كارل ماركس في العراق الجزء الثالث والعشرون - فرات المحسن
كارل ماركس في العراق الجزء الثالث والعشرون


بقلم: فرات المحسن - 22-10-2016

ــ خالي أبو عفيفة آني أدفع حساب الرجال هذا.
ــ عيوني أبو رجب مشكور.. بس الرجال عنده فلوس.
ــ حتى لو عنده.. آني أدفع عنه.
ــ منو يكول يقبل؟
ــ لا يقبل.. مو حبيبي أستاذ قادر تقبل مني أدفع عنك الحساب؟
نظر ماركس نحو الرجل وأبتسم له ابتسامة رضا وقال وهو يفرك راحتي يديه بعد أن أنهى التهام الطعام.
ــ عن ماذا تتكلم سيدي؟
ــ أستاذ قادر.. الحمد لله أني لكيتك سالم.. أنشاء الله مرتاح أستاذ.
ــ شكرا جزيلا ،ولكني لست الذي تنشده فأنا لست أستاذًا، وأسمي ليس قادرًا.. أنا اسمي كارل هنريش ماركس من ألمانيا.
ــ أدري.. أدري الله يكون بعونك... يا جماعة أنه أعرف الرجال حق المعرفة.
ــ مشتبه بيه لو تعرفه؟
بادر أبو داوود ومثله أبو عفيفة بسؤال أبو رجب عن حقيقة معرفته بشخص كارل ماركس أو مثلما سماه أستاذ عبد القادر.
ــ حبيبي أبو عفيفة ولا يهون أبو داوود، هذا أستاذ عبد القادر مله عطا آل مغامس، كان أحد أهم أساتذة كلية العلوم السياسية في جامعة الكوفة ومسؤول عن التقييم الجامعي والبحوث.. فد يوم بعهد صدام اجوي الأمن للجامعة وأخذوه، واختفى من ذاك الوكَت، وبعد منشاف، ومحد عرف السبب الصدك.. يكَولون طالب بعثي جان يغش بالامتحان، وأستاذ قادر لزمه ورسبه. وهذا الطالب شد عداوه وكتب موزين على أستاذ قادر وكَال عليه شيوعي.وأجوي بعدين الأمن وأعتقلوه خطيه..وهسه هو كدامكم.
ــ أكَول.. من هذا مسمي نفسه كارل ماركس.. بس أبو رجب انته منين تعرفه؟
ــ آني جنت أشتغل بمديرية بريد النجف وكل أسبوع أمر لأقسام جامعة الكوفة أسلمهم البريد وبعض الكتب وجنت أشوفه لأستاذ قادر وادخل عليه لغرفته.. آدمي أبن أوادم.. وآني أميزه من بين ألف واحد رغم شكله شويه متبدل...مو كلش أبيض شعره مو أسود كلش ومشيب عيونه صفر ويوميه يلبس قاط جديد ورباط وقميص منشه..هيبه وينوصف وصف.. ابن حلال مع كل الأسف.. نعله على روحه للكافر بن الكافر شسوه بالناس.. هذا العالم خلاه يصير بهذي الحال.. والله هذا يسوه ألف واحد مثل صدام وربع صدام.
ــ لا يا كفار ولد الكفار.. أي ليش من عمت عينه للوكت.. هذي الناس العلامة الفهامة يصير بيه هيجي شي.. وكرايبهم جابوهم من وره الهوش وسوهم ضباط وأساتذة أو وزراء وصارو يتحكمون بروس الناس.
ــ أغاتي أبو عفيفة هذا قدر العراقيين راح ذاك المجلوب وهسه انته تشوف أحنه همين وكَعنه بيا حال، هم هناك من يشبه صدام ومجاليبه وديلعبون بالوضع لعب.
ــ أي والله قدر العراقيين كل فترة ينلعب بيهم طنب.. تدرون أني شنو أفكر..
ــ شنو تفكر أبو عفيفة؟
ــ أكَول لو يجينا فد طنطل.. طنطل خشن مصنع ومضبوط ويشد حيله ويلعب خلقة بكل هذوله لعب ويكَطعهم من عرجهم، ويصفيلنه الجو، ويوكف بوجه كل ظالم وحرامي ويوفرلنه الأمن والكهرباء وبعده كلشي منريد ونبوس أدينه وجه وكَفه.
ــ أبو عفيفة عيوني... تتصور الأمريكان يحبون الطناطل لو همه أهل الطناطل .و.هذا طنطلك كَلي شكد راح يقاوم ويه العراقيين وطلايبهم..شهر شهرين سنه سنتين؟ هذا يريد منه استقلال بعشيقة وذاك يطالب بانفصال عفج، والشطره تطالب بالفدرالية وذاك يريد بوري نفط يجي البيته،أو واحد يريد كهرباء خمسه وسبعين ساعة باليوم، وهذا يطلب منحة سفر سنوية لجميع المواطنين أسوة بأعضاء البرلمان،وذاك يصيح حرية حرية دولة مدنية، ويجاوبه اللاخ الحكم لله والموت للعلمانية، وهذا يريد وذاك يريد، إلى أن أطكَ حوصلة وفيوزات الطنطل وبعدين راح يندار على الشعب العراقي ويلعب بطراكَاتنه لعب.. انته من كل عقلك يجي أبن أوادم طنطل لو بنطل لو حنطل ويعدل حال هذي الآمة المسكينة.. أيس، وأخذه مني ماراح ينعدل الحال أذا مو أحنه ننعدل.
ــ والله حجيك ذهب أبن عمي أبو رجب الورد.
قال أبو داوود ذلك وراح يلوك قطعة صمون صغيره سحبها من تحت الغطاء الموضوع في عربة الطعام دون استئذان من أبو عفيفة الذي لم يبد اهتماما للأمر فقد أعتاد على ذلك ومطعمه مباح لجميع أصحابه. كان ماركس يراقب حركات الرجال الثلاثة وينصت لحديثهم باهتمام وتمعن محاولا أن يلم ويستوعب جميع ما يدور فيه. كانت تفلت منه بعض الكلمات التي لا يفقه معانيها، ولكنه في العموم كان يفهم أغلب ما يتحدثون عنه. حديث الناس في هذا البلد لا يخلو من التباس في محاولة فهمه، ليس له فقط وإنما يشعر أن ذلك يحدث فيما بينهم أيضًا، هذا ما تلمسه ماركس عند جميع من تعرف عليهم. فالمشتركات في الحوار تتدهور فجأة وتقفز نحو عدة مواضيع، ثم تذهب بعيدًا، ويكون ذهابها سريعًا وجليًا دون ثبات على حال، فمن السهولة أن يصب الحديث في جوانب مختلفة ومتنوعة في آن واحد، حينها تبدأ معه سرعة التأويل وإطلاق الأحكام واستباقها، فاللحظة الراهنة لا تلبث أن تتشعب نحو الماضي والمستقبل ويضطرب معها الحديث ثم يختلط السلوك المنطقي بالغرائبي أو الهازل ويتحول إلى شيء مختلف أو بعيد عن الراهن. آلام الماضي تضغط على الحاضر فتجعله اشد عسرًا، وترحل نحو المستقبل لتجعله أكثر التباسًا وقلقًا. لا أدري إن كان ذلك جزء من ثقافة وخيار عام لهذا الشعب. الغريب أن ما يتحدث فيه هؤلاء الطيبون هو من هذا الصنف وباتوا مقتنعين بأني أنا الأستاذ عبد القادر. فالحجة التي يقدمها لهم هذا الرجل الواقف أمامي يتحدث ويحرك يديه وكأنه يقف وراء منصة خطابه، تبدو سليمة بمجملها، سليمة ومنطقية له ولهم، وهم لا يملكون سوى الموافقة على روايته التي يقرنها بالأدلة، وهاهم يراجعون الماضي ويتمنون شيئًا للحاضر ويجيبون عليه قبولاً أو نفيًا.
ولكن أنا، أنا المعني بكل ما جاء في هذه الحكاية والذي يراد منه أن يماشي رغبة أحدهم، ما علي فعله الآن. أجد أن من الممكن أن أمسك هذه الحكاية من تلابيبها وأتوافق معها بشكل وآخر لأخرج من المأزق الذي وقعت فيه وأبعد عني الشبهات، قادر.. عبد القادر أستاذ كلية العلوم السياسية في جامعة الكوفة أو أي مسمى أو وجود آخر، يستطيع أن يمنحني فرصة أخرى أقفز معها نحو ضفة جديدة، وتغطي على شخصيتي ووضعي، ومن ثم تبعث عندي أملا جديدًا في العودة إلى لندن. هنا عليَّ أن أضع أو أختار ما يفي حالة عبد القادر. تدريسي أعتقل، الآن هو خارج السجن مطلق السراح ولكنه في حالة فقدان ذاكرة أو شبه مجنون، ولكن من الممكن أيضًا أن يدخلني هذا التقمص في متاهة ومأزق جديد أضيع فيه وأخسر كل شيء. حتما سوف أصاب بالذعر عند منعطف حاسم من هذه اللعبة. ربما لا استطيع الاحتمال إلى ما لانهاية وبالذات إزاء مشاعر الذنب التي سوف أشعر بها لاحقا جراء قبولي ومجازفتي بخداع الآخرين، فلم يسبق لي أن مارست خداع أحد. أعتقد أن الأمر قد أختلف في هذا الراهن، لا بل يتطلب قوة شكيمة وإرادة ومجازفة، فالقيام بمثل هذه الخدعة يكون دفاعًا عن النفس ضد تهديد أتعرض له وأنا في العراق، ولن يكون عيبًا ذاتيًا أبديًا إن فعلت مثل هذه الخدعة فهي جزء من مرحلة أجبرت فيها، وسوف يعد سلوكًا مشروعًا. ولتكن قدرتي تتوافق مع هذه اللعبة ولأبدأ بمجارات هؤلاء بشيء من الحذر وبكلمات مختصرة هلامية.
ــ أستاذ قادر عود صدك أنته وين جنت؟
قال ذلك ابو أبو رجب بينما كان ينفض عن كتف ماركس شيئا من التراب العالق.
ــ بالسجن.
ــ شفتو يا جماعه يتذكر خطيه. اتعذبت هواية استاذ قادر مو ..؟
ــ كثيرًا سيدي العزيز.. كانت أيام صعبة.
ــ شلون ويمته خلصت السجن، شلون طلعت؟
ــ لا أعرف..
ــ أبو رجب... هيه السالفة مال أستاذ قادر يرادله تفسير !!.
ــ هم صحيح والله ما يرادلها.
ــ من دخلو الأمريكان ما بقه واحد بالشماعية لو بالسجن... عمي أستاذ قادر أنته جنت بالسجن لو بالشماعية؟
ــ لا أتذكر شيئًا من هذا القبيل. ربما هناك أو هناك.
ــ يابه خلوه للرجال.. إي هسه شيفيد لو عرفتو جان وين.. جان عند الحكومة الظالمه وطلع.. يجوز خلص كل ذاك الوكت مشي وتايه بالدروب.. عمي عندك أهل، عندك بيت؟
ــ كلا .. أو الأحرى لا أدري.
ــ زين وين خلصت كل ذاك الوكت؟
ــ بالسجن.
ــ من عهد صدام لهذا الوكت أنته بالسجن؟
ــ لا أعرف.. ألا أستطيع الحصول على وجبة طعام أخرى؟
ــ تدلل أستاذ قادر العزيز جنك على قوزي..
ــ رحم الله والديكم.. إنشاء الله.
قالها ماركس وأشاح وجهه بعيدًا خافيًا ابتسامة ارتسمت على وجهه، فهو الآن يستخدم ما تعلمه لتمرير خدعة يشعر أنها تتسع وبدأت تكبر مع كومة الأسئلة التي راحت تنهال عليه، ولا يعتقد أنها سوف تختصر عند حدود هذه المجموعة، بل عليه أن يكون في قادم الأيام على كامل الاستعداد لمواجهة أسئلة متنوعة وربما صادمة تريد منه الإفصاح عن شخصيته، ولن تتركه دون أن تقتنع بما ينفعها، لذا عليه أن يختصر إجاباته قدر المستطاع ويجعلها تضع السائل في حيرة أو اقتناع، وهذا هو المهم في هذه اللعبة الكريهة لحين الوصول إلى نقطة يمكنه معها الحصول على حل لجميع مشاكله وفي مقدمتها الخروج من العراق.

ــ زين أنته وين جنت تنام وشلون تعيش؟
ــ بالشارع ورحمة الله واسعة.
ــ لعد شنو تكول اسمي كارل ماركس.. ليش أنته صدك شيوعي؟
ــ أنا لست شيوعيًا.
ــ شوف أبو عفيفة هذا صار يتذكر زين.. الدنيه راح تصير مسه وين هذا يبات؟
ــ عمي استاذ قادر أنته عندك مكان تروحله؟
ــ ما أعرف..
ــ لعد شنو تفكر... وين راح تروح؟
ــ لا أدري.
ــ يابه هذا يبين ما عنده مكان... زين أستاذ قادر تكدر تبات هنا على الكرويتات مال الكهوة بعد ما أعزل.
قال أبو داوود صاحب المقهى وهو يناول ماركس كأس ماء جلبه له أثناء ما كان يأكل لفافة الطعام الثانية التي هيئها له أبو عفيفة.
ــ نعم أستطيع ذلك.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google