بقلم: هاني خطاب -
30-12-2016 IMG_0072.JPG
رأيت نفسي أجلس على مصطبى في حديقة
الأمة ، حينما رأيت جموع كثيفة من الناس تهرع نحو ساحة الحديقة وتتجمع ، وبعد أن تجمع عدد غفير منهم أخذوا يشكلون حلقة كبيرة وهم يشبكون أيدهم مع بعضهم البعض ، وشرعوا في الدوران ، في البدء أصدروا أصوات خافته وهم يدورون ، وسرعانا ما غدت انين وطحير وهم يلتفون حول أنفسهم وكانهم ثيران تدور حول ناعور ، وهذا الحلقة راحت تكبر وتضخم مع مرور الوقت ، حتى بات في النهاية حلقة مترامية الأطراف ، وغطى صوت أنيهم وطحيرهم فضاء المنطقة. فنهضت من مكاني ، وذهبت صوب ذلك الحشد ، وأخذت أطوف حوله متفحص وجوه المتجمعين فقد بدأت لي غريبة غير مألوف ، حتى أنهم ظهروا لي شفافين أستطيع أن أرى ما في داخلهم ، فهم كلهم متشابهون في ملامحهم ، وما ثار انتباهي ، أنهم موشومون بختم واحد ، ظهر لي بشكل واضح ، مثل نعل حصان مقلوب . محفور بعمق في جباهم ، أنطبعت صورتها في ذاكرتي ، غير أنه مخفي تحت طبقات جلود جباهم ، لا يمكن تبينه بسهولة ، إلا من جلب على طريقة خاصة في النظر . وهكذا رحت أدور حولهم وأنظر لهم بعمق ، محاول قراءة ما يدور في خلدهم ، أو هكذا خَيل لي ، فأنا للأول مرة أصادف تلك الوجوه المتماثلة ، والموشومة بنفس الوشم ، وكانت لهم بُطُون متفوخه مترجرج ، ومدلالة . وأثناء طوافي بهم ،كان جموع آخرى كثيرة تنضم أليهم ، مما زادني أستغراب وحيرة، حتى ، أخيراً أوقفت أحد هؤلاء الذي يريد أن ينضم اليهم ، وسئلت هذا الذي يريد أن ينضم لذلك الحشد ، عن سر ذلك التجمع ولماذا يدورون بهذا الشكل .
ولماذا يفعل هؤلاء الناس ذلك ، ولماذا يئنون ويصدرون تلك الأصوات ؟
نظر إلي الرجل في أستغرب ، وعلامة الدهشة باديه على وجه ، وكأنه ينظر لكائن غريب .فقال ،؛
ألم تسمع ، من أي بلد أنت ؟
فقلت بدوري مندهش ، أسمع ماذا أني من العراق .
فزاد أستغراب الرجل ، ونظر لي هذه المرة في شك ، فقال ؛ من العراق ولم تسمع ؟
فقلت هذه المرة في حرج واضح أسف ، لم اقرأ الصحف ولم أسمع الراديو ! فأطلق الرجل ضحكه مدوي كادت تغطي على أصوات أنين الجموع .
أي صحف وأي راديو تتحدث ؟
ماذا أذن أين لي أن اعرف؟ ،
ألم تبلغ ؟
ابلغ ؟ ابلغ بماذا ؟ راح ينظر بمعان ويتفحصني من قمةرأسي حتى حذائي العتقين . كان وجه لي مالوف من تلك الوجه التي يصادفها المرء في الطرقات وأماكن عديدة ، غير أني لم أرى عيون نافذ بمثل تلك الحدة ، والتي تبلغ في نظراتها لحد العظم . فقلت مرتبك وكأني اعترف في ذنب ؛
لا لم ابلغ ، ابلغ من قبل من ؟
ألست حزبي إذن ،؟ قلها منذ البداية ، اليوم ولأدة القائد ، أترى هذه الجموع انها تجتمع هنا لكي تنجبه ، هذه الجماهير حبلى ، انظر إلى بطونهم إلا ترى كيف هي منتفخة ، أني احمل جزء منه ، اليوم ، نحن المجتمعون هنا ، كلنا نساهم في ولادته .
وقلت متعجباً ، كيف ؟
وحقيقة أني لم كنت قد انتبه لبطنه طوال حديثي معه . فقد أربكتني أسئلته ، ولم تدعني أنظر سوى لوجه . وفعلا كان بطنه منتفخ ، كأنها قربة ، متدليه للأسفل بشكل لافت لنظر ، فهو يبد وكأنه قد دس شيء بين ثيابه ، وما أن هم بمغادرتي ، قلت بصورة لا واعيه .
كيف سوف تساهمون أنتم في ولادة القائد ؟
فقال وهو يسرع نحو الجماهير ، التي في هذه الأثناء تدفقت من كل حدب وصوب حتى فاضوا بجسامهم المتراصة والمتكاتفة والمندمج وكأنهم من بعيد جسم واحد هائل الأبعاد ، يعاني ألم ممض . وأبتدأت أصوات الجموع المتشابكة يتعالى ويتصاعد وكأنه قصف الرعد ، وقفت هناك راقب ، مبهور ، بدأت الجماهير تبرك وتقعي تخلع ثيابها ويكشفون عن خلفياتهم ، وكأنهم يتغوطون ، بل أنهم بالفعل كانوا يتغوطون ، وتكون تحتهم تل من الغائط ، يعلو كل مرة حين يتصاعد منهم انين وطحير بين فترة وأخرى . ورغم نتانت الرائحة التي يفرزها التل الذي اصبح تحت الجماهير المتألمة والتي لم تعبأ أو أنها تحس بوجوده ، فهي في عملية مخاض مؤلمة أنساها وأفقدتها كل حواسها . ورغم أني كنت اشعر وأتنفس تلك الرائحة القاتلة ، غير أني كنت مبهور في المشاهدة ، فلم اعاني منها بقوة ، فقد انتظرت عما يسفر كل هذا الجهد . وحينما استفذ المتجمهرون كل ما في أحشائهم، وخارت قواهم من الأنين كفوا عن الحركة وقفوا يتأملوا ما خلفوه من تل البراز ، بعد أن ستروا عجازهم . وفجاءة ، راح تل البراز ، يدور حول نفسه كالزوبعة ، متطاير كميات هائلة على الذين لتفوا حوله ، بدون يظهر عليهم نزعاج من ذلك، بل أخذوا يتأملوا ، وينظروا له بترقب ، فكأنهم على معرفة عما يتمخض عد هذا الدوران الذي راح يشتد ، ويتصاعد نحو الأعلى . وتواصل الدوران بحد ، ونظرات الجماهير معلق فيه بخشية وخوف وأمل، رغم أن وجوهم غطت بما تتطاير عليها من ذلك التل . وبدأ التل يتضائل من كثرة ما قذفه حولها ، وأخذ يتضح ما تخلف عنه ، فقد بأن ثمة جسد بشري منطوي على ذاته ، كان وسط العاصفة والدوامة التي كانت تدور ، فتشكل من دورانها أم أنه نمى وتكون في وسط ذلك التل ، فذلك ما ليس لي علم به . وما أن هدئت سورة الدوامة وكفت عن الدوران حتى نهض ذلك لذي كان يقعي وسط التل ومنطوي على نفسه . وظهر لي من مكان أنه شخص طويل قوي الجسد ، أسمر شاحب ، له شارب اسود ، وشعر كثيف ، وعينان سوداويتين كبيرتين ، وأن ما يزال أكثر جسده مغطى في البراز ، فقد ، كنت مسافة كافية لي لتميزه ، فالضوء كان يغمر المكان ، وما رأه الحشد ينهض حتى انطلقو نحو بفرح غامر وهم يطلقون هتافات غربية ، لم اقدر تميزها كلها ولكني تمكن من التقاط بعضها
انتظرناك طويلاً يالموعود ،
جلود ضحاينا نضجت
فهي تنادينا ، فموسم الحصاد حل
فطلق أيدينا .
، وشعارا ت آخرى ، لم أتذكرها بعد . وحاطت به الجماهير ، وأخذت تلك الجموع تصرخ بأصوات عالية
الماء ، الماء ، الماء .
ومن كل صوب ، تدفقت السيارات لا اعرف من أين أَتت ، محملةً بتنكرات المياه تندفع صوب الجماهير ، والذين فسحوا لها المجال بقرب القائد العاري ، وسحبوا خراطيم المياه وراحوا يغسلوا وينظفوا كل ما علق به ، وهم أيضاً يغسلون أنفسهم . وما أن غسلوه ، خروجا له بدلة عسكرية مطرزة بنجوم والتيجان ولبسوه إياه ، وراح هو يلوح لهم بذراع الطويل وتعالت الهتافات من كل جانب. وبعد هذا رفعواعلى أكتافهم ومروا به من جانبي ، وتمكنت من رؤيته بوضح ، رسخت صورة في ذاكرتي ، وساروا صوب الجسر وهم يهتفون . جاء اليوم الموعود ، سنملاء الأرض بضحاينا ، وأخذوا يتقدمون ناحية الضفة الآخر من النهر ، ورحت أنا أراقب الحشد وهو يبتعد حتى تلاشى اخيراً .
وما أن تلاشى الموكب ، حتى لم أعد ارى أي شيء في الأفق ، وفي الحال، بعد توارى الموكب هبتت مفزوع ، فقد استيقظ من نوم عميق داهمني وأنا أجلس أحد المصاطب ، حيث اعتدت أن اقعد واخرج كتاب واقرأ لفترة إذا كان لدي وقت أضافي . كلما خرجت لعمل في الباب الشرقي . ولم أرى أحد كان يمشي حولي سوى أفراد قليون يتمشون في اروقة الحديقة . ولم يكن هناك ثمة أثر لأي شيء غير عادي . فقد كان كل ما رأيته مجرد حلم ، كابوس ثقيل . ونهضت من مكاني وتوجه نحو عملي ، فقد كنت أعمل في احد المعامل أثناء العطلة الصيفة لمدرسة .
@@@@
وفي صباح أيقظني أمي ، وسمعتها تقول اكعد الحكومه خربت ، لم فهم شيء مما تقوله ، فهي عادة حينما أتأخر في النوم تتختلق شيء ما لكي تحفزني على النهوض ، فقد تأخر البارحه في العمل ، ونمت متأخراً بعد مشهد أحد أفلام الكابوي في المقهى القريبة من بيتنا والتي تغلق عادةً بعد انتهى اخر فلم بسلام الجمهوري . وحينما بقيت في فراشي ولم انهض ، جاء اخي يوقظني بدل أمي وهو يقول ،
اكعد ، لك صار أنقلاب والامة مخبوصه ، اكعد انقلاب ، وممنوع التجوال .
فطار النعاس من اجفاني ، ونهضت من فراشي ، وذهبت مباشراً ، الى المرافق ، لأَنِّي كنت محصور بولة ، ولكني وجدت باب المرافق مغلق ، لأن كان واحد من أفراد عائلتي الكبيرة به ، فلا يوجد في البيت كله سوى مرافق واحد ، فطرقت الباب بحدة ، غير أن صوت والدي هو من رد ، فانسحبت مهزوم ، إلى الهول ، منزعجة ، وان أتضور تحت ضغط مثانتي ، ولكني ، لحسن الحظ ، ما أن دخلت الهول ، حتى سمعت باب المرافق يفتح ، وصوتي أبي ، وهو يتنحنح ، منبئني بخروجه ، فاندفعت نحو المرافق بسرعة خوفاً من أن يسبقني أحد ما أليه ، ففي مثل هذا الوقت الكل يتزاحم عليه ، ولكني ، تأخرت اليوم كثيراً في النوم ، ولم يكن هناك أحد يريد الدخول فيه ، ولكني لم أفطن أني متاخر عنهم .
وحين ذهبت لمطبخ ، لتناول افطاري ، بعد أن غسلت وجهي في الحمام ، كأعادة اهلي في تناول أقطارهم في المطبخ . وجدت المطبخ فارغ لا أحد فيه . غير أني رأيت فوري الشاي ، لا يزال يتصاعد منه البخار ، والبيض وقطع من الجبن والخبز الحار موضوعين في الصينية على الارض ، لم يأتِ عليهم تماماً كالعادة ، فلأبد أن الخبر داهمهم في منتصف الفطور . فصببت لنفسي استكان من الشاي وأُكلت أربعة لقم من البيض والجبن على السريع ، ثم ذهبت لخارج البيت حيث كنت اسمع لغط ، وصوت راديو عند الباب . وما أن خرجت من الباب الخارجي ، صرخت بي جارتنا بتهن ،
وين رائح ممنوع تجوال ،؟ انقلاب ، راح الفقير بوّله بشط !
ورد ، زوجها ، لا ما قتلوه ، يقولون ثورة بيضاء ، يعني ، ما يقتلون أحد ، في الثورة البيضاء .
فقال محمد جارنا الأخر شارح لي معنى الثورة البيضاء ؛
لا تصدق ما يقولوه ، هؤلاء البعثين . ما يرحموا أحد .
يمه من هم البعثين ، تسألة أمرأة عجوز كانت تقف بين المتجمهرين حول الراديو الذي يحمله محمد بيده . فقد كان القليل منا من يملك راديو . حجيه البعثين الحرس القومي لي شيلوكم من دارك القديمة ، هم نفسهم البعثين .
تف لا هل .
وضحك الكل من قول تلك المرأة العجوز ، قالتها بصدق وببساطة اجبرت لهجتها الكل على الضحك .
لا تخافي حجّيه ما يبقون هواي ، ، سيطرونهم بسرعة . قال جمعه الذي كان يقف مع الحاضرين .
فرد عليه هاتو
لا هؤلا علج بطانيه ، لزكه ، ، الله يستر منهم . فصرخ
فيصل ، وهو جارنا من الجهة المقابلة ، مربوع القامة كأنه مصارع .
أخون خلون نسمع كلش ما فهمنا ، بعدين علقوا . فقالت جبرية ، جارتنا الآخرى ؛
هس حنا فهمنا شيء حتى تفهم ، أنقلاب وهاهي ! فقال هاتو ، مخاطب فيصل
شتفهم ، ثوره بيضاء ، مأكو شيء ، بعدين تفهم .
اليوم بالليل تفهم ، تعال لقهوة ، يطلعون من قام بالانقلاب .
أخوان تتفرقوا ممنوع التجمع ، البعثيون قادمون ، قال أحد المار ساخراً حينما رأى جمع كبير يتجمع حول الراديو عند بابنا . فرد فيصل :
يبدو عليك تخاف البعثين ؟
فأجابه بنفس السخرية ،
شدوا العمايم ، چاكم الموت ياتاركين الصلاة ، ودعوا كل المسرّات . ،
فقال فيصل ؛ يبدوا عليه أنه مجنون ، تركوه لحاله .
أخوان تفرقوا ، اخوان تفرقوا . ودعوا الله أن يحفظنا . قال أبي وكأنه داهمه الخوف فعلاً من ذلك العابر السبيل .
وتفرق من التف حول المذياع من الجيران والقريبين من الجوار ، فكل الذين تجمعوا من الرجال والنساء كنت اعرفهم . من اتجاهات مختلفة من المنطقة ، فبعضهم دخل إلى بيته فيما الآخرين راحوا يبحثون عن تجمعات آخرى لكي يشاركوا فيها من جديد .
لم تتوارى نسمات الصباح بعد ، فثمة نسمات عذبة لفتحنا ، وأخذ الشمس تتسلق بخطى حثيثة نحو كبد السماء الصافية ، فنحن في تموز وبعد ساعات يصبح من المتعذر الوقف الخارج بدون ظل ، من شدة الحرارة . لذلك تختارالأنقلاب في العراق على الدولة أشد الأشهر حرارة ، ربما لتراخي السيطرة الصارمة من قبل السلطة .
لم افهم تماماً معنى البعث والحرس القومي فلم تكن لي تجربة معه ، ولم أكن أهتم في السياسة ، فقد كانت الأحداث تبدو لي متشابهة وليس ثمة فرق جوهري بينهم . فأنا منذ فترة قصيرة شرعت اقرأ أول كتاب خارج ، كتبي المدرسي ، فقد أعطاني فاضل أول كتاب حينما تعرفت عليه بالشارع ، حيث يجلس مع يوسف وعبد ، ويوسف كان صديقي للاعب كرة قدم . وفاضل كان يبع الجرائد والكتب مع والده ، في الباب الشرقي . وأول ثلاثة كتاب اعطانياه ، بينها لسوء الحظ كان البيان الشيوعي . وبهذا الكتاب ، كأنه وضع غشاوة أو عصبة على عيناي لم قدر أن ارفعها الا عن طريق الكتب الأدبية ، التي شرعت تمزقها شيء فشيء ، فقد تكشف لي أن الأدب هو الترياق ضد كل العقائد ، الآداب توسع الرؤية فيما العقائد تضيقها أو تعمي البصيرة .
وبعد أن نسحب كل المتجمهرين أمام بابنا رجعنا أنا وأهلي لداخل البيت ، وأتجه أمي ناحية المطبخ ، فهم لم يكملوا فطورهم الذي نهضوا عنه في منتصفه .
وخاطبتني أمي ؛
أكلت ؟
وأميت لها برأسي أني أكلت ، ولكنها حين رفعت الصينة من على المطبخ طلبت من أن أشاركهم ثانية ، ولكني رفضت . وقال أبي لي ؛ساخراً ؛
تعال أكل ، قبل ما يجي البعثيون !
فقالت أمي ليش مو عمه قاسم ، موسى بعثين ؟
فرد أخي الكبير ؛
عندنا واسطة ، هم زين !
◦ كان وأمي وأبي وبقية أخوتي يجلسون على سجادة خفيفة ارض المطبخ يتحلقون حول صينية الأفطار والذين أتوا على محتوياتها ، من بيض وجبن وقيمر عرب ، وخبز عريض مدور . فقالت لي أمي
؛ اليوم ماكو شغل ، الطرق مقطوعة ! خذ راحتك اليوم .
صبيلي شاي ، قلت الأمي ،
أخذت ستكان الذي اعطتنياه أمي وذهب إلى الهول ، هناك حيث كنت أضع كتبي . وكان فاضل قد أعطاني ثلاث كتب ، البيان الشيوعي وقصتان ، مجموع قصص ألمكسيم غوركي ، وقصه لغوغول المعطف . وكان أول شيء عليه أن أفعله هو أن اخفي صورة ماركس وأنجلس ، اللتان على البيان بلحيتهما الكثتين . ورحت اقرأ في البيان لأول مرة ، وقد صعب علي فهم مقاصدهما ، ولكن لغته الساحرة وقوة اسلوبهما شدتني لهما منذ البدء . فقد كان لكلامهما وقع الرعد والقصف على مسامعي . ولم افهم الكثير من مصطلحات ألبيان والكثير ما ورد فيه من أشارات ، بيد أن لغته سحرتني . واستغرقتني ، حتى سمعت أمي تنادي علي ، فوضعت البيان تحت بساط القنفة ، خشبه أن يقع يد أحد اخوتي أو ابي ، فقد حذرني فاضل من أن أدع أي واحد يرى هذه الكتب سوى لواحد من عائلي أو أصدقائي ، فهو كتاب ممنوع ، وبعد أن أخفيته ، نهضت ورحت صوب المطبخ حيث تجلس أمي ، فقد ذهبت إلى السوق ، وجاءت ببعض الفواكه ، مثل العنب والتمر الرطب . وضعت لي شيء من التمر والعنب في ماعون ، ورجعت للغرفة الكبيرة ( الهول ) وشعرت بان حرارة الغرفة زادت ، وراح بعض الذباب يطن هنا وهناك ، فتحت المروحة ، فتحرك هواء الغرفة فليلاً . كان سقف بيتنا واطئ ، فكنا نتحس حرارته . فقد بات الأن الشمس في كبد السماء ، وَمَا من نسمات باردة تلطف من لهيب شمس تموز المحرقة .
وشرعت أمي تعد الغذاء ، وكان أبي قد خرج يتقصى الأخبار لدى أصحابه ، الذين عادة ما يجلسون في الصباح في المقهى . أم بقية اخوتي خروجوا ليلعبوا في الشارع ، أم اخي الكبير فقد يكون مع والدي . وبقيت اليوم في البيت لكي أقرأ تلك الكتب التي أعرنياه فاضل أو واحد منها على الأقل ، فأنت كنت أخشى أن أصادف فاضل أو يوسف أو عبد في الليل ، ويسألاني عن رأي فيهم . فقد فكرة أن اقضي الظهرية في البيت ، واخرج في المساء لساحة لكي اللعب الكرة مع فريقي . الذي يلعب عادة عند السماء حين تخف حدة الشمس ، خلف البيوت ، عند سكة القطار قريب من مستشفئ الشماعية . واستغرقتني قرأت البيان . حتى دخلي أبي هو واخي الكبير فقد عاد من المقهى المجاورة لأن وقت الغذاء قد حل . وما رأني أبي ، حتى خاطبنا ؛
لا تذهب اليوم للعمل ، الوضع بعده ما واضح .
أنا أعرف ، بالليل باص ماكو ، شلون أرجع .
ودخلت أمي وقالت لابي ؛
أصب غد ، جوعانين ؟
صبي نادي على لأطفال ، وخلّينا نتغدا .
وكنا عادة ما نتغدا في الهول ، بخلاف الفطور والذي يكون في المطبخ . فقد شرعت أمي تجلب الصحون لغرفة ، وأمرني أبي أن أذهب في مساعد أمي في نقل صحون الغذاء وكانت أني قد عملت رز ومرق وسمك وزلاطى ، وخضرة ، ورقي . وكل ذلك كنّا نضعه في صينية كبير والتي نتحلق حولها عائلتي ، فقد كنّا عادة ما نأكل كلنا سواء في صينية واحدة .
وقال أبي بعد أن تم جلب كل شيء وجاءت أمي لتجلس معنا ،
كلو بِسْم الله ، حتى تصير بركة في الأكل . فصحنا كلنا في نفس الوقت تقريبا ؛
بِسْم الله ، بِسْم الله .....
وبعد فترة من الصمت ، قال أبي مخاطباً أمي ؛
علينا أن نشتري تلفزيون ، أنت هـ ، وزهير سبوعيتكم أعطوها كلها للأمك حتنى نشتري تلفزيون ، فقال أخي
كلها أنا ما نطي سبوعيتي كلها أريد اشتري ساعه ، أنطي نصفها ما يخالف . فقلت ؛
بيت هاتو يبعون التلفزيون بالأقساط ، بيت شنته شتروا واحد منهم بالأقساط .
فقال أخي سعدون ؛ حتى بعد ما روح لكهوة ، ونام على القنفات . فقال ، أخي الاخر ؛ بابا أني شبعت بعد ما أكل لما يجئ التلفزيون .
فنخعته أمي في خاصرته ،
ولك تموت من الجوع ، غداً روح إلى أم جمال وسئلها أن تعطين واحد بالدِّين ، فأكل اليوم وغداً من يجئ التلفزيون لا تأكل . ويبدو على أخي وكأنه اقتنع في كلامها فأخذ يأكل من جديد ويلتهم طعامه . وقال أبي ؛
على أي شيء نخلي التلفزيون ، نريد شيء عالي نضعه عليه ،
فلم ينبس احد بشيء لأنه لم يكن لدينا ميز أو منضدة عالية تكفي لحجم التلفزيون .
أنا أسئل أم جمال تنطين ميز لمن نشتري واحدة ، عندهم ميازه هواي . قالت أمي .
فتنفس الجميع الصعدى ، فقد خيلنا لنا أن عدم وجود المنضدة سوف يجهض مشروع التلفزيون .
ونهضت أمي من جلستا بعدما فرغ الكل من الأكل وكأن خبر شراء تلفزيون سد شهيتنا ، فقد كف الجميع عن تناول الطعام رغم ما يزال هنا بقية في الصحون . وقد زادد حر الهواء في الغرفة والذي تحركه المروحة . وكان من طبيعتنا تناول الشاي بعد الفروغ من تناول الغذاء . ولهذا جاءت أمي بالقواري هو والأستكاين والشكر موضوعين في صينية صغيرة . ومن القوري ما زال يتصاعد البخار . والأستكاين موضعت في أناء صغير مملؤ بالماء ، والسكر في قارورة شفافة بيضاء يرى من خلألها السكر الشديد البياض . وبعد أن خرجت عدد منهن من أناء الماء وضعتهن في الصينة وضعت فيهن السكر بملعقة صغيرة ، ثم صبت الشاي القاني الحمرة وأخذ البخار يتصاعدة منهن .وبعد أن تناول كل واحد أستكانه شرعنا نفخ في استكاينا لكي يبردوا شايهم . أم أبي فبدأ يتجرع شابه بهدوء ، فهو اعتاد أن يشرب شاي وهو حار غير مبالاي بحرارته .
وأنت اليوم ما تروح لشغل ، هم ليش قطعوا الطرق ؟
قلت أمي ، مخاطب والدي ، الذي أفرع شايه برشفات سريعة ، فقدم أستكان الشاي إلها ، وهي عادةً ما تصب لها له واحد آخرى ، بدون أن تسأله .
لا ، اليوم ما روح ، الله اليدري , ماذا يحدث هناك . لا صدق بثورة بيضاء ؟
فقال أخي الأصغر مني
بابا شنو ثورة بيضاء ؟
فجاء السؤال أبي ، فلم يعرف كيف يشرح له بطريقة بسيطة يفهمه بسهولة .
يعني مو سوداء ، ما بيها وسخ .
فلم يبدو على أخي فهم شيء مما قال له ألي له ، ولكنه لاذ بالصمت ، فقال زهير اخي الكبير ؛
ما بيها بوكسات .
وأمل له بقبضة وهو يدفعها إلى الأمام . وقلت ؛
ويجري دم !
فبدأ عليه أنه اقتنع ، ولم يريد المزيد من الشرح ، فقد فهم فهم أن الثورة هي معركة بدون أن يسيل بها دم .
وبدأ على أبي أن راح يغالب النعاس ، لأنه كان دائماً ، بعد الغداء ، يذهب لكي ينام حينما يكون في البيت خصوصاً في أيام الصيف ، فقد كلنا عندما يشتد الحر يداهمنا النعاس .
نهضت أمي وأخذ الصينة معها بكل مافيها وراحت نحو ، وكذلك نهض أبي وذهب لغرفته لكي ينام بدون يعكر أحد نومه . فهو في بعض الأحيان ينام هنا إذا لم يشعر بحاجة لنوم عميق . وبقيت أن وإخوتي في الهول ، وهما بعد فترة غلبهم النعاس ، وأخذتهم الغفوة . في حين أنا أخذت الكتاب من تحت بساط القنفة وشرعت أقرأ من جديد في البيان الذي سحرتني قوة كلماته . غير ، أني بعد فترة احسست أن أني توقظني من النوم ، فقد غلبني وأنا اقرأ ، فسقط الكتاب من يدي ، وكنت قد غلفت الكتاب بصحفية من جريدة كما أوصاني فاضل حينما أقرأ كتاب يحمل صورة ماركس أو أنجلس بلحيتهما الكثتان . ودسيت الكتاب من جديد تحت مندر القنفة ، وغلست وجهي على عجل وأرتدي حذاء الرياضي وخرجت من البيت . وجدت الشمس تميل نحوا الانحدار ، وقد خفت حدة حرارتها ،.
وأخذ الناس يخرجون من بيوتهم ، ففي شارع مريدي ، حيث يقع بيتنا كان به العديد من الناس يتجولون . والسيارات تمر به محملة بالركاب ، فشارع مريدي يقطع مدينة الثورة عرضاً . تحيط به بيوت واطئة من كلا الجانبين مرصوف بعضها بجوار البعض . وسرت في الشارع الترابي ، بعيداً عن السيارات ، صوب الساحة التي تقع وراء البيوت ، والتي عياره عن خلاء ، قريبة من سكة القطار الذاهب نحو الشمال . سرت وأنا مفعم بالامل ، فبعد قرأوا البيان الشيوعي ، احسست وكأنه العالم قاب قوسين أدنى من أقام جنه على الأرض ، فهناك أناس تعمل في كل العالم من أحل إسعاد الإنسان ، وعليه يجب علي أن كون من هؤلاء . ولكني لم أكن أعرف كيف ومتى ، تحل تلك الجنة ، مجرد مشاعر متضاربة أشاعت في روحي الأمل ، لم تبعث في نفسي القلق كما كنت عادة أحس ، حينما كان أبي يقول لي تريد تبق مثلي عامل يشتغلون عليك ، وإنما السرور والاطئمنان . ولم يكن خبر الأنقلاب أقلقني ، أو لم يثر أهتمامي فهو لم يكن حدث عابر ، بل أنه في الحقيقة أفرحني ، فأن حدث جديدة ، فقد كانت فترة عبدالرحمن عارف فترة راكدة . فقد كنت نتطلع لشيء جديد ، ورغم أني لا أعرف من هم البعثيون جيداً ، رغم أني اعرف الحرس القومي ، الذين نقلونا لهذا المكان المترب، فقد كان بيتنا في الكراد مطل على نهر دجله ، وقريب من القصر الجمهوري ومن قاعدة الخلد والبساتين الكثيرة ، فهنا لا توجد حتى شجرة واحدة . المهم كنت سير وأفكار مضطرب تدور في ذهني فأغفلت عما حولي . وكنت تتلهف أن أن ارى هؤلاء الذين قاموا في ذلك الانقلاب . ففي ألليل ، بالتأكيد ، سوف نسمع اخبار كثيرة من التلفزيون الذي نتجمع نحن أبناء المنطقة عند حلول ، حيث أغلبنا لا يوجد لديهم تلفزيون في البيت ، فكانت المقهى هي الطريق الوحيد لرؤية الأشياء ومشاهدة صور الأخبار . ولدهشتي، حينما بلغت الساحة ، التي اعتدنا أن نلعلب فيه لم أحد احد هناك . فقد كانت فارغ إلا من بعضالاطفال يلعبون هناك . ربما لم يأتوا بسبب حظر التجوال . وأنا بدوري سرت من عدم حضورهم ، ففأنا اليوم ، عرض لأفكار متضاربة ، المهم أن لم أعد متحمس لكرة القدم مثلما كنت من قبل ، فقد كف طموحي أن أكون لاعب ممتاز . سررت في داخيلتي لهذا الغياب . فأنا اليوم غير ما كنته في الأمس ، فقد لأن تغير العالم بدأ ممكناً . ولهذا سرت بتجاه الخلأ ، ناحية الشماعية ، حيث يمتد فراغ واسع ، يتيح للنرء أن يتأمل فيه .وبدا نسم تهب من تالك الناحية ، والسماء بدإت أكثر صفاء ، وقد انحدرت الشمس بيعيداً في أفق السماء . وبرز مستشفى المجانين، الذي يقع وراء سكة القطار على مسافة قليلة منها . وهو عبارة عن بناية واطئة تمتد على مسافة ، من الحجر الرمادي ، صبغوه بلون ازرق فاتح ، وعلى مسافة بعيد نوع ما ، يحيط بها سياج شائك من السلك منخفض ، غالبً ما يتجمع عند المجانين . وفي مرات عديدة كنّا نتحدث مع بعضهم ، ففيه كثير من النزلاء كانوا اللطيفين ، غير أن البعض منطو على نفسه ، وبيدو عدواني ، ولكنهم أكثرهم كانوا هادئين ولا خوف منهم .وكانوا يسألولون في حالة عديدة عن السكائر . وحينما تكون في جيب سكائر لهم . وأصبح لنا كثير من الأصدقاء منهم . كنا ناديهم في أسماء حينما نراهم عند السياح ، وكان أكثرهم شهرة عارف ، وثامر . وعارف قصته معروفه من قبل الكل حسب مايشاع عنه ، فهو يقال أنه خنق زوجته في نوبة جنون ، فعارف كائن هادئ ، ولكنه تعتريه نوبات جنون ، ففي هذا الحالة يصبح خطر ، فقد رأينا في مرات عديدة قد خلع ثياب وسار عاري كما خلق اللله وزبد يعلو فمه، ويصيح بكلام غير فهموم ، ومن المعروف ، أنه حينا كنا نمر به ، يصرخ بَعضُنَا فيه ؛
حذروا النساء والكلأب .
وحينما قال له احد الأصدقاء ؛
عارف نحن نعرف غدر النساء ، ولكن من هم الكلاب ؟
فرد عارف على الفور ؛
إلا تعرف من هم الكلاب ؟
فقال صاحبنا ، والذي كان جمعة وهو شخصية يحب المزاح والنكته ،
لا وداعتك عارف ؟
فقال عارف بغضب ؛
الكلاب هم الرجال ، كل الرجال ، كبارهم وصغارهم أمثالكم .
ونفحرتا جميعاً بالضحك من كلام عارف ، فلم نكن نتوقع ذلك .
ونظر لنا في غضب وبدأ محياه يتغير . قال سعيد بهمس لنا ، دعو عرف لوحده ، فقد تجيئه النوبة . وغادرنا عارف على عجل خوفاً من أن تتابع نوباته التي لاتحاد عافيتها .
فعارف كما يعرف عنه أنه كان مدرس إلى اللغة الانكليزية ، وأهل يسكتون في الحبيبيه . ويعرفه الكثير من الطلاب . وكأن معروف عن حبه لقرأة ، وكثيراً ما يستشهد في شكسبير .
وحين اقترب من السياج ورأيت عارف يقف لوحد ساهم ، ينظر في الأفق بلا تحديد أقتربت من وحيته ، وقلت له ؛
هلو عارف ، كيف حال المجانين ؟
نتظرت جوابه ولم يلتفت لي ، فأنا اعرف ، أنه حين لم يجب بشيء معناه دعني في حالي ، لذا سارعت في خراج سكارة وقدمتها له فانفجرت أساريره ، وراتسمت على شفناه أبتسامة بالكاد تلاحظ. . كأنها كلمة ممسوحة . فعارف رجل ضامر العود ، له وجه أبيض ، وعينان تنم عن ذكاء حاد ، وله قامة متوسطة ، وشعر خفيف دب الشيب فيه ، فهو قد تجاوز الأربعين أو ناهز الخمسين . وبيدو شارد الذهن حتى وهو يتحدث لك. فكرة مشغول بشيء ما ربما حتى هو لا يستطيع أن يعرفه . ولذلك يبدو أن نفس الفكرة التي شغله دائماً يصعب عليه أن يبلورها ويخرجها لنور . وشعلت له السكارة وبعد أن وضعها في فمه وحدق في وكأنه يراني للأول مرة وضغط عليها بقوة بأسنانه . وجذب منها نفس قوية ، توهج طرفة السمارة بحدة على اثره . وبنما نفث الدخان بقوة خرج من فمه بكثافة كأنها صدرة من مدخن قطار .
أحسن حال من العقلاء ، فنحن نعيش في جنة اصناعية ، بينما العقلاء هم يعيشون في جحيم من صنع أيدهم .
أبتمست ، ولكني لم أفهم ما قاله ، وهو عادة ، في مثل هذا الحالة حينما يقول كلام ، يبدو غير مفهوم من الغير ، يبقى يترقب ، وكأنه ، يعرف ذلك مسبقاً ، ولذا حينما قلت له ،
عارف ، لم أفهم ما تقول .
فرد بحدة وكأنه كان يتوقع جوابي هذا بلهفة فقال ؛
ومتى فهم العقلاء المجانين ، بل هل فهم بعضهم بعض ؟ فليس ضروري أن تفهم وأنما استمع لي فقط .
من هو المجنون عارف ؟ فأنت لا يبدو عليك أنك مجنون ، فأنت أستاذ ، وتعرف الأنكليزية .
فلم يجب على سؤالي وأنما أخذ يسحب أنفاس عميقة من سكارة التي أوشكت أن تنفذ ، وراح يبحث في جيب بنطرونه عن شيء فخرج أخيراً عقب سكارة وراد أن يورثه فقلت له ؛
دعهً هاك سكارة آخرى .
وأعطيتا له بيد أنه بيد أنه وضعها في جيب واصل يدخن في العقب الذي اخرجه من جيبه .
بعدين تعرف من هو الجنون ، الآن أنت تراني أنا المجنون ، وأنت على حق ، الجنون موقف وليس مرض . أنا في السنة أجن ليوم واحد ، ما يسمى عقلاء فهم فقط للحظات قصيرة عقلاء ، بيد أنهم يقضون حياتهم جنون في جنون .
خيب أملي عارف بجوابه هذا فكم كنت أتوق أن عرف ما هو الجنون ، فكم مرة سمعت تلك الكلمة ولكني لم اجد ما يطابقها ، فهناك مجانين مختلفون جداً ، لقد تركني أن اعرف الجنون بنفسي ، فكم من الوقت احتاج حتى اعرفه . فقلت له بغته ؛
عارف وقع انقلاب ! ثورة بيضاء ! البعثيون قاموا به .
لم يبدعلى عارف تأثر أو اهتم . ولازم الصمت لمدة ، وأخيراً اطلق تأوه عميقة وقال بألم ؛
ستمر عليكم أيام عصيبة ، ستكون في قلب العاصفة .
ولأني لم افهم ما يرمي له ، قلت له ؛
وانت إلا تخشى العواصف ؟
فمراً وقت طويلاً قبل أن يجب وقال ؛
ليس للمجنون ما يخاف عليه فهو بلا بيت ولا أهل ، وحتى لا يعرف نفسه ، المجنون لا يخشى شيء .
فقلت له ؛
هل ستهب عواصف على البلاد ؟
فجاب على الفور ؛
البعث والعواصف شيء واحد ،
ثم نظر لي بمعان وراح يتفحصني ، وكأن يقرأ علامات خفيه في وجهي .
أحذر الكلأب !
فقلت له مستفهماً
أي كلاب ؟ فقال؛
الكلاب الموشومة ، بحدوة حصان مقلوبه ! هؤلاء سوف يطاردوك فاحذرهم، أنهم بدوأ الآن ينتشرون ، وسيملئون الطرقات وكل الأمكان ، احذر الكلاب الموشومة .
خُفت أن تكون احد نوبات عارف قد حلت ، فسارعت لتغير الموضوع فعن أي كلاب موشومة يتحدث . فقلت له ؛
ععارف هل يوجد هنا أيضاً مستشفى للنساء قريب منكم ؟
فقال ضاحك ؛ لا ، لا يوجد ، النساء لا يجنن ، ولكنهن يبعث الجنون في الآخرين .
لماذا لا يجنن النساء عارف ؟
نظر لي باستغراب ، وراح يعبث بشارب المحلوق منذ فترة قصيرة ، فعارف دائما كنا نجده حليق الوجه ، رغم أنه ليس مشعر كالبقية ، فليس له لحية كثة . سحبت سكارة آخرى وقدمتها معه ، وأنا الآخرى ، أشعلت لي سكاره فعارف بث في نفسي مخاوف لا اعرف بِعد طبيعتها ولا ما يعنيه بلكلاب الموشومة . فكان معروف لنا أن لا يتحدث عن الأشياء التي تبعث على السرور الفرح ، فهو في اغلب الأحيان عابس قانط . ولذا لم نكن نأخذ كلامه بجدية ، فقال بعد ملأ فمه بالدخان وراح يدسه بعنف في حشاء ، فقد أخذ يتنشق بعمق لمنع الدخان من التسرب من فمه .
أثنان أهل الارض عاقل يشق بعقله ،،، وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم
عارف هذا البيت من قصيدة المعري أعرفه ولكن لا أعرف ما الذي تعني به . وقبل أن يجب عارف الذي رأيت يكتم ابتسامة ، فجاءة ، فاجئنا ثامر مندفع نحن عارف ليخطف السكارة من فمه ، والذي جعل عارف يجفل ويفزع وهو يرى يد تمتد مباغته نحو وجه كأنه تسدد لكمة له ،. وتمكن ثامر من انتزاع سكارة عارف من فمه . وقف عارف مبهوة ، فقد فقد زمام المبادرة ،وهو في المقابل لا يستطيع أن يفعل شيء لثامر العملاق ، بيد أنه راح ينظر له بغضب مكتوم . وأخذ ثامر يمتص أنفاس شره من سكارة عارف . فقلت للثامر ؛
أرجع سكارة عارف وأنا أعطيك واحد جديدة !
وحينما رأني اخرج علب السكائر من جيبي ، مد السكارة نحو عارف والتي لم يبق بها سوى العقب ، فلم يمد عارف يده نحوها . ولكن ثامر راح يدسها بين أصابع عارف بقوة ؛
هاك ثامر سكارة ، وهذه لعارف أيضاً .
وبهذا تمكنت من أن أهدئ الاثنين ، غير أني لم اقدر أن أمحو نظرت الغضب عن عيني عارف .
كان ثامر عملاق حقيقي ، فالكل يخافه ويتحاشه ، بيد أنه ليس عدواني ، ولكنه يتدخل في كل شيء ، له وجه أسمر جميل ، وهو مهوس ، يبدو وكأنه مطارد ، ويدعي أنه أنه يفسر الأحلام ، فهو دائماً يسأل المجانين عن احلامهم ، ويعامل عارف بخشونه ، ويقول عنه أنه ، غير مجنون , ولكنه يتظاهر به ، بعد أن خنق زوجته . وقال لي أخيراً ؛
أعطني سكارتين وحكيلك حلمي ، حلمت البارحة وكل المجانين حلم مخيف ، سكارتين ، حلم بسكارتين ، موافق ؟
فقلت له ، وهل حلم المجانين الآخرين نفس الحلم أيضاً ؟
نعم كلنا كلنا حلمنا نفس الحلم !
فخرجت من علبة سكائري الذي وشك أن ينفذ ثلاثة سكائر أعطية أثنين منهم لثامر ، وأخرى لعارف والذي حاول اخذها من يد عارف ، ولكن عارف كان حذّر منه ، فدحسها في جيبه بسرعة . فقلت له ؛
أحكي لنا ، ثامر ما الذي حملته ؟
أَخْلَد ثامر لصمت يستجمع ما في ذاكرة من ذكريات مضطربة ومختلطة . ونظر صوب الشمس التي انحدر نحو المغيب ، وقد انصبغت بالون احمر قاني . فقال وما زالت نظراته معلق في السماء ، وعارف يحدق في الأرض ويشنف أذناه محاول الأصغاء له ، فهو سمع الكثير من احلام ثامر وتفسيراتها لهم .
رأيت نفسي جالس في حديقة عامة ، بدأ ثامر يقص حلمه .
وشاهدة جموع غفيرة من الناس تجمع ويشكلون دائرة كبيرة ويمسكون أيديهم مع بعضهم البعض ، وراحوا يدورن في دائرة ويطلقون انين وطحير ، وصراخ ، وكانهم نساء في وضع الولادة .
وهنا توقف ثانر ، وأخذ يحك رأسه ، وأخذ ينظر فينا أنا وعارف ، فقد كانت نظرات مركزة عليه ، فقد بدأ لي وكأنه يقص حلمي الذي حملته في حديقة الأمة ، وأخذت الدهشة تزاد لما في روايته من تطابق مع حدث لي ، في الحلم . أما عارف فلم يرفع رأسه عن الارض بل بقى يحدق في شيء ما تحت قدميه .
هل استمر ؟ سأل ثامر .
فقلت ولماذ لا تستمر ، نحن نصغي أليك ، أيوجد ما ما يمنعك من المواصلة .
نعم ، لقد بلغت لشيء مقزز في حلمي، فهل أقوله ؟ فرد عليه عارف بسخرية ؛
واصل ثامر فنحن تحملنا منكم اشياء في الواقع ، أما في الحلم فلا تهتم بِنَا ، كمل قصة حلمك .
فقال ، ثامر وهو يحك رأسه بعنف كأنه يريد أن يزيل ما تراكم على ذاكرة من نسيان في تلك الدقائق التي توقف عن سرد حلمه ؛
ولكن أين وصلت ، عارف ، فأنت لك ذاكرة قويه ، ذكرني عارف حبيبي !
سحب عارف نفس قوي من سكارة ونفث الدخان بوجه ثامر وقال له ؛
وصلت إلى يئنون ويطحرون ويصرخون كأنهم نساء في والأداة !
وقلت له ، لكي اسهل عليه التذكر ؛ وصلت إلى موقف مقزز ، فما هذا الموقف ؟
كف ثامر عن هرس رأسه وعلة وجه ابتسامة انشراح فأخذ هو الآخر نفس عميق ونفخه بوجه عارف ، والذي لم يطرف له جفنهن من ذلك .
بعد أن على صراخهم وانينهم وراح العرق يتدفق منهم كشفوا عجازهم وأخذوا يتخوطون حتى اصبح بينهم تل عالي من الغواط ، وبعد أن استنفذوا كل ما في أحشائهم ، وبقوا ينظرون لذلك التل بترقب وانتظار ، شرع التل من ذلك البراز ، يدور على نفس وكأنه دوامة وعصار ، حتى غطئ وجوهم ، بدون أن يبدوا عليهم أي تأثر أو حركة اشمئزاز ، فهم كانوا يترقبوا أن يتمخض عن هذا الدوامة شيء ما . وفجأة ، بعد أن تتطاير كل ذلك التل في الهواء ، خلف شخص يقعي على ركبتي ومططئ رأسه على الأرض عارياً تماماً ومغطى بالفضلأت . وما أن رأه الذين التفوا حوله ، حتى هبتوا نحو وهم يصرخون ولد القائد . ومن ثم صاحوا ؛
الماء ، الماء ، الماء .
واندفعت بغته ، من حيث لا اعلم من أين سيارات المياه ، نحو وسحبوا خراطيم المياه وشرعوا يغسلون القائد وأنفسهم في فرح غامر . وبعد أن تم تطيقه وتنظيف أنفسهم ، البسوا القائد ملابس عسكرية مزين بالنجوم والتيجان وضعوا فوق رأسه خوذة عسكرية وساروا به صوب احد الجسور وهم يهتفون بحياته ، وأنهم سيفدوه بعمارهم . وفي هذا اللحظة استيقظت على احد المجانين يسقط فوقي . هكذا ختم قصته ، وهو يروي حلمه ، الذي هو نفسه حلمي . ولكني لم أقل لهما أني حلمت بنفس خشية ، أن يعتبروني مجنون . لأن ثامر قال كل المجانين حلمت نفسه هذا الحلم .
خيم عليان صمت ثقيل ، وأما لي ثامر بأن أعطيه سكارة ، فعلت عن طيبا خاطر ، فأن حلمه اشاع في نفسي الأضطراب . وأخذنا نفث دخان سكارئنا في الهواء . وقد أوشك أخر أشعة الشمس أن تتوارى . وهنا قال عارف لثامر بعد زال عنه كل احتراس من ثانر ؛
الآن عليك أن تفسر لنا حلمك ، فأنت تتدعي أنك تفسر الأحلام !
نظف ثامر حنجرة وتنحنح ، وجذب نفس عميق من سكارته وأطلقه في وجه عارف . وقال ؛
لم أصادف حلم عميق في حياته كهذا ، ولا أظن أني قادر على تفسير ، ولكني أعرف ، ما يظهر في الحلم شيء سيّء ينقلب إلى شيء جيد ، أو خير في النهاية .
فقلت هل يعني حلمك المقزز خير ؟
كيف هذا خير اشرحنا لنا ، أنت تفسر الأحلام على طريقة ابن سيرين ، لا على طريقة فرويد في تفسير الأحلام .
فحدق ثانر في عارف مندهشاً ، وقال في استغراب ؛
من يكون فرويد هذا ، وهل هو يفسر الأحلام أيضاً ؟ لم أسمع في فرويد هذا ، فالمهمً أني أستطيع أفسر حلمي حسب القاعدة المعروفة كل حلم سيّء هو خير الأخر ، فهذا الحلم يبشر بخير قادم ، فسوف يأتِ رجل عادل وخير يملأ الأرض عدل .
فقال عارف ساخراً ؛
هل هو المهدي إذن ؟
فرد ثامر على الفور المهدي لا يأتي بصورة عسكري . يبدو أنك لم تحلم بهذا الحلم ؟
لا لم احلم بهذا !
فقال ثامر غاضباً ، أنا أعرف أنك غير مجنون وإنما تظهر في الجنون لكون خنقت زوجتك ، فكل المجانين حلموا بهذا الحلم ، ولكن ماذا حلمت أنت ؟
لزمت عارف الصمت لفترة ، وهو يواصل سحب أنفاس عميقة من سكارته وكأنه يحاول يستذكر شيء في أعماق ذاكرته . وحل ظل الليل ، وبدأت نجوم تظهر في الأفق . ونسمات عذبه راحت تهب عليناملطفه من أمزجتنا .
حلمت حلم آخر !
قال بهدوء ، وكأنه كان يتوقع معارض ثامر له . فثامر يرى فيه خصم له ، لأنه اكثر المجانين ثقافة ، وتفهم لهم ، ولو أنه كان يملك قوة وضاخمة ثامر ونزعته لسطوة لجذب كل المجانين إلا جانبه ، ولكن الآن ثامر يعمل بخبث أو بدون قصد على جعل عارف هامشي أو منبوذ . لذلك خاطب ثامر عارف بستهزاء ؛
اخبرنا بحلملك الآخر ، لنرى أهو حلم عاقل أم مجنون ؟
أكتافنا الظلام في هذه اللحظة ، فقد حل الليل سريعاً ، أما فوقفت تحت أحد الأعمدة الكهربائية، تحت عمود منتشلة ، غير اضواء بعض الأعمدة الكهربائي بددت الكثير الظلام ، فلم يذعرنا حلول الليل ، ولكن الكثير من المجانين الذين كانوا يقفون عند السياج قد انسحبوا إلى مأواهم . وقال عارف ؛
حلمت ....
وفجأة توقف كأنه أراد يحس وقع كلامه علينا ، فلا شك أنه يخاف ردود فعل ثامر ، فهو دائما يحدق له جانبياً ، لا يأمنه ، ويتوقع منه شيء مباغت ، لأنه كان ينهب أي شيء في يده . ويبحث عن أي حجة لكي يشك في جنونه . فعارف يبدو يحرص حرصاً شيء على أن يعامل كمجنون . فيما ثامر يقول عنه أنه يتظاهر به ، بعد خنق زوجته . ولكن التحديق في عمق في وجه عارف يكشف فعلاً شرود غير طبيعي فيه . وللمرء أن يتوقع منه أي شيء غير طبيعي . وفجاءة قال ؛
رأيت ، فيما أنا كنت أسير ، في مزرعة كبيرة زاهية ، حصان جميل جداً يرع في المزرعة ، ساهياً عن كل ما حوله . ورحت اقترب منه ، وهو لا يعيرني أهتمام . وأقتربت منه أكثر ، حتى وضعت يدي على رأسه الذي رفعه عن الأرض ، وأخذ يحدق في بألفه وكأني صاحبه ، فلم يجفل أو يغير من وقفته . فرحت امسد رقبته الطويلة ، وكان في عينان الكبيرتين حزن دائم . وبغته جفل الحصان وتوترت أذناه وتصلب جسده ، فنظرت حولي ، فرأيت كلاب مخيفة تحيط بِنَا من كل ناحية .
وهنا وقف عارف عن سرد حلمه ، وبأن الشرود عليه ، فلعل تذكر شيء ما كدرة نفسه فتوقف عن مواصلة رواية حلمه . غير أن ثانر سرعان ما خاطبه بلهجة ساخرة ؛
لا بد أن الكلاب شمت رائحتك ؟
ونظر لي عارف ، وبعيناه ، قرأت نظرة توسل ، فأخرجت من جيبي باكيتي سكائري ، الذي لم يبق به سوى اربع سكائر . فقدمت له واحد وثامر خطف السكارة من يدي قبل أن أعطيه إياها . وأخذنا ندخن بصمت منتظرين أن يبدأ عارف سرد حلمه من جديد .
ماذا فعلت لك الكلاب ؟
وبَقى عارف ينظر في الأفق البعيد وهو يستلذ بطلاق انفاسه المشبعة بالدخان في الهواء ، فتبقى انفاس تراقص تحت أشعة المصباح الكهربائي، الذي راحت فراشات حشرة عديدة تدور حوله .
وأخذت الكلاب تقترب منا أنا والحصان ،
أستئنف عارف حديثه أخيراً ، بعد جذب عدة أنفاس من سكارته .
وبَقى الحصان ينظر للكلاب بثبات دون أن تبدو عليه رهبة أو خوف بعكسي الذي رحت ارتجف . وما أن دنت منه اكثر وهي تأهب لنقضاض على الحصان ، فقد كانت عيون الكلاب مسمرت عليه . وهنا أرخ الحصان ساقيه ، وكان يقول لي أصعد فوق ظهري ، وقفزت بيعه على ظهره تحول الحصان بطرف عين لطائر ابيض جميل ، صفق بجناحية ، وبصربة واحدة من جناحيه أصبحنا أنا وهو في مبد السماء اصبح في كبد السماء . وقفت الكلاب مبهوته ، تنظر إلينا ونحن نختفي في أقصى الأفق .
وهنا قاطع ثامر كعادة مع عارف ، وقال له ساخراً ؛ وأنت إلى ماذا تحولت ؟
لم يرد عارف عليه ، وإنما واصل بعد برهة من الصمت كلامه . وقال ؛
وكلما زاد الحصان توغل في العلو كانت احس باللذة فائقة . وحينما حاول الحصان الهبوط ، وقاطع ثمار مره آخرى ؛ هو راكب أنت حصان لو طير ؟
فقال عارف منزع ، أقصد الحصان الذي تحول طير فهمت ، هذا الكائن له دماغ غليظ ، وعندما هبط بي صرخت خائف ، فقد انطبعت صورة تلك الكلاب اللعينة في ذهني .
فنظر له ثامر بحدة وقال له ؛
ألم اسئلك في وقتها لماذا تصرخ ياعارف ، فقلت لي لا شيء ، لماذا لا تقص أحلامك لي لكي أفسرها لك ؟
وبَقى عارف ، يلوذ بالصمت ، بعدما أن قص حلمه . فقلت أنا لثامر ؛
ثامر فسرنا حلم عارف ، ماذا يعني برأيك ، أنا احترم تفاسيركً !
فقال ثامر وهو يحاول أن يمسك بحشرة علق في علباه تحت ثوبه الغليظ .
هذا الملعون يحلم احلام غربية ، يعجز أستاذي أبن سيرين عن تفسيرها ، ولكني أستطيع أن أن قول حلم عارف شر . ، فطيرانه هو سقط من قمه ، أما الكلاب ، فهي في يوم قد تظفر به ، عارف مصيره أسود .
ورد عارف ، على تفسير ثامر ساخراً ؛
أنت دائماً تفسر الأشياء بالعكس ، وهذه طريقة سهلة . فالأحلام ليس دائماً معكوسه . فقد تكون رؤية صحيحة .
نزعج ثامر من سخرية عارف من طريقة في التفسير فقال له متحدياً ؛
لا تفرح أن الكلاب لن تدعك أبداً , فأنت من حصتها ، ستكون أحد ضحاياها ، أقولها لك ، وسيكون ، هذا الولد هو الحكم بيننا ، انتظر ، ونشوف ؟
ولكي اهدأ من غضب وأكسب ثامر قلت ؛
لعل ليس الآن سوف تهاجم ، قد يحدث هذا بعد سنين كثيرة ، فقد يحتاج الحلم وقت كي يتحق .
فانتهز ثامر تلك الفرصة ، لكي يرد على سخرية عارف منه ؛
الله يسمع منك ، يارب عجل في تحقيق حلم عارف . وكالعادة ، لم يبالي عارف في دعا ثامر عليه لأنه اعتاد عليه . ولكي يغير الموضوع خاطبني عارف وعلى شفتاه شبح ابتسام ؛
وأنت ماذا حلمت ، جاء دورك ؟
فقال ثامر ، وهو يتاهب لنصراف ، فقد أن الوقت حان لتناول عشاءهما هو وعارف ، لذلك سحب عارف من ذراع بقوة وهو يقول له ؛
لا فائد من حلم العقلاء ، دعه وشانه ، لقد أن وقت العشاء ، دعنا نذهب ، مع السلامة اذهب ، ولكن احذر الكلاب السائب فهي هنا كثيرة . وتركاني وانصرفا ، وثامر يسحب عارف بقوة ، ولكن عارف كان أيضاً يدع نفسه يندفع معه . وما أن ابتعد عن عمود الكهرباء الذي بقرب السياج لمستشفى ، حتى وجدت أن الظلام كان كثيف جداً هناك ، فسرت بالظلام على الأضواء المتباعدة لعمدة الضوء . ولم اسلك طريقي المعتادة فقد احبت أن أتي المدينة من خلفها ، مما يسمى السدة . وهبت علي نسمات عذبة ، فقد خفت حدة حر الأرض ، خصوصاً في هذا الخلأء الذي يحيط بي الآن . فالسماء المرصعة بالنجوم إشاعة في السرور ونستني كل فظائعها احلام عارف وثامر . فالعالم مازال طافح بالوعد ، فالحياة لم تبدأ معي ، لأني كنت اعتقد الحياة لا يمكن أن تكون تلك التي أحياها يومياً ، غير أني لم تكن لدي فكرة عما تكون عليه تلك الحياة القادمة . كانت الصمت شامل حولي ، فقد كنت أسير على حافة المدينة حيث لا احد يمشي إلا بالصدفة . ولكن اضواء المدينة كنت أراها وهي تراقص من بعيد فسير بتجاها ، وغمرتني أفكار وأحاسيس يصعب التعبير عنها ، بيد انها كانت تنسينا وحشة الطريق وأنا آخذت الخطى صوب السدة ، حيث منها أستطيع انحدر لشارع الداخل الرئيسي . وكانت السدة تشرف على وادي ، تغمره المياه في بعض نواحية ، وفيما أن أسير في ظلام دامس في عمق الوادي لكي أرتقي السدة المطلة على المدينة ، راأيت حصان جميل يسير على حافة المياه ، فوقفت أتأمله ، لأنه عارف اثار في حب الحصان الذي وصفه في حلمه ، فقد كان هذا الحصان يشبه لحد ما قال عارف عنه . وفيما أنا حدق فيه ، وهو يشرب من المياه بدون أن يعيرني انتباه رحت اقترب منه بحذر ، حتى أمسيت قريب منه . وأخيراً تجراء على لمسه هو ، وعندئذ رفع رأسه ونظر لي بعنين كبيرتين ، مسالمتين ، ومست على عنقه . وحنى رأسه على الماء مرة اخرى . وبغته رأيت عيون متوهجة لكلاب في الظلام تتجه صوبنا ، وشاهدت كلاب تقترب منا ، وبدأ على الحصان الأضطراب وراح ينظر حوله. . وانحنيتً ، لكي التقط بعض الحجارة ، كانت عيون لكلاب المتوهجة قريبت منا ، ولكن ما رأتني انحي ، حتى تلاشى بلمح البصر . فسترد الحصان هدوء ، وحين رأيت ذلك ، بأن الكلاب ولات الأدبار ، بمجرد أن انحنيت لكي التقط حجر ، فكرة في حلم عارف ، لماذا لم يحاول أن يرمي الكلاب بحجرة ، فهي تفر مع أقل جهد لمقاومة . أنحى واحد نحتاج لكي تهزم الكلاب ، بدل أن نهرب أمامها ، حجارة كفيلت بردهم على أعقابهم ، ولكن للأحد يفكر بذلك ، فقط يفكر كيف يهرب . وحين رأيت الحصان استرد هدوء ، والكلاب قد اختفت ، ربت على كفل الحصان وشرعت أرتقي سفح السدة . ً
بدأت بيوت المدينة الواطئة والقميئة في الليل جميلة تحت اضواء الأعمدة والبيوت والسيارات . فرحت أغذي الخطى على الرصيف العريض نحو المقهى ، القريب من بيتنا . وما أن وصلت لهناك حتى وجدت المقهى تغص بالرواد على خلاف عادتها ، ولعل ذلك يرجع لمنع التجوال ولسماع الأخبار الجديدة عما جاء به الأنقلاب . ولم أَجِد مكان أجلس عليه ، فقد كان الكثير يقفون وراء الجالسين ، وينظرون إلى التلفاز الذي يبث أناشيد وطنية . وأشعرت بالجوع يقرص معدي . ولأبد أنه لا يزال ثمة وقت كثيرة لنشرة الأخبار ، فالساعة لم تجاوز الثامن مساءً موعد نشرة الأخبار . ولذلك ذهب لبيت . لكي تناول شيء ما ، فلا شك أن موعد العشاء قد فات علي .ولكن شيء عادي أني سأجد طعام معزول لي كالعادة . وجدت الباب مفتوح كما هو في أكثر الأحيان ، فأكثر بيبان مدينتا لا تغلق في مثل هذا الوقت ، فالأطفال في مجئ ورواح .