العجز المالي والفشل السياسي - د. ناجح العبيدي
العجز المالي والفشل السياسي


بقلم: د. ناجح العبيدي - 27-02-2017
توصل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى حل سحري لمشكلة العجز المتراكم في ميزانية الدولة العراقية. يرى العبادي في تصريحات له في 21 شابط/فبراير "أن العراق بحاجة إلى أن تبلغ أسعار النفط 60 دولارا للبرميل من أجل سد عجز الميزانية العامة". هذا ما يتمناه أيضا المواطن العراقي، ولكن بلوغ هذا الهدف ليس بهذه البساطة التي يوحي بها كلام رئيس الحكومة. من الناحية الحسابية على الأقل لا غبار على تصريح العبادي وتمنياته. فلو أُخذ سعر 60 دولارا للبرميل بدلا من 42 دولارا الذي تم افتراضه كأساس لاحتساب إيرادات ميزاينة عام 2017، لما كان هناك عجز مالي ولا كان العراق بحاجة للاستدانة محليا أو خارجيا. بيد أن سعر النفط مؤشر معقد يخضع لعوامل متعددة ويؤثر فيه لاعبون كثيرون ليس العراق سوى أحدهم. صحيح أن سعر الذهب الأسود سجل في نهاية العام الماضي قفزة كبيرة قاربت 20 في المائة إثر اتفاق الدول المنتجة الرئيسية داخل الأوبك وروسيا على خفض معدلات الإنتاج، ولكن التعويل على ارتفاع النفط في حل مشكلة العجز ينطوي على قدر كبير من المخاطرة، ولا يتعامل مع الأسباب الحقيقية لهذه المشكلة التي تهدد بالتحول إلى ظاهرة مزمنة.
مع انهيار أسعار النفط في منتصف عام 2014 تعرض الاقتصاد العراقي لانتكاسة خطيرة، وبدأت منذ ذلك الحين الميزانية العامة للدولة بتسجيل عجز كبير الأمر الذي سلط الضوء من جديد على مخاطر الاعتماد الوحيد الجانب على صادرات الطاقة. بموجب بيانات الموازنة لعام 2017 التي أقرها مجلس النواب قبل ثلاثة أشهر فإن الفارق المتوقع بين النفقات والإيرادات الحكومية في العام الحالي سيصل إلى قرابة 20 مليار دولار أي ما يزيد عن 20% من حجم الميزانية. وهو رقم كبير بكل المقاييس ويعبر عن اختلال هيكلي في النظام المالي للبلاد. صحيح أن المستويات الحالية لأسعار النفط التي تحوم حول 55 دولارا للبرميل عززت الآمال بأن يكون العجز الفعلي أقل بكثير من التقديري. لكن من الواضح أن العراق دخل في دوامة أزمة مالية خانقة ليس العجز سوى أحد مظاهرها. من أهم مؤشرات هذه الأزمة هو الارتفاع السريع في المديونية الداخلية والخارجية. ومع أن الحكومة ووزارة المالية نجحتا في الحصول على قروض خارجية بشروط ميسرة، وخاصة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والولايات المتحدة وألمانيا، إلا أن أعباء هذه الديون ستثقل كاهل العراق لاحقا. من جهة أخرى يسجل الدين العام الداخلي قفزات كبيرة تغذي المخاوف من خروجه عن نطاق السيطرة ومن دخول العراق مجددا في موجة تضخم جامح ستكون لها تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة.
غير أن المشكلة الأكبر تتمثل في أن الأزمة المالية جاءت على حساب النفقات الاستثمارية بالدرجة الأولى. لا يحتاج المراقب لمعرفة أبعاد هذه المشكلة سوى أن يتجول في المدن العراقية حيث سيلاحظ تعطل العشرات والمئات من مشاريع النية التحتية رغم أن بعضها قد أوشك على الانتهاء. هذا الواقع المحزن يعني هدرا يمكن رؤيته بالعين المجرد للمال العام وضياعا لفرص التنمية. من جانب آخر شكّل توقف الاستثمارات الحكومية ضربة قاصمة للقطاع الخاص الذي لم يخرج بعد من تحت عباءة الإنفاق الحكومي. وتشير آخر بيانات وزارة المالية بشأن تنفيذ موازنة عام 2016 إلى ان الاستثمارات الحكومية تكاد تقتصر فعليا على القطاع النفطي وحده. ولا يستبعد أن هذه الأموال أو جزءا منها أنفقت لتسديد إلتزامات مالية قديمة تجاه شركات النفط الأجنبية وليس لتمويل مشاريع جديدة. في المقابل خرجت قطاعات الصناعة والزراعة والبناء والخدمات خالية الوفاض. وهذا ما يُفسراستمرار حالة الركود والانكماش التي يعاني منها الاقتصاد العراقي في السنوات الأخيرة. من المؤكد أن الأعباء المالية الاستثنائية للحرب على الإرهاب ونزوح مئات الآلاف من العرقيين أربكت الخطط الاقتصادية والمالية للحكومة، ولكن هذا العامل لا يبرر التلكؤ الواضح في ملف الإصلاحات الاقتصادية.
لقد بدأ حيدر العبادي فترة حكمه بالإعلان عن حزمة واسعة من الإصلاحات نالت دعما شعبيا وكذلك من قبل الخبراء الاقتصاديين. غير أنه سرعان ما ضاع هذه الملف وسط دهاليز البيرقراطية والفساد والصراعات الحزبية غير المبدئية. بل وتم التراجع عن خطوات رمزية هامة على طريق مكافحة الهدر غير المسبوق للمال العام، ومنها مثلا إعادة نواب رئيس الجمهورية الثلاثة إلى مناصبهم، ومعهم بالطبع جيش الحماية والموظفين والمستشارين وأصحاب الدرجات الخاصة. من المؤكد أن عودة الفرسان الثلاثة إلى كراسيهم الوثيرة لن يضيف كثيرا إلى الأزمة المالية المستفحلة، ولكن التراجع عن إقالتهم كشف عن ضعف التحضيرات القانونية والإدارية والتنظيمية لبرنامج الإصلاحات الحكومية.
أما الطامة الكبرى فتكمن في بقاء معظم الإجراءات الواردة في حزمة الإصلاحات حبرا على ورق. وينطبق هذا بشكل خاص على محوري الإصلاح المالي والإصلاح الاقتصادي وكذلك محور مكافحة الفساد. فعلى الرغم من مضي أكثر من عام ونصف على إطلاق العبادي لحزمة الإصلاحات لم تُنفذ خطوات ملموسة وفعالة على طريق "معالجة التهرب الضريبي وتوسيع الوعاء الضريبي وتفعيل التعرفة الجمركية في جميع المنافذ ومراجعة الرواتب التقاعدية للمسؤولين". صحيح أن السيد سعد الحديثي المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء أكد مؤخرا أن تحسين إجراءات مراقبة المنافذ الحدودية ساهم في تحقيق قفزة كبيرة في العائدات الجمركية لتصل إلى نحو 24 مليار دينار (20 مليون دولار) خلال الشهر الأخير من العام الماضي. لكن من الواضح أن هذا الرقم يبقى متواضعا مقارنة بقيمة البضائع المستوردة خلال شهر كامل والتي تصل إلى مليارات الدولارات. ولم تُظهر الحكومة أية جدية في تطبيق الخطط الرامية إلى تطوير النظام الضريبي وتحسين طرق الجباية باعتبارها أهم وسيلة لتقليص درجة الاعتماد على الريع النفطي. كما بقيت خطط "تفعيل حركة الاستثمار وتنشيط القطاع الخاص" مجرد تمنيات طيبة.
لو نجحت الحكومة بتنفيذ خطوات ملموسة على طريق تطبيق الإصلاحات المنشودة، لن يحتاج العبادي "للحلم" بارتفاع سعر النفط إلى 60 دولارا أو أكثر، وسينجح الاقتصاد العراقي في التكيّف مع الصدمات الخارجية باقل الخسائر. حينها ستوفر أي زيادة في عائدات الذهب الأسود دعما إضافيا للاقتصاد العراقي وفرصة لتحسين حياة الجيل الحالي ولضمان مستقبل الأجيال القادمة من العراقيين.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google