استراتيجية واشنطن (٣) تغيّر سياسة أميركا وثبات الرئيس - سليم الحسني
استراتيجية واشنطن (٣) تغيّر سياسة أميركا وثبات الرئيس


بقلم: سليم الحسني - 24-01-2017
ما كان بمقدور الولايات المتحدة أن تبقى بقوتها الأسطورية، لو لا تكيفها مع التبدلات والتحولات التي تجري في العالم، ومن ثم سرعة تفاعلها مع التحول الجديد والسعي لاستيعابه أو توجيهه.

فمنذ نهايات القرن الثامن عشر، كانت الولايات المتحدة، قد استكملت بناءها الداخلي كقوة كبيرة في العالم، تمتلك اقتصادها ومواردها الهائلة، وعليها أن تبدأ بعملية التوظيف السياسي لتضمن مستقبلها في خط متعاظم مع مسار الزمن، بدأ في التركيز على العلاقات الاقتصادية الخارجية، ثم تحول الى الجانب السياسي، ثم أخذ المسار العسكري بشكله الغالب على السياسة، وبعد ذلك تمت عملية الدمج بين العسكري والفكري في مسار واحد. وهو ما يجري حالياً.

هذه المسيرة الطويلة من التحولات، كانت تجري بشكل مرن، يستجيب لتحولات العالم وما يشهده من تطورات، وكانت واشنطن سريعة وعميقة في نفس الوقت، في رسم خططها وبرامجها، لكي تكون هي المهيمنة على الأحداث والمؤثرة في النظام الدولي.

وطوال هذا المسار كانت الولايات المتحدة تعتمد الاستراتيجية التي تطبقها على الأرض، لكنها تضع الخطط وتمهد الأجواء لإستراتيجيات قادمة تحتاج احياناً لعدة عقود من الزمن حتى يجري تنفيذها.
...
لقد ظلت تسيطر على الكثيرين فكرة أن أميركا ثابتة، وأن رؤساءها يتغيرون. أميركا ثابتة في سياستها واستراتيجياتها بالتوجه العدواني والرغبة التوسعية بطابعها العسكري وباستغلالها الاقتصادي لثروات الشعوب، وأن رؤساءها حين يتغيرون في الدورات الانتخابية، فانما يستخدمون سياسات جديدة لكنها تبقى تتحرك ضمن الخط العام الثابت للدولة.

تحتاج هذه الرؤية الى بعض التعديل، وذلك بالقول أن الولايات المتحدة قوة مرنة، تجري تعديلاتها على برامجها وسياساتها وطرق تعاملها مع العالم، لكن من طبيعة المرونة والتعديل والتغيير أنها لا تظهر بالشكل الواضح، عندما تتحرك في اطار استراتيجي، وعندما تكون من قبل دولة كبرى، لأنها تتعامل مع حقبة زمنية قد تستغرق عدة عقود من الزمن، حتى يتحقق التغيير الذي تريد إحداثه في المجتمع الدولي أو في جزء منه. وخلال هذه الحقبة، يكون من واجب رؤساء البيت الأبيض أن يبقوا ثابتين على الخط العام الذي تم اعتماده، وإذا ما برز بعض التعديل فانه في القشرة الظاهرة، وليس في العمق الذي يؤثر على الاستراتيجية المحددة خلال الحقبة موضوع العمل.

فمثلاً عندما تبنت واشنطن (مبدأ مونرو) استمر هذا المبدأ هو الأساس في السياسة الأميركية قرابة قرن من الزمن، وكان كل الرؤساء الذين جاءوا في هذه الفترة الطويلة، يلتزمون به في سياساتهم. حتى انتهت الولايات المتحدة من حقبة زمنية، وقررت الدخول في مرحلة جديدة، نتيجة تغير الظروف الدولية.

ففي فترة حكم الرئيس جيمس مونرو، توصلت الإدارة الاميركية أنها يجب أن تبدأ مرحلة جديدة من التأثير على العالم يقوم على أساس تطوير علاقاتها الاقتصادية وعدم إحداث أي أزمة سياسية خارجية، فكان مبدأ مونرو عام ١٨٣٢، والذي ينص (أن الولايات المتحدة لا تتدخل ـ رسمياً ـ في شؤون الدول الأخرى، ولن تسمح لأي دولة بالتدخل في شؤونها). واذا رأت الحكومة الأميركية التدخل فلا بد أن تلجأ الى طرق بعيدة عن المواقف الرسمية. وهو ما كان ثابتاً لا يخرج عنه الرؤساء الأميركان الذين جاءوا تباعاً حتى الحرب العالمية الأولى.

وخلال تلك الفترة الطويلة، رفضت الولايات المتحدة دعم الثورة في اليونان للانفصال عن الدولة العثمانية، لأن ذلك يؤثر على التزامها بالنشاط الاقتصادي الخارجي، فلجأت الى دعم اليونان تحت غطاء المساعدات الانسانية، وقد كانت تلك المساعدات في حقيقتها مالية وعسكرية، وهي التي أسهمت في نجاح انفصال اليونان عن العثمانيين، لكن الغطاء الرسمي بعدم التدخل المكشوف، أبقى علاقاتها الاقتصادية مستمرة مع الدولة العثمانية.

وتكرر نفس الأمر بعد سنين عديدة مع بلغاريا، فقد كان رؤساء الولايات المتحدة ثابتين في التمسك بمبدأ مونرو، أي يرفضون الدعم الرسمي، ويقدمون الدعم المطلوب تحت عناوين إنسانية وتبشيرية وغير ذلك.

ومثال آخر على ذلك، ان الولايات المتحدة عندما تبنت (مبدأ آيزنهاور) في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، والذي يعني استخدام القوة العسكرية لشغل الفراغ الأمني في الدول التي تهم المصالح الأميركية وخصوصاً في الشرق الأوسط، فإن هذا المبدأ ظل معتمداً من قبل عدة رؤساء بعد آيزنهاور، فقد التزم به كينيدي ومن ثم جونسون وعدة سنوات من ولاية نيكسون.

كما نلاحظ أن فترة الحرب الباردة، كانت تشهد تعديلات في السياسة الأميركية، بحيث انتجت عدة أشكال من الاستراتيجيات مثل سياسة الحصر والاحتواء، وتشكيل الاحلاف، لكن الرؤساء كانوا ثابتين في الالتزام بأصول السياسة المرسومة مع تعدد الوجوه الرئاسية.

ويصبح المثل أكثر وضوحاً عندما نتحدث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي تعود بداياته الى أوائل الثمانينات من القرن الماضي، فقد كان تحولاً مهماً في مسار السياسة الأميركية وطريقة تعاملها مع الأمم والدول، لكن الرؤساء الأميركان كانوا يلتزمون بأسسه، فلم يقم أي رئيس منهم بتغييره، إنما كانوا يؤدون مهمة واحدة ثابتة هي التمهيد لهذا المشروع التخريبي الخطير، كما سيأتي الكلام عنه.
لها تتمة



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google