الفساد وضعف الدولة يهدّدان سيادة القانون: الشرطة العراقية تخسر هيبتها لصالح التشكيلات المسلحة

سارع جعفر العبودي إلى احد مكاتب الفصائل المسلحة التابعة الى “الحشد الشعبي” في منطقته “الشعلة” شرق بغداد، لحل مشكلة مع احد جيرانه بعدما كسر ابنه يد ابن جاره خلال مشاجرة داخل احد المقاهي الشبابية مستبقا جاره الذي كان يسعى لتطبيق القانون العشائري والمطالبة بدفع “الدية”، وهو مبلغ مالي تعويضا عن الأذى الذي تعرض له خلال المشاجرة.

تدخل مسؤول مكتب “الحشد الشعبي” بين منزل جعفر العبودي وجاره لحل المشكلة بعيدا عن مركز الشرطة، وفعلا نجحت الوساطة وتصالح الجاران في جلسة ودية تبادل فيها الشابان اليافعان الأحضان بعد اعتذار المعتدي وتعهّد والده بتحمّل مصاريف علاج ابن جاره، ولكن الشاب المعتدى عليه رفض قبول ذلك إكراماً لمسؤول “الحشد الشعبي”.

اختار جعفر العبودي مكتب “الحشد الشعبي” لحل مشكلته مع جيرانه بدلا من الذهاب الى مركز الشرطة، والسبب كما يقول لـ “نقاش”: “انهم مرتشون وفاسدون، كان من المؤكد ان يقضي ابني أياما في السجن قبل ان تحل المشكلة، انهم يسعون وراء هذه القضايا لكسب المال لا لتطبيق القانون”.

اما عباس الساعدي مسؤول مكتب الفصيل المسلح في المنطقة فيقول لـ “نقاش”: “نحن لا نتدخل في عمل الشرطة ولكن السكان يأتون إلينا طلبا لحل مشكلاتهم هربا من فساد ضباط الشرطة كما يقولون، نتلقى أسبوعيا العديد من الاهالي الذين يطلبون حل مشكلاتهم، حتى ان بعضها مع ضباط الشرطة أنفسهم”.

ويقول الساعدي أيضاً: “قبل ايام شكا لنا صاحب مطعم في منطقة الكرادة وسط بغداد تدخل الضابط المسؤول في المنطقة في عمله عبر إجباره على دفع أموال ووجبات طعام مجانية، وتدخلنا لوقف ذلك.. برغم فشل الشرطة في فرض الامن يقومون باخذ الرشاوى من المحال والأسواق التجارية، الفساد ينخر في جهاز الشرطة والحكومة تعلم ذلك جيدا”.

وتمتلك الفصائل المسلحة الشيعية المنضوية في قوات “الحشد الشعبي” مكاتب منتشرة في غالبية الأحياء، ليس في بغداد فحسب بل في جميع المحافظات، وتقوم بمهام أمنية بعضها مباشرة عبر مساعدة الشرطة المحلية وبعضها غير مباشر عبر مخبرين لهم ينتشرون في ملابس عادية في الأسواق والتجمعات السكانية.

وساهمت الانتصارات التي حققتها قوات “الحشد الشعبي” ضد “داعش” خلال العامين الماضيين من تزايد شعبيتها لدى السكان خصوصا بين الشباب إذ تطوع آلاف منهم من العاطلين عن العمل إلى قوات الحشد دون الحاجة إلى دفع مبالغ مالية او وساطة، في وقت تحتاج الوظيفة في الشرطة والجيش إلى رشاوى مالية.

كما أن فشل قوات الجيش والشرطة المنتشرة داخل المدن المستقرة خصوصا في العاصمة في منع التفجيرات الإرهابية زادت من الانتقادات الموجهة إلى القوات الرسمية، فمنذ مطلع العام الجديد قتل وأصيب اكثر من (300) شخص في البلاد بسلسلة تفجيرات انتحارية استهدفت مناطق سكنية ومراكز تجارية.

وبعد ايام على التفجيرات التي ضربت مدينة الصدر الضاحية الشرقية لبغداد، نظم العشرات من ذوي الضحايا اعتصاما في ساحة التحرير وسط بغداد، ونصبوا الخيم للمبيت فيها احتجاجا على التفجيرات، ولكن قوات الشرطة فرّقت المعتصمين عبر القنابل المسيلة للدموع ودمرت خيمهم.

انتقادات لخطط الحكومة الأمنية

يدار الملف الأمني في بغداد منذ عام 2006 من قبل قيادة أمنية عليا تسمى “قيادة عمليات بغداد” وتضم قوات مشتركة من الجيش والشرطة الاتحادية والشرطة المحلية وأجهزة المخابرات، ويبلغ عددها نحو (70) الف عنصر امني وتكون تحت إمرة ضابط عسكري واحد يكون المسؤول عن امن العاصمة.

ولكن هذه الخطة بدأت تنال وابلا من الانتقادات الشعبية وحتى الرسمية، محمد البياتي القيادي في قوات “بدر” احد تشكيلات “الحشد الشعبي”، اتهم الأسبوع الماضي القوات الأمنية في العاصمة باختراقها من قبل الاعداء، في اشارة الى الإرهابيين، وقال في بيان رسمي ان “قيادة عمليات بغداد غير دستورية، وطالب الحكومة ورئيس الوزراء حيدر العبادي “بإعادة النظر بأمن بغداد وإشراك الحشد الشعبي بحماية بغداد في الخط الأول والثاني”.

هذه الاتهامات ليست الاولى التي يطلقها قادة في “الحشد الشعبي” ضد قوات الشرطة ولن تكون الاخيرة، ففي ايلول (سبتمبر) من العام الماضي، أعلنت قوات “النجباء” التابعة إلى “الحشد الشعبي” في بيان رسمي ان “قواتها اشتبكت بالسلاح ضد قوات الشرطة في منطقة الزعفرانية جنوب بغداد من اجل اعتقال مجموعة من عناصر الشرطة متواطئة مع تنظيم “داعش”، ولكن جهاز الشرطة نفى هذه التهمة.

في المقابل تواجه الشرطة صعوبة في تنفيذ واجباتها مع وجود فصائل مسلحة تنتشر داخل الأحياء وتمنعهم من تنفيذ القانون، فالضباط المنتشرون في مراكز الشرطة المناطقية مجبرون على التعامل والتعاون مع مسؤولي مكاتب “الحشد الشعبي” في الرقعة الجغرافية الواقعة ضمن اختصاص عملهم، وفقا للضابط اسعد الطائي.

الطائي هو ضابط برتبة نقيب يعمل في احد مراكز الشرطة في جانب الكرخ من بغداد، يقول لـ “نقاش” ان “مركز الشرطة مجبر على التنسيق الأمني مع مكاتب الحشد الشعبي في المنطقة، ولا يستطيع مدير المركز العمل دون ذلك، ولهذا لا نعمل بحرية كاملة”.

ويضطر ضباط الشرطة أحياناً التعامل مع اكثر من فصيل مسلح في المنطقة، كما يقول الطائي، “اذ ان بعض المناطق تضم مكاتب لفصائل مسلحة متعددة ولا نستطيع محاسبة الخروقات التي يقومون بها، فمثلا انهم يتجولون في عجلات لا تحوي على أرقام او زجاج سياراتهم معتم، ويظهرون لنا هويات خاصة يسهل تزويرها، وفي الواقع لا يستطيع عناصر الشرطة في نقاط التفتيش إيقافهم ومحاسبتهم”.

وفي بعض الأحيان تندلع اشتباكات بين الفصائل المسلحة داخل المناطق، بينما تضطر قوات الشرطة الى التزام الحياد وعدم التحرك لوقفها، في مؤشر واضح إلى تراجع سلطتها في فرض القانون.

ويخلق تعدد التشكيلات الامنية فوضى مقلقة داخل العاصمة، وينتقد السكان كيف تجري عمليات سرقة واختطاف في وضح النهار ويتساءلون كيف تمكن الخاطفون من تجاوز العشرات من نقاط التفتيش بسهولة، وغالبا ما تشير نتائج التحقيقات الى امتلاكهم هويات مزورة تابعة الى جهات أمنية عليا او “الحشد الشعبي”.

في الثاني من الشهر الحالي اعلن القضاء العراقي سجن امرأة لخمس سنوات بعد ادانتها بانتحال صفة ضابط برتبة عميد في “الحشد الشعبي”، كما عُثر على (14) هوية أمنية مزورة مع المتهمة عند إلقاء القبض عليها بينها واحدة على انها صادرة عن رئاسة الوزراء، وهذا نموذج من عشرات حول الفوضى الأمنية المنتشرة في البلاد.

وبرغم ان قادة “الحشد الشعبي” يؤكدون التزامهم بالقوانين، الا ان الكوادر الفرعية المنتشرة داخل المناطق يصعب مراقبتها، وبدأت تكتسب نفوذا اجتماعا وامنياً، وكثيرا ما تتجاهل القوانين وتتعامل بطريقة سلبية مع قوات الجيش والشرطة.

في السابع من الشهر الماضي قال زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي يمتلك فصيلا مسلحا باسم “سرايا السلام”، ان على “الجميع احترام القوات الامنية الموجودين في نقاط التفتيش، ليس من حق أحد على الإطلاق الاعتداء عليهم ولو باستعمال عنوان الحشد”.

ولا تقتصر المشكلة على المحافظات الشيعية، بل تشمل المحافظات السنية ايضاً، اذ تراجعت قوة الجهاز الشرطي فيها مقابل تصاعد نفوذ تشكيلات عشائرية مسلحة اصبحت هي المسيطرة على الأمن داخل الأحياء في الأنبار وصلاح الدين.

في مدينة الرمادي مركز الانبار، يشارك ماجد الذيابي مع عدد من زملائه في حفظ الامن عند الضواحي الشمالية للمدينة الى جانب قوات الجيش والشرطة، اذ ان دور مقاتلي العشائر في الامن بات ضروريا لضعف قوات الشرطة وقلة عددها.

ويقول الذيابي لـ “نقاش” ان “الأهالي يشتكون لنا من فساد الشرطة الذين يرفضون اعتقال متورطين مع الارهابيين، اما نحن فنقوم باعتقال المتورطين دون اكتراث بقوانين الشرطة، الاهم الآن سلامة السكان واعتقال الإرهابيين بدلا من الالتزام بقوانين بيروقراطية ينفذها ضباط فاسدون”.

في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وافق البرلمان على قانون “الحشد الشعبي” الذي تضمن ثلاث مواد قانونية فقط لا توضح بشكل تفصيلي طبيعة المهام الامنية لهذه القوات، القانون يؤكد على ان الحشد قوة امنية رسمية لكنه لا يفسر هل هي قوات عسكرية مشابهة لقوات الجيش تختص بالقتال في الجبهات، ام هي قوات شرطوية تختص بحفظ الامن داخل المدن؟.

في المحصلة فان وظيفة الجهاز الشرطي في العراق في خطر، وعلى الحكومة والبرلمان اتخاذ خطوات سريعة لمعاجلة المشكلة عبر القضاء على الفساد واصدار قوانين تنظم عمل الفصائل المسلحة الجديدة، واقناع قادة الفصائل المسلحة بالغاء مكاتبها المنتشرة داخل الاحياء لانها تشكل سلطة منافسة لمراكز الشرطة المحلية.

مصطفى حبيب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here