كلّ يوم و ثانية .. دورٌ رئيسي و هام في تحديد مصير ألأفراد و المجتمعات, و هناك علاقة مؤثّرة و حساسة للغاية بين سرعة التطور التكنولوجي و تأثيره على ثقافة الفرد, لكونها توسّع من دائرة إرتباط الأفراد, و بآلتالي إنفتاح بعضهم على ثقافة البعض الآخر و تطور مدار العقل والعلاقات الأنسانيّة, و بذلك إختصرت التكنولوجيا الكثير من المسافات و الزمن و الجهود بإتجاه تكثيف المعرفة و البحث العلمي و أنجاز الأعمال و توسع العلاقات, و لكن هذا الناتج لم يكن بآلضرورة لصالح الأنسان بل أضرّ بأهم جوانب الحياة الأنسانية و الأجتماعية, فهو كسيف ذو حدّين, لهُ سلبيات بجانب الأيجابيات, و لذلك يجب أن تستخدم بآلأتجاه و الشكل آلصحيح و آلفعال, و تتحدّد إتجاهها من خلال الأهداف التي ينشدها المستخدم!

هذه التحولات التكنولوجيّة أفرزت أيضاً أمراضاً خطيرة و تفاعلات جديدة في العلاقات على صعيد الأسرة أدّت إلى كثرة الطلاق و الفساد و التّميع و الأنحلال و العزلة و التنافر و إنتشار الأمراض النفسية, حيث دلّت آخر إحصائية لليونسكو بوجود أكثر من 300 مليون كئيب و مريض نفسياً!

فما هو أثر الوسائط الجديدة للاتصال على الأنسان, و كيف تؤثّر على الجسد و النفس و على تلاشي قيم التواصل الأسريّ و خصائص المجتمع التراحميّ؟
و ما هي سبل تسهيل استعادة الأسرة لدورها الرئيسي في التربية و التوجيه؟
و كيف يمكن الاستفادة المثلى من الجوانب الإيجابيّة لوسائل الاتصال الجديدة؟
وما هي الآليات التي يمكن من خلالها القضاء على الأميّة التكنواتصالية للآباء و الأمهات لتسهيل عملية التوجيه و التواصل بين الأبناء و الآباء؟




أتوقع بأنّ ثمّة أمراض نفسيّة شديدة الخطورة و كذلك جسميّة مزمنة سيتعرض لها الجيل القادم نتيجة للعزلة النفسيّة و آلآلام الرّوحية التي سيعيش فيها .. نحن الكبار عشنا في حنان أسريّ, و علاقات طيّبة و حساسة مع آلأهل و الجيران و الأم و الأب اللذين كانا يحسّان بكلّ صغيرة و كبيرة أو طارئ يداهمنا, كانوا معنا حتى اللحظة الأخيرة قبيل الخلود إلى النوم ليلاً, و كذا مع الأخوة و الأخوات و الأقرباء, لكن الأمور تبدلت ليصبح الأصدقاء و الغرباء هم من يودّعون الأبناء قبيل نومهم من خلال الأتصالات الحديثة و يملؤون جلّ أوقات فراغهم, لكن الأمر تبدل اليوم, فعلى سبيل المثال, أنني للآن و رغم كوني جاراً لجيراني على مدى أكثر من عشر سنوات .. لكن للآن لا أعرف حتى مجرد أسمائهم, كما لم تعد هناك علاقات قوية بيننا سوى السلام من بعيد أحيانأً, و هكذا حتى العلاقة مع الأبناء لم تعد تلك العلاقة التي كانت من قبل بسبب البدائل التكنولوجية التي حلّت محل العلاقات الأنسانية.

و الحلّ الأمثل ليس بالرفض و الرقابة على الأبناء كما يعتقد البعض من علماء التربية و الأجتماع, و لكن بزيادة مساحة الحوار و محاولة الكبار الاقتراب من ذلك المجهول و تفعيل المحبة و التواصل مع الأبناء!
بل بمحاولة إزالة الأضطراب ما بين الجيلين؛ جيل الأباء و جيل الأبناء.

و لا بُد من أجل درأ محنة الفكر الأنساني في هذا الأساس الثقافي, أن نبحث بدقة؛ ألآثار السلبية لدور التكنولوجيا الحديثة على بنية الأسرة و في توسيع الفجوة بين الآباء و الأبناء مع آليات ممارسة الأسرة لدورها الرئيسي في التربية و التوجيه, و آليات توعية الأسرة و القضاء على الأمية الكومونيكيشنية للأبوين, و بآلتالي تمكين الأسرة من إستعادة دورها الأساسي في إعداد جيل صالح متزن فكرياً و سلوكياً و جسمياً.

و بغض النظر عن الجوانب ألماديّة ألتي يُمكن أن تتحقق من خلال التقارب المعرفي بين الناس, فأنّ هناك تأثيرات سلبيّة و مخاطر كبيرة على نفس و روح مستخدمي التكنولوجيا الحديثة و أجهزة آلأتصال بدءاً بتأثيرات آلطاقة الكهربائية و الطاقة الضوئية و الذبذبات الكهرومغناطيسية ثم أجهزة الحاسوب و الهواتف المحمولة و البرامج و الألعاب الألكترونية الأخرى و التلوث الضوئي و إنتهاءاً بالضغوط النفسية التي تتركها على حياة و روح المستخدم, فكلما إنكبّ الأنسان على التكنولوجيا كلّما إبتعد عن قضايا الألفة و آلمحبّة و الرّوح و العاطفة و الرّحمة, و العكس صحيح, و هذا ما أثبتته الدّراسات و التحقيقات العلميّة(1)!

و أيضا .. كلّما رافق الأنسان التكنولوجيا الحديثة و منها الأنترنيت و الشبكات العنكبوتية والألعاب الأليكترونية و الهواتف الذكية و التلوث الضوئي و الكهرومغناطيسي و الموجات الراديوأكتفية و التجارب النووية؛ كلّما تضاعفت الأمراض الرّوحية و الجّسدية و بآلتالي ضعفت العلاقات العائلية و الأنسانيّة فيما بين العائلة و الأهل و مع المحيط الأجتماعيّ, و بآلتالي العلاقة مع أحد مكونات الثقافة و التي تُشكّل الموروث العقائدي, و كما بحثنا ذلك في الحلقة السّابقة.

لقد إنحصرت عبارة ألتغريب و التحديث بـ (الثورة الصناعيّة) حيث تضمّنت المعلومات، و الاتصالات ثمّ آسْتُكملت الثورة الصناعيّة مع بداية القرن التاسع عشر بـ (الثورة المعلوماتيّة) عند نهاية القرن العشرين, و قد أدرك المبدعون أمثال: فلوبير؛ و زولا؛ و جويس؛ و فيرجينيا؛ و ولف, في القرن التاسع عشر مدى تأثير التكنولوجيا الحديثة على وعي الانسان و سلوكياته و عواطفه، فاستعانوا بهذا التراكم التكنولوجي و المعرفي للتعبير عن رؤية جديدة للعالم تختلف كلياً عن السّابق, و لعلّ (عصر ما بعد المعلومات)(2) كانت هي النتيجة و المصداق الأكبر على هذا التراكم و الأنتقال الكلي, الذي أفرز أسئلة مصيرية تحمل هواجس الدّمار و التخريب بين البشر على كل الأصعدة.



هل حقًّا أن ثورة الاتصالات لها تأثير على مشاعر البشر و تعاملاتهم؟

و هل صحيح أنَّ الوسائل التكنولوجيَّة من رسائل الجوال و البريد الإلكتروني و أمثالها هي السبب في التباعد الإنساني و التشتت العائلي؟
و هل إن التكنولوجيا اللوجستية يسرع في نشر المخاطر الروحية و الجسمية في المجتمع؟

و ما هي آثارُها الإيجابية و السلبية على علاقاتنا الأجتماعية بصورة عامة؟
و كيف اصبح الإنسان في غنىً عن آلتواصل الجسدي و الرّوحي و الحوار المباشر مع غيره، لا يذهب الى المراكز الثقافية و العبادية و السينما او المسرح أو الندوات، معتقداً بأنّ كلّ شيىء يصله إلى البيت مباشرة من خلال الماكينات و الرقميات مجتمعه.
و بآلتالي؛ هل هذا كلّه سيزيد من الفواصل الطبقية بين الأغنياء و الفقراء؟
و أسئلة أخرى ضمن هذا المدار ..

تُعتبر العولمة الحديثة نتاجاً لثورة الاتصالات و نقل الرسائل و المعلومات, و أهمّ سببين في تحقق ذلك هما:
- ظهور الكهرباء منذ العام 1890 ثم انتشاره بشكل الكتروني في العام 1960م و هي بداية إختراع الكومبيوتر و شبكة الأنترنيت من قبل البحرية الأمريكية, حين أستطاع أحد المهندسين العاملين نقل أول رسالة إلى زميله في البحرية الأمريكية بعد ما أسس حساباً خاصا له على النت.
- ثورة المواصلات من خلال انتقال البشر بالطائرة, و آلتي بدأت من العام 1900م ثمّ الدخول في عصر الطيران النفاث عام 1960م و التحكم بآلياتها من خلال الأقمار الصناعية.

هذين التحولين ساهما بشكلٍ كبيرٍ و جدّي في تحقق العولمة الحالية الحديثة و دخولنا في (عصر ما بعد المعلومات) الخطير جداً جداً على سلامة و سعادة البشرية جمعاء.

فمنذ سقوط جدار برلين, إنتهى ما يعرف (بالستار الحديدي) الذي سبّب تفكيك المجموعتين الايديولوجيتين الأكبر اللتين تنازعتا الكرة الأرضية لعشرات السنين، ثمّ انحلال (المعسكر الشرقي) بسبب ترأس كورباتشوف لرئاسة الاتحاد السوفياتي الذي أجرى تغييرات جذريّة في أسس النظام الأشتراكي و بآلتالي تفكك الاتحاد السوفياتي و انتهاء الحرب الباردة، و تشتت القوة السوفياتية, و بذلك إنتهى مخطط ستالين الذي كان يأمل لئن تكون روسيا هي القوة العظمى، لأنّ الولايات المتحدة نجحت في تحقيق السيطرة على العالم عن طريق السيطرة على منابع الطاقة و آلمال و آلأقتصاد و الزراعة في العالم , هذا كلّه بسبب طبيعة النظام الرأسماليّ الذي يجعل الأنسان عاملاً مخلصاً و سخياً للدولة التي تفرض عليه دفع و تسديد الضرائب المتنوعة و من كلّ حدبٍ و صوبٍ.

و بتزاوج المال و التكنولوجيا شكلّت العولمة الاقتصاديّة لحقبة التسعينات مرحلة جديدة عملية,كانت قد بدأت بداياتها من القرن السادس عشر الميلادي، عندما جرى إبتداءاً الاستحواذ الأوروبي على أمريكا، سبقها استعمار العالم من قبل الأمبراطوريات الكبرى التي عجزت ثم تقلصت، و قد عُرف بصفة استعمار، حتى وقع الجميع بما فيها أوربا نفسها تحت الهيمنة التقنية الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية التي أنهكت أوربا و دمّرت إقتصادها الذي أنقذها مشروع مارشال الأمريكي.

ثمّ إتخذت العولمة الغربية بقيادة أمريكا في الوقت الراهن من التكنولوجيا و بآلأخص (تكنولوجيا الأتصالات) أهمّ الأدوات المُنفذة لسياستها، و ساهم البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية و المحطات الفضائية في ارجاء العالم، إلى جانب الانترنت و الهواتف الذكية بظهور انتشار عالمي و فوري للرّسالات، و الصّور و المعلومات و البرامج, فالمذياع و شبكة المعلومات الدولية (المتنوعة) و دور السينما و الهواتف الخلوية، و المسجلات الرقمية عملاقة الذاكرة (آيباد) تتنافس جميعا للاستحواذ على اهتمامنا لتزييف الوعي أولاً ثمّ تشكيله بحسب المواصفات الأمريكية المطلوبة، من خلال التلاعب بالعقول و المعتقدات لصالح افكار الطبقة المهيمنة السائدة .. بحيث أصبحت رسائل الجوَّال و الرّسائل الإلكترونيَّة جزءًا حيويًّا من أبجديَّات علاقتنا و تواصُلنا مع مَن حولنا؟

تلك الرَّسائل و بمرور الزّمن قضتْ على روح التواصل و الصِّلات الحميمة و العلاقات العائلية و الأجتماعية الدافئة, بحيث لم يعد للوفاء و الحبّ و الأخوة و الأيثار أي معنى وسط هذا الوضع المخيف؟

لقد اختلفت طرق السيطرة على البشر في الوقت الحالي نظراً لتراجع العلاقات الدّولية المتركزة على القوة العسكرية لصالح القوة الكولونيالية الجديدة (الاستعمار الجديد) عبر الأفكار و آلمال و الأقتصاد و الطاقة و الزراعة و ثورة المعلومات و شبكات التواصل الاجتماعي, حيث ذكر الصّحفي الاسترالي (جون بيلجر)؛ [ان الهيمنة الأمريكية على العالم (أمركة العالم) تمتلك نصف ثروات العالم بينما يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة 6% من سكان العالم, و إن ما يقارب 358 مليارديراً في العالم يمتلكون معاً ثروة تضاهي ما يملكه نصف سكان العالم(3).

لقد أثبت نموذج الحضارة الذي ابتكره الغرب و الولايات المتحدة بآلذات, بأنه نموذج لم يعد صالحا لبناء المستقبل السعيد للبشرية، لأنهم لم يعودوا قادرين على التحكم في التفاوت الاجتماعيّ المتزايد و الحروب و النزاعات و الفواصل الطبقية التي تزداد بإضطراد بين الأغنياء و الفقراء يوما بعد آخر، و لعلّ السؤال الذي يتبادر الى الذهن آلآن هو:
هل هناك من يفكر في توزيع عادل للثروة في العالم و في العالم الثالث بآلذات؟

و ذلك لأن هناك ما يقارب 20% من دول العالم هي أكثر الدول ثراء و تستحوذ على 84.7 بالمائة من الناتج الاجمالي للعالم, لذلك يجب إعادة توزيع الثروة على اساس ملكية أدوات الانتاج، و اذا لم يحدث هذا فإن التقدم التقني سوف يحرم الإنسان من الخبز، و يقود إلى جوع الناس على مرأى من الخيرات المكدسة.

لقد رفع (صموئيل هنتغتون) شعار (صدام الحضارات), بدل (تزاوج الحضارات) كشعار رفعته الجمهورية الأسلامية التي سعت للسلام و العدل بين البشرية, ثم أكّد (فوكوياما) على (نهاية التاريخ) مُمْتدحاً هذا الأخير فضائل العولمة الغربية و إنتصارها الحتمي على جميع الأنظمة و الفلسفات الأخرى، لكن تفكيره هذا أهمل النتائج المدمرة لظاهرة العولمة الأمريكية لأنها ستتركز في دول العالم الثالث, و تقوي الفروق بين المستفدين منها و بين ضحاياها , بل حتى في دولها.

إن العالم الذي يسكنه (فوكوياما) ليس له من واقع أكثر من صورة رومانسية جميلة على بطاقة بريد، لأنه لا يعكس، بأيّ حال من الأحوال الوضع الحقيقي الذي يعيشه مئات آلملايين من الناس .. بل المواطنين الغربيين أنفسهم, يعتقد البعض ان مقولة (صِدام الحضارات) (لهنتغتون) تصطدم بمقولة (نهاية التاريخ) في حين ان هدف المقولتين واحد و هو التفوق و الانتصار للحضارة الغربية و سبل الوصول إلى التفوق و الانتصار من خلال التقدم العلمي و التكنولوجي على اساس علاقة عدائية بين المركز و الأطراف في الخطاب الاستعماري الغربي، أي بين (الأنا) الذات الغربية و الآخر دول العالم الثالث.

لقد ذكر (كارل ماركس) أن الدول المتقدمة في ميدان الصناعة ترسم الطريق و صورة المستقبل للدول الأقل تقدما, ان الوضع الراهن في العالم المتقدم اقتصاديا هو نتيجة الثورة الصناعية و الاثار التي ترتب عليها في علاقات اوروبا الخارجية، و تتبلور ظاهرة الإمبريالية في ارتباطها بتطور النظام الرأسمالي, لكن من ناحية عملية، لم يحصل ما توقعه ماركس، بل إن الدول المتقدمة احتجزت تطور المحيط.

لكن السيد محمد باقر الصدر, تنبأ بزوال النظام الغربي بعد إنتصاره على المعسكر الشرقي و وصوله مرحلة معينة من التقدم العلميّ, حيث توقع ظهور ثورة الفقراء الذين سيكثرون على الأغنياء الذين سيتحجمون, و بوادرها بدت من قلب أمريكا نفسها, وما المظاهرات المليونية كل يوم ضد الحكام إلا إحدى بوادر هذا المؤشر الكبير.

أن العولمة بتقنياتها و ثوراتها و تحولاتها أدّت إلى تشكيل فاعل جديد على المسرح العالمي، ممثله نموذج الانسان الرقمي، الذي بدأ يتصدر الواجهة و يحل بدل الأنسان الكادح في ميدان العمل والأنتاج، لكي يسهم في صنع العالم و تغيير الواقع بإتجاه بناء دولة الأغنياء على حساب الفقراء.

لقد ادى الاعلام التلفزيوني و شبكة الأنترنيت و الهواتف الذكية إلى تحويل العالم إلى قرية صغيرة يتشارك مواطنوها في الصوت و الصورة و في الأحداث المهمة، و السؤال الذي تتحدد معالم إجابته بسرعة مذهلة هو: هل تسود قيم الأقوى، و الأكثر تمتعاً بتقنيات العصر؟

أم تسود أفكار جديدة تتلائم مع مجتمع القرية العالمية؟

و هل يتكون مجتمع يسود فيه منطلق الحقّ للقوي(المركز) ليعمل ما يشاء و ليس ملزما بالنظر إلى الضعيف(المحيط) لأنّ العالم في ظل العولمة لا مكان فيه للضعفاء و هم يشكلون أكثرية البشر اليوم؟

القرية العالمية مجرّد إيديواوجيا رأسمالية، بل هي تكريس استقطاب, يسعي لأبقاء المحيط محيطاً و المركز مركزاً.

لا توجد دراسات تتمحور حول تأثير استخدام التكنولوجيا الحديثة، و خاصة الرقمية على حياتنا الاجتماعية, لذلك فمحاولتي هذه ضمن مبحث (محنة الفكر الأنساني) تعتبر خطوة متقدمة تحتاج إلى المزيد من التنظير العلميّ لتحديد النتائج الكارثية من أجل درئها قبل وقوعها!

و لعل التساؤل أو الهاجس الأكبر للمفكريين الأنسانيين الكونيين هو:
(ما هي الكلفة الاقتصادية التي ندفعها ثمنا لذلك؟)

أن من أبرز آثار التكنولوجيا الحديثة على حياتنا, هو؛ فقدان الوجدان و الملكية العقلية التي يفيد استخدامها في تطوير ملكات آخرى, حيث أصبح الجيل الجديد(جيل التكنولوجيا) يختصر العلاقات البشرية في بطاقات، و صور جامدة، و أجهزة تختصر المسافات و تختصر العلاقات في آن واحد يتحكم به قوانين العبودية لكن لا لله .. بل للمتعولمين!

أن عالم افتراضي مجازي متناقض يوصل الناس بعضهم ببعض و يسيطر عليهم و يبعدهم عن التواصل البشري و الأنساني و آلآدمي لعالم غريب ليس فقط لا يحدّد السّعادة الأنسانية؛ بل و يسبب شقاؤه و يضاعف غربته في هذا الوجود, لقد أصبح العالم اليوم يستخدم ألصّور الالكترونية التي يمكنها دوماً استثارة استجابات عاطفية دون الحاجة إلى تفكير تأملي, لقد فقدت سوق الأفكار في صورة الكلمة المطبوعة جدواها!

أن تفريغ سوق الأفكار و العواطف كما عرفناه في الماضي هو المسؤول عن تلك الغرابة.

و قد نشر الكاتب البريطاني (جورج مونبيوت) في صحيفة الكَارديان مقاله الشهير (عصر الوحدة يقتلنا) .. بتأريخ 14/10/2014 منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول، و لامس في هذا المقال الانهيار الاجتماعي الذي بدأ يصيب المجتمعات الرأسمالية نظراً لهيمنة القيم التنافسية و آلأصالة الفردية في المجتمعات الرأسمالية التي أدّت بآلتالي إلى آلأنهيار ألاجتماعي و آلشعور بالوحدة, حيث وصفها (مونبيوت) بحرب الجميع ضد الجميع كما ذكر توماس هوبز أكبر علماء الأجتماع الغربيين.

كما نشرت الأستاذة في جامعة أوكسفورد، (سوزان جرينفيلد) كتابها الجديد المعنون:
[تغير العقل: كيف تترك التكنولوجيا الرقميّة تأثيراتها على عقولنا؟]،حيث دخلت (جرينفيلد) بهذا الكتاب مجالاً جديداً, هو (تأثير التكنولوجيا على التفكير), و على الرغم من أنّ الإحصاءات و المعلومات المتضمنة في الكتاب المشار إليه تعكس مخاوف و قلق بالغ لدى (جرينفيلد) إزاء آثار التكنولوجيا الرقمية على النفس البشرية، و على سلوكياتنا الاجتماعية؛ فإنّ الكتاب لم يُشر إلى أيّة محاولات لمواجهة هذه المخاطر و التهديدات حتى الآن, و لعل هذا النقص في عقول فلاسفة الغرب يعود إلى عدم إمتلاكهم للنهج الأمثل لتقويم الحياة الأجتماعية, ممّأ يقوي في المقابل وجهة نظرنا التي بيّناه تفصيلاً في بحث رائع بعنوان:
[مستقبلنا بين الدين و الديمقراطية]!



لا بد لعلماء السياسة و الاجتماع و الاقتصاد من إجراء الدراسات الجارية و المبنية على الطرق الإحصائيّة في رصد التغيرات التي طرأت على البنية الاجتماعية، و السياسية و الاقتصادية و الروحية و النفسية نتيجة لانتشار التطبيقات التكنولوجية الحديثة و إنتشار وسائل الأتصال الحديثة، و بخاصة تأثيراتها على العائلة، و على سلوكياتنا السياسية، و الاجتماعية و ثقافتنا بشكل عام؟

ان العولمة تشير إلى تغيير بنيويّ كبير في النظام الدّولي الحالي الذي ظهر ما بعد الحرب الباردة ..
لماذا بعد كل شيء، بدء يخيفنا هذا الشعور الذي يزداد لدينا، بكوننا أصبحنا نعيش داخل فخّ العولمة و تحت رايتها و بفعل ادواتها القوية .. العملاقة الذاكرة كـ (الايفون؛ الايبود؛ الهواتف الذكية), هل وسائل الاتصال هذه بدأت تُعزّز العزلة و التنافر بدل التواصل, بعد تدمير قيم المجتمعات المستهلكة(المحيط) لصالح قيم المجتمعات المنتجة(المركز)؟

ظاهرة هامّة أخرى بدأت بآلأنتشار .. تتعلق بآلأتجاهات التكنولوجية التي تصيغ عالم آللوجستيات, في البلدان المتقدمة و النامية :
حيث بدأت التكنولوجيات المستجدة تغير مشهد اللوجستيات العالمية, و الأدلة تتجلى في كل مكان: شركات اللوجستيات تستكشف أساطيل مستقلة و توقف عمليات التخزين، و تبحث عن البيانات الكبيرة من أجل إدارة النقل و التحليلات التنبوئية, فشركات التعهيد الناشئة تستخدم نموذج أعمال عالي التكنولوجيا قليل الأصول, و تقدم منصات الوساطة الإلكترونية .. معلومات آنية من لحظة الطلب إلى التسليم.

يأتي هذا النهج .. مع تنامي استخدام الإنترنت و الهواتف الذكية، حيث بدأ المتسوقون في البلدان المتقدمة يستخدمون على نحوٍ متزايد القنوات المادية و قنوات الإنترنت في استعراض السلع المختلفة، و طلب شرائها، و استلامها، و إعادتها مباشرة بزمن قياسي و بأسعار تنافسية.

و يتيح نهج القنوات الشاملة للمتسوق الحديث رحلة تسوق سلسة: في أيّ وقت، و من أي مكان، بالتحويل من جهاز لآخر بسلاسة, و يساعد هذا النهج على تحريك المخزون بوتيرة أسرع، و ينقذ المبيعات، و يتيح إظهار المخزون عبر مختلف القنوات، و يشجع المستهلك على زيادة إنفاقه بما يتراوح بين 15% و30% مقارنة بالمتسوق التقليدي, طبعا ًلصالح المنتجين الكبار!

و مع تنامي المبررات التجارية لتجار التجزئة للتحوّل إلى نهج القنوات الشاملة، تسعى شركات اللوجستيات جاهدة إلى تقديم الخدمات في أي مكان و أي وقت للأستحواذ على الساحة الأقتصادية و بآلتالي إنتاج الكثير من العاطلين عن العمل الذين سيواجهون الجوع و الفقر و التشحيذ.

المشكلة, هي أن لوجستيات القنوات الشاملة ستحتاج إدارة فعالة لتجنب زيادة الازدحام المروري في العديد من مدن البلدان النامية, و في حين أنّ القنوات الشاملة قد تعني السماح باستخدام الواقع الافتراضي داخل المتجر أو الانتقال السلس من مركز التسوق إلى المطار، فقد تعني أيضا (في بعض البلدان النامية) خدمات الخزانة كالتي تقدمها شركتا بوب بوكس وبوس في إندونيسيا.

فتلك الخزانات التي تبدو كآلات البيع، تعمل بمثابة موقع ذاتي الخدمة لتسلّم الشحنات وإعادتها, و تتيح هذه الخدمة مرونة أكبر للتسليم عما تقدمه شركات الخدمات اللوجستية التقليدية, كما تحدّ من الاكتظاظ بخفض عدد عمليات التسليم وتحديد أوقات التسليم خلال فترات خارج ساعات الذروة.

هذه التكنولوجيا بحدّ ذاتها بآلأضافة لما أشرنا .. تضعف و تُفكك ألشّمل العائلي حيث تسلب بطبيعتها فرصة التماسك و التقارب فيما بينهم, ففي السابق كان الوالد أو الوالدة يذهبان للتسوق مع كلّ أو بعض أفراد العائلة لقضاء وقت ممتع لشراء و اقتناء و أنتخاب الحاجة المطلوبة بحسب الذوق و اللون و الصنع, ثم يرجع الجميع للبيت محملين بما يشتهون و بأنواع القصص و الأحاديث و النكات عن تلك السفرة الممتعة, لكن (تكنولوجيا اللوجستية) ستسلب أو سلبت هذه المتعة و إستبدلتها بأجهزة الحاسوب و النقل, نحن لا ننكر إيجابيات هذا النمط التجاري من ناحية توفير الوقت و ربما القليل من المال, لكن السؤآل الأساسي الذي يطرح نفسه, هو : لمصلحة مَنْ بآلدرجة الأولى تتحقق الأرباح و الأزمان و العوائد من خلال النظام اللوجستي!؟

بلا شك لأصحاب آلشركات الكبرى المنتجة, أيّ بمعنى لأصحاب المنظمة الأقتصادية العالمية التي تسيطر على كل شيئ, و بآلمقابل الضرر الأكبر الروحي و حتى الماديّ يعود على العائلة التي تفقد ساعات ممتعة يقضيها الأفراد مع بعضهم البعض بحجة التسويق كل يوم أو يومين في الأسبوع, بجانب ترك طوابير من آلعاطلين عن العمل من الذين كانوا يعملون في هذا الوسط و في إدارة السوق و التخزين.

و بهذا يتبين مدى الدور ألسّلبيّ للتكنولوجيا الحديثة و (اللوجستيات) في تحطيم المجتمعات سواءاً في الغرب أو الشرق, بسبب إنتاج العاطلين و تدمير التواصل الأجتماعي و توسيع الفجوة بين الآباء و الأبناء, و بين أبناء المجتمع ككل!

ختاماً .. لا يوجد نظامٌ في العالم كآلنظام الأسلاميّ ألذي حدّد الحقوق و الواجبات العادلة و ساوى بين جميع أبناء المجتمع في الحقوق الطبيعية و حدٍّد رؤوس الأموال الفردية و عائدية المنابع الطبيعية, و قدّم الصّورة المثلى لجميع الأنظمة الأساسيّة في النظام الأقتصادي و المالي و العلمي و التربوي و التعليمي و الصناعي و الزراعي و التكافل الأجتماعي بما يضمن تحقق سعادة المجتمع الأسلامي برمته, حيث وضع نظم العلاقات الأسرية على أساس مبدأ الأحترام و الأخلاق و حدّد حتى كيفية الرّوابط بين أفراد الأسرة الواحدة و نمطية التفاعل بين هذه الأفراد، و حدّد الحقوق التفصيلية للأفراد خصوصا للمرأة بحيث تقدمت على الرجل في الكثير منها, إلى حدّ كيفية الجلوس و القيام و أداء التحية و تناول الطعام الدخول إلى التواليت و الخروج منه بل و أدقّ من ذلك حدّد حتى كيفية النظر للآخرين و التعامل بآلعدل مع الجميع، فهناك حقوق للأبناء على آبائهم و هناك حقوق للآباء على أبنائهم و للزوج على زوجته و بآلعكس، و هناك طبعاً بالمقابل واجبات لكلٍ منهم، و تربية الأولاد هي مسؤولية و رسالة يجب أن يؤديها الأهل بكلّ دقة و أمانة تجاه أبناءهم، فكلنا نذكر قول الرسول –صلى الله عليه وسلم- [كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته، فالرَّجل راع في بيته و هو مسؤول عن رعيته و المرأة راعية في بيتها و هي مسؤولة عن رعيتها], أي أن الأسرة هي ليست عبارة عن مجموعة من الأفراد فحسب يعيشون تحت سقف واحد و إنما يجب أن تكون هناك علاقات منظمة و دقيقة تضمن سلامة هذه الأسرة و تماسك نسيجها الاجتماعي, هذه المنظومات التفصيلة المتطورة تفتقد لها كل الأنظمة في العالم بما فيها النظام الرأسمالي المعولم.

و لكن إلى أي مدى في هذا العصر الذي نعيشه .. عصر التكنولوجيا و الانفتاح و الإنترنت و غيره يمكن الحفاظ على هذه الجزئيات و تطبيقها لكي نصل ونحقق المفهوم الإسلامي للأسرة, خصوصا و إن دولنا الأسلامية تسيطر عليها أسوء الأنظمة الحاكمة من الملكية و الجمهورية و الأميرية و الديمقراطية؟
خصوصا إذا علمنا أيضاً؛ بأنّ هناك حربا ًضروساً و هجمة شرسة على الأسلام كلياً من قبل الغرب من خلال إتهامه بآلأرهاب و عدم مناسبته لروح العصر الذي يتحكم فيه التكنولوجيا الحديثة؟

و ألجواب على هذه المعظلة الكبيرة هي:
إبتداءاً بيّنا بوضوح مساوئ التكنولوجيا و العولمة الحديثة الغير الموجهة و الراشدة, و بآلتالي كيفية ترشيدها, بشرط زوال جيمع الأنظمة القائمة التي أثبتنا ظلمها و أنحرافها و عاقبتها السوداء!

و يتطلب العمل لتحقيق ذلك على بُعدين:
الأول: هو طرح النظام الأجتماعيّ الأمثل المتمثل بالنظرية الأسلاميّة كبديل عن الأنظمة الأخرى من خلال تجربة الدّولة الأسلامية المعاصرة(الجمهورية الأسلاميّة) التي تعتمد القوانين ألمبنية على فلسفة الأحكام و الغاية من التشريعات التي تستند إلى كلام الله تعالى لكونه تعالى هو الأعرف بماهية و صلاح الأنسان من خلال البعد السايكلوجي و البايلوجي اللذين على أساسهما شرّعت الأحكام و القوانين المناسبة لتحقيق العدالة و بآلتالي لأسعاد البشرية كغاية في هذا الوجود, بدل الأنظمة و القوانين الوضعية التي دمّرت الأنسان و أستهلكته لصالح طبقة خاصة و كما بينا تفصيلاً.

تلك الخصوصيات الهامّة و المفصلية في النظام الأسلامي و التي لا تجدها في الأنظمة و المجتمعات الغربية و لا الشرقية, علينا التركيز عليها, و بيانها كي تستمر، و يجب أنْ تُدرس و تُعزز و على الأبناء أن يعوا خصوصية مجتمعاتنا الإسلاميّة و قيمنا، و تقاليدنا و ثقافتنا, و هنا لا أدعو إلى انغلاق الأبناء على ثقافتنا و قيمنا بشكل أعمى، بل أدعو إلى انفتاحهم على جميع المجتمعات و ما يحدث الآن في المجتمع العالمي من ناحية الأكتشافات العلمية و على التفجر المعرفي و المعلوماتي, لكن عليهم الحذر من القوانين الأجتماعيّة و الأخلاقية الشاذة التي يشجعون عليها للسيطرة الظالمة على شعوبهم, و بآلتالي للحفاظ على هويتهم الأنسانيّة الأصيلة!

إن الهوة الكبيرة اليوم التي نجدها بين الآباء و الأبناء ليست بسبب التكنولوجيا و كونها هي آلمسؤولة بشكل أساسي عنها, بل هناك أمور أخرى رافقت ذلك .. يجب التنبيه لها, فمجتمعاتنا قبل وصول الإنترنت لها بهذا الشكل المكثف .. المخيف الذي هاجم أعماق المجتمعات العربية، و غيرها من المجتمعات على حد سواء، كانت من الناحية الأجتماعية و نسبة الطلاق هادئة و قليلة المشاكل, و لم تكن بجانب هذا أية جهوزية لاستقبال الأنترنيت و المعلومات بشكل مفاجئ بسبب الأوضاع السياسية و الأمنية والتعليمية, خصوصا في العراق الذي كان مغلقاً عن العالم تماماً .. بسبب النظام البعثي الذي عفلق عن كل خبث و جهل و عنف .. حتى أبعد المجتمع العراقي عما كان يدور في الخارج و إقترب من التوحش, بحيث بهت الشعب العراقي و حتى العربيّ حين فتحت العلاقات و توسعت خطوط الأتصال و الأنترنيت مع العالم, فأكتسح الحق و الباطل و سبب التمرد و الطلاق و التنفر و إنتشار الفساد على كل صعيد؟

و المشكلة الأساسية التي حدثت بعد الأنفتاح المفاجئي هو عدم جهوزية الناس لوعي المعلومة و تلقي الأبناء فجأة لذلك الكم الهائل من التكنولوجيا و المعلومات التي بدأت و كأنها غازية و مدمرة لما كان موروثاً!

لقد كان الناس قادرين على تلقي المعلومة، لكنهم لم يتعرفوا على مفهوم الإنترنت و فلسفته، و ماذا يستفيد الإنسان من الإنترنت أو ما هو الضّرر في الإنترنت، و هذه المشكلة وقعت عند الأهل قبل ما نقول علاجها ما بين الأهل و الأولاد، و رأيي في معالجة واقع العلاقة ما بين سرعة العصر الراهن و قبول مجتمعاتنا العربية للمعلومات التي تتأتى بشكلٍ خطيرٍ و مخيفٍ و سريعٍ عملياً، ليس فقط لمضامينه؛ لسرعته، يعني فقط ما يحتويه .. لأن الإنترنت بحد ذاته يحمل معلومات قيمة و مفيدة و للمناقشة و تحمل توعية و تحمل دور إيجابي، لكن المشكلة الواقعة هي كيفية تعرّف الأهل على الكمبيوتر و المعلومات التي يريدها الإنترنت بالمقابل!

و لمعرفة كيفية التعامل مع الأنترنيت و شبكات التواصل و بآلتالي حلّ الموضوع من الأساس؟


علينا الأهتمام في مدى الأنسجام بين أعضاء الأسرة، خصوصاً بين الوالدين لأنهما يمثلان المثل الأعلى للأبناء, و إذا كانا لا سمح الله لا تنطبق عليهما معايير الأخلاق و القيم و الضبط و لا يتصفان بآلصفات الحميدة, فكيف يمكن لهما التأثير على الأولاد ليكونوا صالحين!؟

و النتيجة: يجب الأعتراف بأنّ التطور التكنولوجيّ ساهم في التعرف على تجارب و عادات و طباع المجتمعات المختلفة و سرعة الحصول على المعلومات و نقل التكنولوجيا المفيدة، و التي تشربتها نسبة كبيرة من الفئات الشابة و المراهقة و تطبّعت بها؛ إلا أنها في نفس الوقت سبّبت أضراراً ملحوظة في سلوكهم و أخلاقهم, و منها ابتعادهم عن عاداتهم و تقاليدهم التي نشؤوا و تربّوا عليها, و كذلك تسبّب التطوّر التكنولوجي في خمول و كسل جسدي واضح بسبب التسوّق الإلكتروني المنتشر بشكل واسع و الطلبات التي تصل لباب البيت كطلبات الخضار و اللبنيات و غيرها من مستلزمات البيت، بالإضافة إلى الخمول العقليّ الذي نتج عن الإستخدام ألدّائم للآلات الحاسبة و شبكة الإنترنت للحصول على النتائج الحسابيّة و المعلومات بسهولة دون الحاجة للتفكير و البحث و الجهد العلمي.

و مع كلّ هذا ومهما حاولنا, فإنه لم يعد بآلأمكان اليوم الأستغناء عن التكنولوجيا و الهواتف الذكية التي دخلت كل بيت و مؤسسة و قرية, لكن من الممكن جداً ترشيد إستخدام تلك الأجهزة عن طريق زيادة الوعي التكنولوجي بين الأبناء و الشباب و والديهم, و توجيههم للأستفادة المثلى من التكنولوجيا مع تحديد أوقات خاصة للأتصالات و التحقيق العلميّ, و من الأفضل عدم إستخدام التلفزيون في البيت خصوصا أثناء الفترة المدرسيّة, و كذلك الهواتف الذكية, إلا للحالات الضروريّة و الطارئة, و بذلك يمكننا التقليل من مخاطر التكنولوجيا و آلهواتف الذكية و كذلك اللوجستيات, و غيرها من أساليب العولمة المدمرة, و بآلتالي التقليل من الفجوة بين الآباء و الأبناء و العلاقات الأجتماعية.
و لا حول و لا قوة إلا بآلله العلي العظيم.
عزيز الخزرجي
مفكر كونيّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يقول (مترليك, 1900م) في كتابه كنز التواضع؛ [كلّما قوي العقل (الأستدلالات العلمية) و تعالى, فأنّه يتّجه نحو الأستدلال و المنطق و الحساب, و كلّما تعلّق بذلك أكثر, فإنّ عواطفه تتجمّد, و يبتعد عن العشق و العاطفة و قضايا الروح. للأطلاع على التفاصيل, راجع بحثنا الموسوم بـ (تأثير علاقة الوالدين في نشأة السلوك الأنحرافي لدى الأطفال)ص44, و هي دراسة ماجستير للكاتب.
(2) لمعرفة المزيد عن (عصر ما بعد المعلومات) و التي بدأناه مع بدء الألفية الثالثة, راجع مباحثنا المفصلة بعنوان: [عصر ما بعد المعلومات].
(3) لمعرفة تفاصيل أدق حول مقدار الأموال و قضية عائلة روتشفيلد و البنك الدولي , راجع بحثنا الموسوم بـ: [ألأسوء الذي سيواجه العراق بعد الأرهاب]. و كذلك كتاب؛ [لا للرأسمالية المعلومالية].



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google