السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج1 - أجرى الحوار فرات المحسن
السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج1


بقلم: أجرى الحوار فرات المحسن - 25-10-2016
لم يتوقف الاجتهاد في النص ضمن الحركة الشيوعية العالمية منذ وفاة كارل هانريش ماركس وفردريك انجلز، بل كانت وفاتهما مرحلة جديدة للاجتهاد والتطوير في النظرية بما يتناسب ومستوى المواجهة مع الأحداث والفعل اليومي.

مثلت الثورة البلشفية، ثورة أكتوبر عام 1917 بقيادة فلاديمير لينين الخطوة الأكثر فاعلية في تنفيذ أفكار كارل ماركس وبتطوير ملهم للقائد لينين، مثلما يشير الكثير من الباحثين والمروجين لأفكار لينين وثورة أكتوبر. وباتت اجتهاداته مرحلة مهمة في الذهاب لتفسير الماركسية وتنفيذ ثورة لإقامة دولة الاشتراكية ومن ثم لاحقا الشيوعية. وعد التنظير اللينيني في كيفية إدارة الدولة، الاجتهاد الأصح في متن النظرية الماركسية. لا بل تنفيذا صارما للماركسية.

كانت الأهداف المعلنة للثورة البلشفية هي المساواة بين فئات الشعب والقضاء على الرأسمالية والإقطاع وتحقيق النموذج الاشتراكي المفضي في النهاية إلى الشيوعية، ولكن طريق تنفيذ العمل ما كان يخلوا من المصاعب والعثرات. فقد واجهت الثورة معضلات ووقائع على الأرض بمستويات متعددة ومتنوعة،كان يحتاج لحلها أو التعامل معها، رؤية واقعية بعيدة في كثير من منهجيتها عن فحوى التنظير والدراسات النظرية، ولا يقتصر التفاعل معها عبر نص مدون بقدر ما يحتاج إلى وعي بطبيعة المشكلة وطرق حلها، مما دفع أصحاب الشأن للبحث عن مخارج تقارب الحدث وتحاول وضع حلول واقعية له . وكان هذا الأمر يوقع الكثيرين في دوامة التناقضات وحتى التعارض مع مفاهيم وردت وترد في النظرية الماركسية،عندها تتضخم بدرجات متفاوتة طرق الاقتراب أو الناي عن النظرية. فمتطلبات الناس ليس فقط الحريات والمساواة وهي أهداف جميلة بالطبع، ولكن ما يترافق معها هي حاجات البشر الأساسية للمواد والموارد وضرورة إشباع حاجاتهم المادية والروحية التي تزداد باضطراد، وتنشأ مع الوقت الحاجة الماسة لتطوير ورفع قدرة البشر على استخدام وتوظيف الموارد الطبيعية ووسائل الإنتاج لتتوافق مع الحاجات الاقتصادية الاجتماعية للمجتمع.

إذن فأن تحقيق الاشتراكية الذي عمل عليه لينين قد واجه واقعا على الأرض يتطلب اجتهادا خاصا.لذا عمل ومن معه على استنباط أفكار جديدة لقيادة المجتمع ووسموا اجتهاداتهم تلك بالماركسية اللينينية. واستمر ذلك خلال فترات طويلة أثناء الحرب الأهلية والحرب العالمية الأولى ثم الثانية وما تلاها، وجيرت تلك الاجتهادات بشخص لينين .

ظهور الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية مثل مرحلة جديدة ومختلفة عما سبقتها، حيث ارتفعت وتيرة الاجتهاد في النص الماركسي وبرزت العديد من الشخصيات التي فككت الحدود النظرية للماركسية وأعطت مفاهيم جديدة عن طبيعة التشكيل الاشتراكي وكذلك مستقبل البناء الشيوعي.

ولأجل استجلاء بعض مما حدث من تغيير أو اجتهاد في النظرية والتطبيق وما شاب ذلك من أحداث داخل الاتحاد السوفيتي وأيضا العلاقة التبادلية مع البلدان النامية. كذلك طبيعة العلاقة مع الأحزاب الشيوعية العربية كان لنا لقاء مع الدكتور خليل عبد العزيز .





الدكتور خليل عبد العزيز والصحفي فرات المحسن



{{ولد الدكتور خليل عبد العزيز في مدينة الموصل. ساهم في الحركة الوطنية منذ أعوام الخمسينات حيث بادر بتشكيل اتحاد الطلبة العراقي العام في مدينة الموصل وأصبح رئيسا له. وشارك في تظاهرات وانتفاضة عام 1952 . في العام 1954 أصبح ممثلا للطلبة في لجنة الجبهة الوطنية التي شكلت آنذاك وخاضت الانتخابات النيابية. عام 1956 ألقي القبض عليه في بغداد وصدر قرار بالحكم عليه بالحبس لمدة عام واحد قضاها في سجن بعقوبة وأثر ذلك تم فصله من الدراسة. عام 1959م صدرت بحقه عدة أحكام بالإعدام بتهمة المساهمة في القتل وقمع مؤامرة الشواف، هُربَّ إلى موسكو من قبل الحزب الشيوعي، ليبدأ صفحة أخرى من حياته. أنهى فيها الكلية التحضيرية للغة الروسية، ثم درس ونال درجة الماجستير عن رسالته حول الحزب الوطني الديمقراطي العراقي. نال بعدها شهادة الدكتوراه عن الإعلام المصري. وعمل باحث علمي في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو وقد أطلع على الكثير من أسرار السياسة السوفيتية أثناء فترة عمله في ذلك المعهد، يعيش حاليا في العاصمة السويدية ستوكهولم.}}



في بداية حديثنا ولكونه عاش فترة طويلة من الوقت في الاتحاد السوفيتي وخاصة سنوات الستينات والسبعينات من القرن العشرين عاصر فيها أحداث عديدة، لذا طرحت عليه سؤالا حول تركيبة الخطاب السياسي للسلطة السوفيتية في تلك الفترة ، وهل هناك من ميزة يتميز بها ذلك الخطاب.

فأجابني :

كانت ميزة الكتمان والسرية تطغى على جميع سياسات السلطة والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، فيتم التكتم على جميع الأحداث ولا تظهر للعلن أي من تلك السياسات قبل التدقيق والتمحيص، حيث تدخل في فلتر يجعلها تتواءم وتوجيهات القيادة والسياسة العامة للحزب. كانت هناك صراعات وخصومات كبيرة داخل اللجنة المركزية، وأيضا توجد أفكار وأراء مختلفة ومتضاربة داخل مؤسسات الأبحاث العلمية، ولكنها لا تظهر للعلن، وتلك طبيعة راسخة عند جميع الأحزاب الشمولية. كنت أسمع بأن يفغيني بريماكوف كان يقدم للقيادة السوفيتية صورة سيئة جدا عن طبيعة الأحزاب الشيوعية العربية وعملها، في حين إن رئيس معهد الأستشراق السيد غفوروف يحمل تصور أخر ويتحدث بالضد مما يقدمه بريماكوف وهذا ما كنت أطلع عليه في عملي داخل معهد الاستشراق. ولكن الغريب أن جميع هؤلاء حين يحضرون اجتماعا مشتركا تختفي النزاعات ونبرة الخلاف لصالح توحيد الخطاب الأيدلوجي لعموم الاتحاد السوفيتي.



ــ ما هي طبيعة تعامل الحزب الشيوعي السوفيتي مع الأحزاب الشيوعية العربية؟



كانت هناك رغبة عارمة تجتاح بعض معاهد الدراسات السوفيتية وأيضا داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. تلك الرغبات والسياسات تعمل لأجل حل وإنهاء وجود الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية وتعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية، بالذات مع البلدان التي تسلك الطريق اللا رأسمالي. فلم يكن هناك بين أوساط القيادة السوفيتية تقيما ايجابيا لجميع الأحزاب الشيوعية العربية، وكان يؤشر لحضور أعضاء قياداتها إلى موسكو، فقط لغرض تلقي التعليمات والاستجمام .ودائما ما كانت القيادة السوفيتية تجد ما يصعقها ويثير استغرابها من تصرفات وأفكار غير واقعية يعرضها بعض قادة الأحزاب الشيوعية العربية. وبدورها فإن تلك الأحزاب كانت تؤله الحزب الشيوعي السوفيتي وتجد فيه المرشد والمعلم والأب الروحي الذي لا غنى عنه، ودائما ما تجد فيه العصا السحرية لحل مشاكلها حتى الداخلية منها. وبدورهم كان السوفييت يدركون جيدا هذا الآمر ويتعاملون مع تلك الأحزاب بشيء من عدم المبالاة، فتراهم لا يعيرون اهتماما جديا للآراء التي تقدمها الأحزاب الشيوعية العربية، وفي الغالب يهملون طلباتها التي لا تتوافق والسياسة العامة للدولة السوفيتية. وفي العديد من المرات، تراهم يجدون في طلبات الأحزاب الشيوعية العربية ما هو غير واقعي لا بل لا يمكن تناوله والنقاش فيه أو حوله.ولطالما كانت تلك الطلبات بعيدة كل البعد عن التفكير المنطقي الذي يستحق التداول أو التنفيذ. وفي الكثير من الأوقات أهمل السوفييت علاقتهم هذه، ولهذا وضعوا موظفا صغيرا في جهاز مخابراتهم ليس له منصبا حزبيا مؤثرا ليكون وسيطا بين الأحزاب الشيوعية العربية والحزب في الاتحاد السوفيتي. ولم يكن ليمر طلب لمقابلة أو اتصال أو ألتماس وحتى حاجة بعينها، إلا من خلال هذا الموظف المدعو نيجكين الذي عمل في فترة ما بعد ثورة الرابع عشر من تموز العراقية ملحقا ثقافيا في السفارة السوفيتية في بغداد، وكان هذا الموظف يبتز أعضاء الأحزاب الشيوعية العربية ولا يوافق على إيصال طلباتهم إلى القيادة السوفيتية دون أن تقدم له رشا معينة، دائما ما كان يحددها هو وليس هم.

في أحدى المرات طلبت قيادة الحزب الشيوعي اللبناني وبإلحاح غريب مقابلة المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي لغرض حل مشكلة كانت مستعصية على الرفاق اللبنانيين وموضوع خلاف واسع. وبعد جهد جهيد قبل السوفيت حضور الاجتماع، فعرض الرفاق اللبنانيون خلافهم الداخلي، أحتار الرفاق السوفيت في كيفية الإجابة عليه، ووجدوا إن ذلك ليس من مهامهم، ومن غير المعقول أن يطلب منهم حل إشكال بسيط مثل هذا ويمكن للبنانيون أنفسهم حله. ففي اليوم الأول من اللقاء قالوا بأنهم يوجهون سؤالهم لقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي ، هل الإصلاح الزراعي صالح وقابل للتنفيذ في لبنان أم غير ذلك ، كان سؤالا من غير المنطقي عرضه علينا،هكذا أجابهم الرفاق السوفييت، فالحزب الشيوعي اللبناني يعرف جيدا وضع بلاده وطبيعة الريف والملكيات الزراعية هناك، ولا حاجة لتدخلنا، ولكن الرفاق اللبنانيون كانوا مصرين على تلقي النصيحة من السوفييت فختم السوفيت اجتماع في اليوم الثاني بنصيحة واحدة فقط أنهوا بها اجتماعهم مع القيادة اللبنانية، بأن من المهم بحث الموضوع داخل تنظيمات الحزب الشيوعي اللبناني.

الحزب الشيوعي الوحيد الذي كانت تحسب له القيادة السوفيتية الحساب، هو الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق محجوب.فقد كان لهذا الحزب رأي حر ومستقل ودقيق وثابت وناضج في علاقاته مع السوفييت، ودائما ما كان الشيوعيون السودانيون يوجهون نقدا حادا للسياسة الدولية للسوفيت، وهذا الموقف كان يسبب صداعا وحرجا للقيادة السوفيتية، لذا كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وفي بعض الأحيان تمتنع عن دعوة الحزب الشيوعي السوداني لحضور لقاءات الأحزاب الشيوعية العربية. وحين يواجه السودانيون رفاقهم السوفيت ويعاتبونهم على موقفهم ذلك، يقدم الجانب السوفيتي الاعتذار ويبرر الأمر بأن ذلك حدث سهوا أو إن ذلك جاء بسبب الموظف المكلف بملف توجيه الدعوات.

في الجانب الأخر فقد كان أكثر الأحزاب الشيوعية خنوعا وذيليه، هي بعض الأحزاب الشيوعية العربية مثل الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش واللبناني بقيادة نيقولا الشاوي والحزب الشيوعي الأردني بقيادة فؤاد نصار وحزب التقدم والاشتراكية المغربي بقيادة علي يعته.

فلم تكن لهؤلاء كلمة أو رأي يعتد به عند السوفيت، وإنما عرف عنهم الخضوع وقبول أي رأي يعرض عليهم، فقد كانوا في حالة موافقة دائمة ورضوخ لجميع ما يمليه عليهم الجانب السوفيتي.



ــ يعتقد البعض بأن فرق الثقافات والوضع الاجتماعي كان له تأثير في طبيعة العلاقة بين الجانبين السوفيتي والعربي.





الشهيد سلام عادل

هذا جدا صحيح. ويمكن أن تؤشر حالة كانت انعكاساتها غير إيجابية على الكثيرين من الشيوعيين القادمين من البلدان النامية، ودائما ما كانوا يتذمرون منها،كونها ما كانت لتناسب طباع وطبيعة عمل ونضال هؤلاء، ولكن القيادة السوفيتية تجد فيها إنعاشا وتجديدا لحياة هؤلاء الذين أتوا من أوضاع نفسية ومادية قاهرة. وكانت تلك الرؤية لدى القادة السوفييت تعبيرا دقيقا عن مشاعر عطف أو بالضبط مشاعر الأبوة التي تنعكس في طرق تعاملهم مع الشخصيات الشيوعية التي تصل إلى الاتحاد السوفيتي. وهذا الأمر يخضع للمزاج العام ومثله للفروق في الثقافة والعادات والتقاليد بين الشعوب، وكان ذلك يلعب دورا مهما حتى في التوجهات السياسية. فالظروف السياسية والحياة الاجتماعية للكوادر الشيوعية في البلدان النامية ومنها العربية تختلف كليا عن حيثيات الحياة اليومية والقيم التي تربت عليها كوادر الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات منهم الروس.

فحين يأتي أحد الكوادر الشيوعية إلى موسكو يطلب منه الذهاب إلى المنتجعات ليقضي فترة نقاهة مثلما حدث مع أغلب الرفاق الشيوعيين العراقيين، وهذا الآمر بتقدير القيادة السوفيتية يأتي كضرورة لإبعاد المنغصات عن تفكير الرفيق وتخفيف وطأة المشاكل وما تعرض له من تعذيب أو ملاحقات، وكان هذا الآمر دالة إيجابية كان على شيوعيي البلدان العربية قبولها ليتمتعوا بصفاء الذهن وتبتعد أرواحهم عن تلك الأوقات العصيبة التي اعترضت حياتهم في بلدانهم..

عند قدومي إلى موسكو قابلت الرفيق سلام عادل فنصحني بأن لا أقبل الذهاب إلى مصح أو منتجع لو عرض علي ذلك، فسألته عن السبب، فأجابني بأن ذلك يمثل شيء من الاستخفاف وعدم الجدية بالنسبة للمناضل العراقي، وروى لي كيف إن القيادة السوفيتية أرسلته إلى الريف خارج العاصمة موسكو، حيث كان هناك وسط غابة كثيفة الأشجار منتجع جميل يطلق عليه تسمية مصح. صباح اليوم الأول وبعد أن تناولت الفطور سألت المشرفين عن البرنامج المعد خصيصا لي، فأجابوني بأن ليس هناك برنامجا محددا بل عليك أن تسير وسط الغابة حتى نهايتها ثم تعود إلى المصح لترتاح .وهناك يتوفر كل شيء من أكل وشراب وراحة تامة وسط سكون الطبيعة ورائحة الحشائش والورود. وقد قطعت الغابة ثم عدت واستمرت حياتي اليومية على هذا المنوال فترة ليست بالقليلة. وحين سألت الرفاق السوفيت عن سبب أو علة وجودي هناك، أخبروني بأن إرسالي جاء وفق معايير أهمها،إيجاد أجواء راحة وأمان تام، بعد أن وجدنا أنك قد تعرضت للاضطهاد والمطاردة في بلدك، لذا تحتاج إلى فترة مناسبة من النقاهة والهدوء والابتعاد عن الأجواء المتوترة المشحونة بالقلق والترقب والاختفاء.

صحيح إن السوفيت كانوا بذلك الفعل يرغبون بتأمين أجواء هادئة وبعيدة عن التشنجات لرفاقهم من البلدان النامية، ولكن طبيعة التركيبة النفسية والثقافية والاجتماعية لهؤلاء الرفاق ما كانت لتسمح لهم التأقلم مع ما يوده الرفاق السوفييت لهم، ولكن الحاجة وسلطة الأب كانت في الغالب تفرض عليهم المسايرة والقبول.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google