بابل: متى تتبلبل الألسن من جديد؟ - د. ناجح العبيدي
بابل: متى تتبلبل الألسن من جديد؟


بقلم: د. ناجح العبيدي - 25-01-2017
بخلاف أغلبية المواقع السياحية لا تحتاج بابل إلى حملة ترويج لجذب السائحين من مختلف أنحاء العالم. فقد تكفلت الكتب المقدسة للأديان العالمية، اليهودية والمسيحية والإسلام بمهمة "الدعاية" المجانية لهذه المدينة التاريخية دون قصد. صحيح أن حكم التوراة والإنجيل جاء قاسيا بحق أهل بابل الذين نزلت عليهم "لعنة" تبلبل الألسن عقابا على "تحديهم" الرب عبر محاولة بناء برج يصل السماء بحسب الاسطورة . غير أن هذا "العقاب" جعل من إسم بابل معروفا على كل لسان. وأصبحت أسطورة برج بابل موضوعا محببا لمئات وآلاف الأعمال الفنية والأدبية والسينمائية، الأمر الذي أحاط بابل بهالة يمكن أن تجعلها قبلة للزوار من كافة أنحاء العالم. ويمكن ملاحظة ذلك مثلا في متحف بيرغامون (Pergamon) الشهير في برلين الذي يزوره سنويا أكثر من مليوني شخص. هنا تتسابق أغلبية هؤلاء من أجل التمتع برؤية أهم قطعة أثرية فيه، ألا وهي بوابة عشتار التي أشرف عالم الآثار الألماني الشهير روبرت كولدفاي (Robert Koldeway) قبل أكثر من مائة عام على التنقيب عنها ونقلها قطعة قطعة ونصبها وسط برلين. ومن المؤكد أن الكثير من زوار متحف بيرغامون وغيرهم من الناطقين بمختلف اللغات يحلمون بأن يروا بأم أعينهم بابل القديمة، مهد بوابة عشتار والبرج والجنائن المعلقة ومعابد آلهتها ولكي يثبتوا من جديد بأن تعدد اللغات ليس لعنة وإنما دليلا على عالمية المدينة. غير أن بابل التي وصفها مؤرخون بأنها نيويورك العصر القديم حيث انصهرت ثقافات عديدة وعاش أناس من أصول مختلفة جنبا إلى جنب بسلام، تبدو حاليا شبه مهجورة إلّا من عدد بسيط من الحراس ومن موظفي مفتشية الآثار التي لم تجد بناية مناسبة لمقرها سوى المطعم السياحي وسط المدينة الأثرية. وهكذا يبقى الزوار النادرون دون خدمات، بل ولا يجدون حتى مرافق صحية نظيفة في ظاهرة تلخص مأساة بابل التي بدأت في عهد الطاغية صدام حسين واستمرت حتى الآن. وفيما تتواصل معاناة أهل بابل كبقية العراقيين بسبب الأزمة الاقتصادية للبلاد، تبقى الدعوات المتكررة لتنويع مصادر الدخل مجرد أمنيات طيبة.
السياحة كمحرك للتنمية
يواجه الاقتصاد المحلي في محافظة بابل تحديات من نوع خاص. فهي ليست من المحافظات المنتجة للنفط كما هو حال البصرة والناصرية وكركوك. كما أنها لا تستطيع التعويل كثيرا على السياحة الدينية لأن المراقد المقدسة الموجودة فيها مثل القاسم والحمزة وشريفة وعمران بن علي وغيرها لا تملك الأهمية الاقتصادية التي تحتلها محافظتا النجف وكربلاء المجاورتان. لكن القرب الجغرافي من مراقد الأئمة علي والحسين والعباس يجب أن يدفع مسؤولي بابل إلى السعي لجذب الزوار للمرور أيضا بمدينة الحلة أو للإقامة فيها . من جانب آخر ورثت المحافظة من العهد السابق تركة اقتصادية ثقيلة تتمثل في مؤسسات ومصانع القطاع العام في مجال الصناعة العسكرية والنسيج والتمور غيرها. ورغم أن هذا المؤسسات لا تزال تعتبر مصدر رزق للآلاف، إلّا أنه من الواضح أن أغلبيتها تعاني من مشاكل واختلالات هيكلية عميقة تجعل من استمرار الاعتماد عليها خيارا خاطئا. ومن هنا فإن مسؤولي المحافظة مطالبون بالبحث عن بدائل مناسبة لتحسين القدرة التنافسية لها بالمقارنة مع المحافظات الأخرى وجعلها قادرة على جذب الاستثمارات. ويمكن القول عموما بإن ظروف المحافظة تتطلب التركيز على قطاعي السياحة والزراعة (وبما فيها تربية الحيوانات) بالدرجة الأولى، بل و يمكن للسياحة أن تصبح أهم محرك للتنمية في المحافظة من حيث مساهمتها في الناتج المحلي وفي تشغيل الأيدي العاملة. ولا يعني ذلك بالطبع إهمال الفروع الأخرى، لكن المنطق الاقتصادي يفرض إعطاء الأولوية للسياحة الثقافية والطبيعية والترفيهية في الخطط الاقتصادية والاستثمارية باعتباره ثروة لا تنضب. من المؤكد أن أي خطة اقتصادية واعدة لتطوير القطاع السياحي في المحافظة يجب أن تنطلق من آثار بابل دون التقليل من أهمية بقية المواقع الأثرية الهامة مثل برس وكيش والكفل وإمكانيات الاستفادة من السياحة الطبيعية والترفيهية المرتبطة بنهر الفرات وفروعه والمواقع الطبيعية الجميلة المنتشرة في المحافظة. لكن ذلك يبقى مجرد حلم بعيد المنال في ظل غياب الإرادة والكفاءة السياسية على المستويين المحلي والمركزي.
بابل: رمز للعجز والإهمال
من الغريب حقا أن تبقى العاصمة البابلية القديمة ضحية الإهمال (المتعمد أحيانا) والعجز السياسي والإداري رغم أن تحقيق نتائج إيجابية لا يحتاج إلى جهود خارقة أو أموال ضخمة. ويجب القول بوضوح بإن توقف السياحة الداخلية والخارجية فيها هو حقا وصمة عار بحق السلطات المحلية والسياسات الحكومية عموما التي عجزت حتى عن ترميم قصر صدام رغم مضي قرابة 14 عاما على نهبه وتخريبه. من جهة أخرى لا تزال الخلافات بين الحكومة المحلية ووزارة الآثار على تبعية المنتجع السياحي داخل بابل تبدو عصية على الحل وكأنها مشكلة حدود متنازع عليها بين بلدين متخاصمين. ومن المؤكد أن هذا التقصير يلعب دورا سلبيا أكبر من الوضع الأمني الصعب في تأبيد الأوضاع المزرية لقطاع السياحة الثقافية.
من جانب آخر يُفترض أن يشكل نجاح العراق في إدراج آثار الوركاء وأور وعدد من الأهوار على لائحة اليونيسكو للتراث الثقافي والطبيعي الانساني حافزا لتكثيف الجهود لإزالة الضيم الذي لحق بابل ولكي تستعيد مكانها اللائق بين مواقع التراث العالمي. لكن، وكما تثبت تجربة المواقع المذكورة، فإن هذا الخطوة الهامة لا تكفي وحدها للنهوض بالمناطق السياحية. فالكرة تبقى في نهاية المطاف في ملعب السلطات المحلية والمركزية التي يجب أن تدرك أولا أهمية السياحة الثقافية والترفيهية بشقيها الداخلي والخارجي.
لا يتميز القطاع السياحي فقط بسرعة مردود استثماراته فقط، وإنما ايضا بامتداد آثاره الإيجابية إلى قطاعات أخرى. إذ لا تعود القوة الشرائية للسائحين بالنفع على مجالي الفندقة والمطاعم فحسب، بل تشمل أيضا قطاعات النقل والتجارة والصناعات الحرفية وغيرها. ويمكن للسياحة أن تشكل عامل دفع قويا للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يجب أن تكون حجر الزاوية في تطوير الاقتصاد المحلي. أما الميزة الأكبر فتتثمل في قدرته على خلق فرص عمل كثيرة وبكلفة قليلة نسبيا، الأمر الذي يجعله من أفضل السبل في مكافحة البطالة. فالجزء الأكبر من الخدمات السياحية يعتمد بالدرجة الأولى على العمل اليدوي ولا يتطلب في نفس الوقت رأسمالا كبيرا. ومن دون شك فإن انتعاش الصناعة السياحية يقدم وصفة ناجعة لتطوير المناطق ذات الهياكل الاقتصادية الضعيفة كما هو حال محافظة بابل. أما على مستوى الاقتصاد الوطني فيمكن لقطاع السياحة أن يساهم في تصحيح الاختلالات في ميزان المدفوعات للبلاد وتوفير مصدر جديد هام للعملات الصعبة. كل ذلك يجب أن يكون كافيا لكي تقتنع السلطات المحلية في بابل والسلطات المركزية في بغداد بالأهمية الفائقة لتشجيع وتأهيل السياحة الثقافية والترفيهية لكي تصبح إلى جانب السياحة الدينية القدم الثانية التي يقف عليها هذا القطاع الواعد.
بيد أن كل ذلك لن يثمر عن نتائج ملموسة في جذب السائحين الأجانب الذي يتطلب أيضا تغييرات اجتماعية، وفي مقدمتها وجود استعداد للانفتاح على الآخرين وتقبل ثقافاتهم، كما فعل البابليون القدامى مع الوافدين إلى عاصمتهم من مختلف أصقاع العالم. هذه الصفة بالذات ورثها أحفاد البابليين من أبناء قرى الجمجمة وبرنون وعنانة وسنجار ومدينة الحلة القريبة الذين أثبتوا دائما قدرتهم على التعامل مع الأجانب والترحيب بهم وتعلم لغاتهم. وكل ذلك يبشر بأن تبلبل الألسن في بابل قادم مرة أخرى لا محالة.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google