السيرة الأسرية للشاعر نزار قباني ! * - د. رضا العطار
السيرة الأسرية للشاعر نزار قباني ! *


بقلم: د. رضا العطار - 20-12-2016


يتعرف القارئ على سيرة (نزار قباني) الذاتية من خلال كتابه (قصتي مع الشعر) يلاحظ ان هناك شيئا ناقصا او مبتورا. وان هذا الشيء الناقص قد بُتر عن عمد.
لقد اهمل نزار في سيرته الذاتية العنصر الانساني اهمالا واضحا في حين انه قدم المكان على الانسان، كما قدمه ايضاعلى الزمان. فنحن حين نقرأ سيرته الذاتية، لا نرى اي اثر كبير لوالده او والدته او اخوته على حياته. كانت سيرته هي سيرة المكان فقط ـ ـ
هي سيرة دمشق المكان ـ ـ وهي سيرة (البيت) المكان الذي ولد فيه الشاعر. فمن خلال 76 صفحة من السيرة الذاتية للشاعر لم يظفر الانسان الا بهذه السطور التالية :

الأب
يقول نزار بخصوص ابيه : (ابي توفيق القباني، كان واحدا من اولئك الرجال . . من اصحاب الحوانيت الذين يمولون الحركة الوطنية ويقودونها من حوانيتهم ومنازلهم ـ ـ حين رأيتُ عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الاولى منزلنا بالبنادق والحراب ويأخذون ابي معهم في السيارة المصفحة الى معتقل ـ تدمر ـ الصحراوي، عرفت ان ابي كان يمتهن عملا آخر غير صناعة الحلويات. كان يمتهن صناعة الحرية. كان ابي اذن يصنع الحلوى والثورة، وكنت اعجب بهذه الازدواجية فيه وادهش كيف يستطيع ان يجمع بين الحلاوة والضراوة).

اذا اردت تصنيف ابي، اصفه دون تردد بين الكادحين، لانه انفق خمسين عاما من عمره يستنشق روائح الفحم الحجري ويتوسد اكياس السكر، مكان عمله، ثم يعود الينا من معمله كأنه سفينة مثقوبة. واني اتذكر وجه ابي المطلي بهباب الفحم وثيابه الملطخة بالبقع والحروق ـ ـ استطيع ان اغمض عيني واستعيد بعد ثلاثين سنة مجلس ابي في صحن الدار وامامه فنجان قهوته او منقله وعلبة تبغه وجريدته.
وقد لعبت مشاعر ابي القومية والاسلامية دورها في قراره الحكيم، بارسالي الى مدرسة تجمع الثقافتين (الثقافة الفرنسية والثقافة العربية).

في الحادية عشرة من عمرنا نصبح عاشقين، وفي الثانية عشرة نسأم، وفي الثالثة عشرة نعشق من جديد . . وفي الرابعة عشرة نسأم من جديد . . وفي الخامسة عشرة من العمر يصبح الطفل في اسرتنا شيخا . . وصاحب طريقة في العشق.
جدي كان هكذا . . وابي كان هكذا. كلنا نعاني هذه الحساسية المفرطة امام اشياء الجمال . . . كان ابي اذا مرً به قوام امرأة فارعة، ينتفض كالعصفور، وينكسر كلوح من الزجاج. وكانت قراءة رسالة او بكاء طفل، او ضحكة امرأة تدمره تدميرا كاملا،
انه كان جبارا امام الاحداث الحسام ـ ـ لكنه امام وجه حسن التكوين، يتحول الى كومة رماد.
عيناه الزوقاوان كانتا صافيتين كمياه بحيرة سوسرية، وقامته مستقيمة كرمح محارب روماني، وقلبه كان اناء من الكرستال يتسع للدنيا كلها ـ ـ كانت ثروة ابي التي يفاخر بها، حب الناس، لم يكن يريد اكثر ـ ـ ويوم مات خرجت دمشق كلها تحمله على ذراعها وترد له بعض ما اعطاها من حب.
لم يكن ابي متدينا، كان يصوم خوفا من أمي، ويصلي الجمعة في مسجد الحي خوفا على سمعته الشعبية، كان الدين عنده سلوكا وتعاملا وخلقا، وشهد الله انه كان على خلق عظيم
دائما كان في ماله حق للسائل والمحروم، ودائما كان في قلبه مكان للمعذبين في الارض.
والرغيف في منزلنا كان دائما نصفين، نصفه الاول لغيرنا والنصف الثاني لنا.

لم يكن ابي يفصل الدين عن اطاره الجمالي، لذلك كان يقضي الساعات منصتا بخشوع واستغراق الى صوت المقرئ الشيخ محمد رفعت، كان يعتبر صوته نافذة مفتوحة على السماوات وما فيها من نور الله . . . ولست انسى ابدا ذلك اليوم الذي هدد فيه ببارودة صيد مؤذنا قبيح الصوت جاؤوا به الى المسجد اللصيق ببيتنا، لان صوته ـ برأي ابي ـ كان مؤامرة على الاسلام و المسلمين. واختفى المؤذن نهائيا . . ولم يجرؤ على الصعود الى المأذنة.

كان تفكير ابي الثوري يعجبني ، وكنت اعتبره نموذجا رائعا للرجل الذي يرفض الاشياء التقليدية ويفكر باسلوبه الخاص، بالاضافة الى شبهي الكبير له بالملامح الخارجية، فقد كان شبهي له بالملامح النفسية اكبر ـ ـ واذا كان كل طفل يبحث خلال مرحلة طفولته عن فارس ونموذج وبطل، فقد كان ابي فارسي وبطلي، ومنه تعلمت سرقة النار.

بين تفكير ابي الثائر وتفكير أمي السلفي نشأت انا على ارض من النار والماء.
كانت أمي ماءٌ . . وابي ناراٌ ، كنت بطبيعة تركيبي افضل نار ابي على ماء أمي.
لقد تعمًد (نزار) ان يقدم لنا اباه من خلال صورة مثالية جدا كما قرأنا قبل قليل، وهي صورة اقرب الى صور القديسين منها الى صورة الانسان الذي يصيب ويخطئ، يرضى ويغضب، يثور ويهدأ.

الأم :
اما أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب، كانت تعتبرني ولدها المفضل و تخصني دون سائر إخوتي بالطيبات، وتلبي مطالبي الطفولية بلا شكوى ولا تذمر.
اما على الصعيد الفكري فلم يكن بيني وبين أمي نقاط التقاء. فلقد كانت مشغولة في عبادتها وصومها وسجادة صلاتها. تسعى الى المقابر في المواسم وتقدم النذور للاولياء وتطبخ الحبوب في عاشوراء، وتمتنع عن زيارة المرضى يوم الاربعاء وعن الغسيل يوم الاثنين، وتنهانا عن قص اظافرنا اذا هبط الليل، ولا تسكب الماء المغلي في البالوعة خوفا من الشياطين، وتعلق احجار الفيروز الازرق في رقبة كل واحد منا، خوفا علينا من عيون الحاسدين.

انا من اسرة تمتهن العشق ! . والحب يولد مع اطفال الاسرة. كما يولد السُكًر في التفاحة
كل افراد الاسرة يُحبًون، حتى الذبح، . . وفي تاريخ الاسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق . . . الشهيدة هي اختي الكبرى وصال. قتلت نفسها بكل بساطة و بشاعرية منقطع النظير . . لانها لم تستطع ان تتزوج حبيبها.
صورة اختي وهي تموت من اجل الحب محفورة في لحمي، لا ازال اذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية وابتسامتها الجميلة وهي تموت . . . كانت في ميتتها اجمل من رابعة العدوية، واروع من كليوباترا المصرية. . . حين مشيتُ في جنازة اختي وانا في الخامسة عشرة، كان الحبُ يمشي الى جانبي، يشدً على ذراعي ويبكي.
وحين زرعوا اختي في التراب . . وعدنا في اليوم التالي لنزورها لم نجد القبر . . وانما وجدنا في مكانه وردة.

هل كان موت اختي في سبيل الحب احد العوامل النفسية التي جعلتني اتوفر لشعر الحب بكل طاقاتي واهبه اجمل كلماتي ؟ . . هل كانت كتاباتي عن الحب تعويضا لما حُرمت منه اختي وانتقاما لها من مجتمع يرفض الحب ويطارده بالفؤوس والسيوف ؟
انني لا أؤكد هذا العامل النفسي ولا انفيه، ولكنني متأكد من ان مصرع اختي العاشقة، كسر شيئا في داخلي . . وترك على سطح بحيرة طفولتي اكثر من دائرة وعلامة استفهام
واذا كانت حساسيات بعض الناس منشؤها الالوان، او الروائح او تغير الفصول، فحساسية العائلة منشؤها القلب النابض.

* من كتاب (الضوء . . واللعبة) استكناه نقدي لنزار قباني، لمؤلفه شاكر النابلسي



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google