فلسفة القيم ضرورة انسانية ...مقدمة تحليلية لكتاب فلسفة القيم للباحث الجزائري الأستاذ الدكتور موسى معيرش - د. إبراهيم العاتي
فلسفة القيم ضرورة انسانية ...مقدمة تحليلية لكتاب فلسفة القيم للباحث الجزائري الأستاذ الدكتور موسى معيرش


بقلم: د. إبراهيم العاتي - 01-04-2017
 الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية (لندن)

في زحمة الصراعات السياسية والدينية والاجتماعية التي تطبع العالم بطابعها منذ القرن الماضي وحتى يومنا هذا، فتحيله الى كتل متناحرة، ودول متصارعة، تسيل دماء أبنائها على مذابح أنانياتها وأطماعها، يبرز موضوع القيم كحل ومنهج للخلاص من طريق الدموع والالام الذي شقته الدول الاستعمارية الكبرى، وعبّدته بجماجم ضحاياها من ابناء الشعوب المستعمَرة!...ذلك أن القيم لصيقة بالإنسان من حيث هو إنسان، فهو الوحيد، من بين جميع الكائنات في عالمنا هذا، الذي يستطيع أن يبني نظاماً للقيم الشاملة التي ترسم للإنسان سلوكه القويم وأفعاله الجميلة، وتعرفه بمواطن الخطأ والصواب، والحق والخير والجمال. 
 وعلى الرغم من أن موضوع القيم هو أحد فروع الفلسفة المعروفة (بفلسفة القيم)، فإنه لضرورته وشيوعه صار يبحثه الخاص والعام، وتخوض فيه شرائح المجتمع المختلفة، كالخطيب على منبره، والإعلامي في مختلف مجالاته، والمعلم في مدرسته، وغيرهم، وهذا دليل على شيوعه وقربه من عامة الناس وليس النخب المتخصصة وحسب!..غير أن المعالجة العلمية الدقيقة للموضوع تمت في الإطار الفلسفي بشكل رئيس، ولعلماء الاجتماع والاقتصاد جهد منظور في هذا الشأن.
 والقيم عند الفلاسفة هي إما صفات عينية كامنة في طبيعة القضايا المعرفية والأفعال الخُلقية والاعمال الفنية، وهذا يعني أن القيم ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال، وهو موقف الفلاسفة المثاليين، أوانها صفات يخلعها العقل على الأقوال والأفعال والأشياء، طبقاً للظروف والملابسات ولذا فهي تختلف باختلاف من يصدر الحكم، وهذا هو رأي الفلاسفة الحسيين والوضعيين والبرجماتيين وغيرهم. وقد ترتب على ذلك أن القيم مطلقة عند العقليين ونسبية عند الحسيين وأمثالهم. وتلك من اهم المشكلات التي طبعت البحث في فلسفة القيم في العصر الحديث، وهي القيم بين الاطلاق والنسبية.
 وعلى الرغم من الاهتمام الذي أولاه الرواد الأوائل لهذا العلم في العالم العربي، وبخاصة استاذنا الدكتور عادل العوا الذي كتب العديد من المؤلفات الهامة في فلسفة القيم، فإن الحاجة تبقى ملحة للمزيد من الأعمال الفكرية الشاملة في هذا المضمار. وهو ما يقوم به تلميذنا العزيز الدكتور موسى معيرش في كتابه هذا، والذي يبحث في جزئه الأول عن (فلسفة القيم: ماهيتها وطبيعتها)، فيخصص الفصل الأول لمفهوم القيم ويستعرض تعريفاته المختلفة، بينما يعالج في الفصل الثاني علاقة القيم بالعلوم الانسانية، ثم يخصص الفصل الاخير لبحث مشكلة القيم بين النسبية والاطلاق، وهي، كما ذكرنا، من المشكلات التي كانت لها تداعيات خطيرة في هذا القرن على مواقف الأديان والايديولوجيات والفلسفات الكبرى ذات البعد الأخلاقي والقيمي بإزاء التيارات والمذاهب المادية التي تعتبر نظام القيم تابعا لتغير الظروف والملابسات الشخصية والاجتماعية، مما ينفي عنها طابع القداسة والإلزام الذي يخلعه عليه الدين.
 والإضافة التي تتميز بها دراسة الدكتور موسى هو عدم اقتصاره على بحث موضوع القيم في نطاق ما قدمه الفلاسفة، وخاصة في المرحلة الحديثة والمعاصرة، وإنما بحثها ايضا في نطاق الاديان: سماوية كانت أم وضعية، لكنه خص الإسلام بمقاربة جيدة من خلال تعريف القيم ومفهومها في القرآن الكريم والسنة النبوية أو تحليل موقف بعض الفرق الكلامية كالأشاعرة والمعتزلة، وخاصة موقفهما من مسألة الحسن والقبح العقليين التي قال بها الشيعة الامامية والمعتزلة ورفضها الاشاعرة. فأولئك يرون أن الانسان منذ بدأ يعي ويدرك ويتحضر، حتى قبل نزول الأديان، فإنه يؤمن ببعض القيم النبيلة كالعدل والصدق وبر الوالدين ويرفض نقيضها كالظلم والكذب والعقوق، وجاءت الأديان لتؤكد على تلك القيم وتدخلها في الانساق التشريعية الخاصة بالتحليل والتحريم، بينما يرى الأشاعرة أن الفعل الإنساني لا يكون حسنا إلا إذا حسّنه الشرع ولا قبيحاً إلا اذا قبحه الشرع، فليس للأفعال خصائص ذاتية تجعل منها قبيحة أو حسنة، فالكذب –في رأيهم- قد يكون مستهجناً ومرفوضا في مواطن كثيرة وقد يكون مطلوبا إذا كان لإصلاح ذات البين!!..وهكذا فليست للقيم خصائص قائمة بذاتها تجعلها خيرة أو شريرة وإنما الشرع يجعل منها بهذه الصورة او تلك!.. ولكن متى سمعنا أن الإسلام مثلا حلل الظلم وأنكر العدل، أو رفض الصدق وحث على الكذب؟! ألم تلقب قريش في الجاهلية نبينا المصطفى (ص) بالصادق الأمين؟! هذه مسائل عميقة كنت اتمنى على الباحث ان يتوسع في شرحها وتحليلها.
 وإذ تعود بي الذاكرة الى سنين خَلَت في اواسط الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كنت استاذا في قسم الفلسفة بجامعة قسنطينة في الجزائر، وكان الدكتور موسى، مع نخبة من أقرانه، أحد تلامذتي الذين اعتز بهم، وأتوقع لهم مستقبلاً زاهراً، وهو ما حصل بالفعل، فأعماله الفكرية ونشاطاته الأكاديمية تؤكد ذلك. واعتقد أن هذا الكتاب سوف يسد فراغا ويضيف جديداً للمكتبة العربية.
والحقيقة أن الجزائر شهدت منذ احتلالها عام 18300م امتحانا رهيبا للقيم التي نادى بها فلاسفة الغرب عموماً وفلاسفة التنوير خصوصاً، أمثال روسو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم ممن اعتبروا الآباء الروحيين للثورة الفرنسية. فقد سقطت قيم الحرية والعدالة والمساواة التي نادت بها تلك الثورة على مذبح الجرائم الكبرى التي ارتكبتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة طيلة احتلالها للأرض الجزائرية، وحتى رحيلها بعد ثورة نوفمبر الخالدة التي توجت انتصارها الكبير بهزيمة جيش الاحتلال عام 1962. فهل يتقدم العرب والمسلمون بمشروعهم القيمي الذي يستلهم روح الإسلام ورسالته السمحاء أم أنهم سيفشلون في هذا الاختبار كما فشل غيرهم؟!



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google