رواية الذباب والزمرد لعبد الكريم العبيدي - ÌæÇÏ æÇÏí
رواية الذباب والزمرد لعبد الكريم العبيدي


بقلم: ÌæÇÏ æÇÏí - 09-04-2014

الذباب والزمرد وما بينهما من عوالم
لا تعرف النكوص

لماذا الذباب والزمرد وليست ثنائية أخرى قد تقترب وقد تبتعد أحيانا عن المألوف، دونما هذه الجفوة في الحمولة والشساعة في المعنى وضبط إيقاع العمل المرتكن على حدود دنيا من القبول، لخلق نوع من المصالحة بين ما للعنوان من مقاصدليست بريئة، وما تكتنزه الرواية من عوالم لا يعرفها القارئ الذي لا يملك أدنى دراية بالكاتب، ليؤسس منحى تراتبيا تختنق في دواخله الاسئلة، ليكتشف ما لهذا الاختيار من مرجعية تخص الكاتب وحده دون سواه، ولكن لا بمعنى الحرية غير المؤسسة على نوايا احتفالية تعتمد على الحكي العارفبتصاعد الحدث، وتنتصب داخل العمل بثلاثية السرد والسارد والمسرود له، وقد نقحم ركنا رابعا وهو المسرود عنه، زمنا ومكانا وشخوصا، كلها تختلط في فضاءات ليست وحدها من ابداع مخيلة الكاتب فحسب، ولكن العصيان المعيشي، ولفحة الضيم، ورهبة الخوف، وما سواها من محفزات للعمل، كلها تشكل الدافع لعملية الخلق والبناء الروائي، لتبتكر وشائج تربك القارئ وتدفع به للتساؤل، إن الروائي وهو بهذا القدر من الندية لأحداث لا يمكن مطاولتها أو الاقتراب منها، لما تعج به من عوالم تكتظ بالغرائبية، لكنها ليست دون مرجعية يمتزج فيها الواقع بقدرة الكاتب على الخلق حين يجمع كل هذه العناصر المكونة للعمل ليخلق لقارئه ثيمة يختزل فيها جهدا قد يتوزع على بياض لا يمكن أن تنهيه قراءة واحدة في جلسات من المؤانسة السوداء، لأن القارئ أمام عمل لا يمكنه من امتلاك قدرة القرار وهو ممسك بتلابيب هذا العمل الذي أعترف أنا كقارئ لأعمال قد تتوزع في كل تفاصيل القراءة من أمكنة وأزمنة وحالات وتواشج وأحيانا كثيرة من انكماش على الذات التي لا تريد أن تكون جزءا من هذا العمل لئلا تعتريه (أي القارئ) حالة هستيرية من الخوف أسميتها مؤانسة، فهل يجوز لنا هذا التوصيف وأنت تنتقل من حالة رثة إلى أخرى أكثر نتانة وعفن وبؤس وروائح تغم النفس وكأن للروائي نوايا مبيتة لتصفية حسابات مع قارئه، فهل هناك أكثر من يتبرز المرء على نفسه ما أن يداهمه القتلة وهو يعرف بأنه ذاهب لرحلة لا عودة منها، فلا يتمالك نفسه، فيعملها وسط ثلة الجلادين وداخل عربتهم، وهو من الاحساس المفرط بهذا الضيم ليتحول في نظر الرفاق البعثيين الى كونه مجرد عفونة لا أكثر، وهم في الواقع أكثر عفونة وأنجس من النجاسة ذاتها، فكيف تمت المقارنة، ليتحول النقاء الى مزبلة والمزابل إلى ضوع مغشوش، هكذا كان الظلم الذي لحق بأوسم، الوديع والمثقف، الأمر الذي ظلت هذه الحالة تلازمه وسببت له حالة من انفصام للشخصية وسوداوية قاتلة، لا خيار له إلا أن ينتهي به الأمر إلى الانتحار، انقاذا لماضيه وتخلصا من الذنب الخارج عن ارادته، الذي بقي يلاحقه حتى ينهي حياته بتلك الطريقة المأساوية والتي ذبحت أمه قهرا وسحبت البساط من تحت صديقه الكاتب، ليستسلم للآتي من المحو كيفما كان، بعد أن خسر كل الطيبين من الأصدقاء والأحبة، بشير، داوود، مرورا بالذين علقوا على أعواد المشانق من الأبرياء وسط خيانات وضعة البعض، وحتى الأمكنة لا تختلف عن أمكنة موت بأنتظار الأجل المحتوم، كانوا موزعين بين الشقق الرثة والمقابر اليهودية المهجورة والقفار المظلمة وأرصفة الشوارع وغيرها.
إن الروائي بهذه يبحث عن متابع من نوع خاص بضوابط صارمة تخضع لمسارات غير مألوفة، بمثابة عربة بلغ بها العمر تأخذك قسرا ودون سابق انذار لعوالم يختارها هو ويقتص منك إن كانت تلك العوالم تعنيك وتريد أن تقترب منها وأنت المحمل بفضول ما كان يحدث في زمن مظالم أفلت منها بقدرة قادر، لتعرف ما الذي حدثن وكيف مرت المحن والقسوة والموت المجاني وانتهاك حرمة الجسد واعتبار الانسان في تلك المرحلة المخيفة، ذبابة من السهولة سحقها في أية لحظة ولكي يوثق الكاتب هذه الأجواء المرعبة لا عقلانية الحدث، يوزع الشخوص بمهنية الناقل الذكي بعين لاقطة وبحساسية شديدة الدقة وحسابات قد تكون موضوعة على طاولة التناول ببرمجة من يريد أن يدون حدثا بأمانة وحرص شديدين، وكأنه أمام مهمة مقدسة لا يريد أن تفلت منه الأحداث، لأن توثيقها تعتبر إدانة للقتلة، ووفاء للصحاب، وتكريما لذويهم، ولتكون تأريخا للاجيال القادمة، وهنا بظني يكون الكاتب قد تفوق حتى على الأكثر حرفية من سارقي اللحظات النادرة لتدوين ما حدث، لندرجه نحن المستفيدين من الاطلاع على تفاصيل الصورة ضمن محترفي الفن السابع في خلق افلام تسجيلية وليس فيلما واحدا ليخرج لنا فيلما بصريا يدون الحقائق ليعرضها للمتابع، بلمسات العارف بطريقة الاقتناص لهذه الصور المتحركة، ليسقط عليها موهبة في غاية الحرفية والتفنن في تراتبية الحدث والدخول في عوالمه من منافذ عصية على كشف أفعال لرفاق (هكذا كانوا يطلقون عليهم) مبتذلين من جلادين ورجال أمن قساة، وفاسدين قيما وتكوينا ورعاعا لا يعرفون الرحمة، رفاق فيما بينهم وأعداء لسواهم، ولكن بموسمية أنتماء، سرعان ما يتركون كل متاعهم على الأرض وفي اقبية الموت وينتزعون جلودهم ليستعيروا جلودا اخرى، ما أن يتريهم زلزال أو هزة تمسحهم مسحا، هكذا هم الطغاة في كل تاريخهم الممتد من التراب إلى التراب، نسميهم نحن العراقيين (خنيثون خبيثون) ولنا في رئيسهم الذي ظل يلعلع صوته لعقود متبجحا بشتى صيغ الوطنية والبطولات الجوفاء، والمعارك الخاسئة مع الآخر وحتى مع النفس المصابة بالخبل الدائم، ليتحول بين ليلة وضحاها من أسد هصور، زئيرا اجوفا ليس إلا، إلى فأرة قذرة، ديست بالأحذية وتم رميها في مزبلة الأوباش.
فلماذا كل هذا القتل وهذا التعذيب وتلك الملاحقات وتلك المقابر الجماعية وإنهاء الأبرياء بالكيمياوي، والجعجعة الفارغة، وأخيرا فروا مثل جحافل الجرذان النتنة، إزاء أول امتحان لهم؟
(حاول الانفلات من ذاتيته المغلقة وشرع بمطالعة وجوه مصفرة وعيون غائرة لكائنات حلّت بها لعنة الملاحقة والاضطهاد، وغدت خائنة وعميلة ومجرمة بسبب طنين ذبابة واحدة دنت من هالة الزمرد) الرواية (ص110)
عنوان الرواية (الذباب والزمرد) بحد ذاته يشكل للقارئ اشكالية أولى وحيرة، لأنه يحمل أوجه احالات كثيرة، فكان الروائي عبد الكريم العبيدي موفقا حقا بذات الاختيار، ليخرج عن المألوف القائل: (أن الكتاب من عنوانه) والعنوان هنا يتأرجح بين هذا المعنى وذاك، ولعل قارئا فطنا يسأل لماذا هذه المقارنة بين ذباب وزمرد؟ وما القصد من هذا الاختيار؟ وكيف تناهى لفكره هذا التوصيف النبه؟ وهل أن الكاتب يشاكس القارئ بهذا العنوان؟ أم أنه يريد وبطيبوبة المبدع الرصين، اشراك متلقيه بخلق عوالم هذا العنوان الملتبس نسبيا؟
مجموعة من الاشكالات يسببها الكاتب للمتفحص للوهلة الاولى للعنوان لتنتفض اسئلة مشروعة، هي بحد ذاتها تخلخل المتابع، ليظل مستفزا وهو يلج عوالم الرواية، بانتقالاتها المتقنة الحبكة والسرد واللغة والفطنة المستدركة لطبيعة العمل لنكتشف وبثقة المتابع الجيد، أن الروائي عبد الكريم العبيدي، قامة ابداعية بكل ما لهذا التوصيف من معنى، فكم أذهلتنا وشدتنا بقوة، الانتقالات للأحداث بشخوصها وأجوائها وتفاصيلها وبلغة وصفية لسارد يمتلك من التراكم المعرفي في فن الرواية وموسوعي في اللغة والمفردة الروائية المغايرة للمالوف، كونها على قدر هائل من الاقتناص المتفرد، وكأني بالمبدع العبيدي على جانب لافت من الصرامة اللغوية بمراودة حبيبة مع المفردة وكأنه يريد أن يسقط لغته بفخ العاشق والمتيم ليخلق منها رديفا للمؤانسة ليضفي على العمل متعة كبيرة ولذة قراءة انتشينا بها جدا، وقبل ها وذاك المقدرة على انشداد القارئ للحدث ليحسب اللحظات بما تؤول اليه الاحداث بايقاع القارئ في هذه الاحبولة وهذه من سمات الكتاب الكبار، لما تحتوي الرواية من تنوع هائل وانتقالات في السرد وبلغة محكية تتضمن العديد من المفردات العراقية الدارجة، تقتصر على اللسان البصراوي، الأمر الذي جعلنا نحن من غير البصراويين نتعرف على مفردات دارجة، لم نكن على دراية بها.
لا اعرف لماذا قادتني هذه الرواية أو في بعض من فصولها لعوالم الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، وخصوصا في رواية (شرق المتوسط)، لكن خصوصية رواية المبدع عبد الكريم العبيدي، تزدحم بالأحداث والحالات الانسانية وتنفرد بشكل خاص في حجم العذابات التي كان يعانيها العراقيون وخصوصا المثقفون منهم، بشرائح مجتمعية، وكأنها توليفة وطنية انسانية رائعة، لمسلمين ومسيحين ويهود، إلى جانب قتلة ووطنيين أحرار وفاسدين قيما وسلوكا ومناضلين عنيدين، من أناس وديعين وخونة خائبين. طبق روائي شهي يضاف الى الابداعات العراقية الاخرى لروائيين كبار: محمد خضير، غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي وغيرهم من أعمدة الرواية العراقية الحديثة.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google