علاقة العراق بأمريكا بين الممكن والدمار الشامل

د.عبدالخالق حسين

في مقالي السابق بعنوان🙁 حول إستراتيجية أمريكا، ثانية)(1)، ناقشت فيه إستراتيجية أمريكا الثابتة، والتي من بينها عدم السماح لبروز دولة عظمى أخرى تنافسها في النفوذ. والدولة المرشحة الآن لتنافس أمريكا هي روسيا. كذلك عدم السماح لأية دولة غير صديقة لأمريكا وإسرائيل بامتلاك سلاح الدمار الشامل. وما الحرب في سوريا إلا حرب بالوكالة بين روسيا وأمريكا، ولكن بدماء الشعب السوري وحلفائه.

أما العراق، وكما ذكرنا مراراً، فهو في وضع لا يحسد عليه، حيث تكالبت عليه قوى الشر والعدوان في الداخل والخارج. وهو في هذه الحالة من التمزق، يطالب البعض الحكومة العراقية بتحدي أمريكا ومعاداتها، وتبني سياسة مشابهة لسياسة إيران وكوريا الشمالية، وشعارهم هو(الموت واقفاً على قدميك خير من الحياة جاثياً على ركبتيك)، يعني (شيِّم البدوي وخذ عباته)، ثم أدفعه إلى الهاوية، وكأن ليس أمام العراقيين سوى هذا التطرف، ومشاكسة الدولة العظمى، فإما الانبطاح، أو الانتحار الجماعي. نسي هؤلاء أن النظامين، الإيراني والكوري الشمالي، هما نظامان شموليان، وحكم الحزب الواحد، وشعباهما غير منقسمين إلى فئات متناحرة، وليس فيهما من يقوم بأدوار تخريبية مثل مقتدى الصدر، أو أياد علاوي، أو الأخوين النجيفي، أو الخنجر أو بارزاني، ولا داعش وإلى آخر القائمة، بل في العراق نظام ديمقراطي ليبرالي أكثر من اللازم، وشعبه منقسم على نفسه إلى مكونات دينية وطائفية وعرقية، ومئات الكيانات السياسية المتناحرة، وكل منها مستعد للتعاون مع الشيطان لإلحاق الهزيمة بمنافسيه، ومحاط بدول تتربص به شراً.

يجب أن يعرف دعاة معاداة أمريكا أن إسرائيل تبذل كل ما في وسعها لتحريض أمريكا ضد العرب والمسلمين وتشويه صورتهم في العالم، كما وتسعى إسرائيل والسعودية في تحريض أمريكا لمعاداة العراق وتفتيته إلى دويلات متحاربة يسهل ابتلاعها من قبل دول الجوار.

يمارس دعاة إبعاد العراق عن أمريكا مختلف الوسائل وأقوال حق يراد بها باطل لتحقيق أغراضهم الشريرة. فيعود البعض منهم إلى تاريخ أمريكا في مرحلة الحرب الباردة، ودورها المخرب في الإطاحة بثورة 14 تموز المجيدة، وتصفية قيادتها الوطنية النزيهة. وغرضهم ليس الانتقام من أمريكا والثأر لتموز كما يتظاهرون، بل العكس هو الصحيح، فأغلب هؤلاء هم طائفيون ومن خلفيات بعثية، ساهموا بالتآمر على تموز، من أمثال سعد البزاز وغيره، ولهم الآن لوبيات ناشطة في واشنطن، يلعقون أقدام الأمريكان وإسرائيل، من أجل إعادتهم للسلطة كما كانوا قبل 2003.(شاهد الفيديو في الهامش رقم 2).

والسؤال هنا، هل أمريكا وحدها ساهمت في الإطاحة بثورة تموز؟ لقد اشترك في التآمر على الثورة الوطنية أكثر من أربعين جهة، وكل منها لها غايتها الخاصة بها، من سيد محسن الحكيم، إلى عبدالناصر وكميل شمعون وعجيل الياور شيخ شمر، وبارزاني، وعشرات القوى السياسية والإقطاعية الرجعية، وحكومات ومخابرات إقليمية ودولية. فلماذا التركيز على أمريكا وحدها بعد مرور أكثر من نصف قرن، وما حصل من تغيير هائل في العلاقات الدولية في العالم بفعل الزمن؟

والجدير بالذكر أنه قبل سقوط البعث كان هؤلاء يحذروننا من أمريكا، وغرضهم الحقيقي هو إبقاء نظام البعث الصدامي على رقاب العراقيين لعقود أخرى. وتحذيرهم اليوم من أمريكا هو لإبقاء الدواعش يعيثون في الأرض فساداً، فكما لداعش جناحها السياسي في السلطة، كذلك لها كتابها يظهرون بشتى المظاهر، يتاجرون بالكرامة والسيادة الوطنية وبدماء الجماهير في الداخل، وهم يرفلون بالأمان والنعيم في الدول الغربية. وهؤلاء من انتماءات مختلفة: بعثيون وطائفيون وأشباههم لاستعادة فردوس حكمهم المفقود وشعارهم: (إيران برة برة، بغداد صارت حرة)، وفئة المتأثرين بإيران ومازالوا يرددون شعارهم المحبب (الموت لأمريكا وإسرائيل)، ويساريون صارت عندهم معاداة الغرب وخاصة أمريكا جزءً من سايكولوجيتهم وأيديولوجيتهم السياسية. والمفارقة أن أمنية جميع هؤلاء العيش في أمريكا والدول الغربية الكافرة، ويتبادلون التهاني عندما يحصلون على جنسية دولة غربية. ولكن إذا ما حاولت أمريكا وحلفاؤها مساعدة الشعب العراقي في خلاصه من نظام العهر والقذارة والاستبداد، ودواعشهم، رفعوا عقيرتهم صاريخين: وامعتصماه، و اكرامتاه، يا عالم إنها إهانة للسيادة الوطنية !!! فالكرامة والسيادة الوطنية عندهم مفقودة إلا بحكم البعث، أو احتلال داعش لثلث مساحة العراق، وهتك العرض وسلب الأرض.

نقول لهؤلاء، شكراً لكم على حرصكم على الكرامة والسيادة الوطنية، ونحن نعرف ماضي أمريكا وحاضرها جيداً، ولكن هذا لا يعني عدم الاستفادة منها سواءً في دورها بالإطاحة بنظام صدام حسين الذي جلبته أمريكا نفسها قبل أكثر من نصف قرن، أو الاستفادة منها الآن لسحق داعش، حتى و لو كانت أمريكا عدوة لنا في السابق، فالحكمة تفيد (أضرب العدو بيد عدو آخر). علماً بأن ليس في السياسة عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، بل مصالح دائمة. لذلك نؤكد أن مساعي دعاة حرمان العراق من الدعم الأمريكي تحت مختلف الذرائع، ليست بريئة وإنما خدمة لداعش وبقية أعداء العراق.

وقد بلغ الغلو في أحد هؤلاء (لا أريد ذكر اسمه، لأن من أمنياته أن أهبط إلى مستواه في مهاترات عقيمة لا تليق بي ولا أريد أن أحقق له ذلك)، بلغ به الحقد إلى حد أنه راح يتهمجَّم عليَّ شخصياً بمناسبة أو بدونها، سواءً في هذياناته المسعورة التي يسميها مقالات، أو ضمن مجموعات النقاش، وبأسلوب شوارعي ساقط، فكتب مرة يقول: “الدكتور عبد الخالق حسين من ابشع الكتاب في ترويجهم للاحتلال..”(كذا)، وفي مكان آخر قال: (ان التدمير الذي قام به عبدالخالق حسين لا يقارن إلا بقيادات داعش او ربما يزيد على اي منها).

يقول نابليون: “لا تنبه عدوك على أخطائه، بل دعه يخطأ حتى يتعفن، وعندئذ احمل عليه بالضربة القاضية“. في الحقيقة هذا الموتور السخيف لا يحتاج مني إلى ضربة قاضية، إذ هو نفسه أصر على التعفن إلى حد التفسخ والسقوط في القاع. فقد بلغ به الحقد حداً في رده على أحد محاوريه الذي استهجن هذه المقارنة الفجة، قائلاً: من الصعب حقا ان نقيس ايهما اكثر تدميرا للعراق، قائد في الحشد أم عبد الخالق حسين، لكن هذا يعتمد على رؤيتنا لما يحدث“. وقد استغرب محاوره من هذا الرد الحاقد على الحشد الشعبي، ووصفه بأنه خارج عن إجماع الشعب، ولكن في نفس الوقت مد له حبل النجاة، بإيجاد عذر له لإخراجه من مأزقه قائلاً: “ربما كان كلامك هذا ناتج عن خطأ مطبعي غير مقصود.” فسارع الموتور بتبني العذر، ليضع داعش بدلاً من الحشد. فالخطأ المطبعي يكون بحرف أو حرفين وليس بكتابة سطر كامل من البذاءات. تقول الحكمة: تظهر الحقيقه عند زلة اللسان وقد يراها البعض ما تخفيه القلوب

فالمفروض في حالة الاختلاف أن يتم الحوار بأدب، وتفنيد الرأي الآخر بالحجة والمنطق، وليس بالشتائم السوقية. فالأسلوب البذيء دليل على الإفلاس الفكري والأخلاقي. يقول العلامة علي الوردي عن هذا النوع من المتثاقفين: “يجب أن لا ننسى أن الكثيرين منا متحضرون ظاهرياً بينما هم في أعماقهم لا يزالون بدواً أو أشباه بدو، فإن قيم البداوة التي تمكنت من أنفسهم على توالي الأجيال ليس من السهل أن تزول عنهم دفعة واحدة بمجرد تقمصهم الأزياء الحديثة أو تمشدقهم بالخطب الرنانة.

نؤكد مرة أخرى للذين أعمتهم أحقادهم وغباوتهم، أننا ندعو الحكومة العراقية إلى تبني علاقة متوازنة مع أمريكا لا حباً بها، ولسنا من طلاب المناصب، أو المال، بل لأننا نرى أن من مصلحة الشعب العراقي أن يستفيد من إمكانيات الدولة العظمى في تحقيق الأمن والإعمار. فالعراق بوضعه الحالي البائس لا يستطيع لوحده مواجهة التحديات الإرهابية وما يعانيه الشعب من تشرذم، حيث وارداته تصرف على الحروب لدحر الإرهاب بدلاً من الإعمار. ففي عصر العولمة المشكلة المحلية هي مشكلة دولية، وتحتاج إلى تضافر جهود دولية وخاصة الدعم من الدول الكبرى، ولا شك أن الإرهاب مشكلة دولية. فأعداء العراق في الخارج وعملاؤهم في الداخل يحرضون على حرمان العراق من الدعم الأمريكي بذريعة أن أية علاقة مع أمريكا تسيء إلى الكرامة والسيادة. فلأمريكا قواعد عسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وبريطانيا وعشرات البلدان الأخرى، فهل كل هذه الدول بلا كرامة ولا سيادة، فقط كوريا الشمالية وإيران وحدهما احتفظتا بالكرامة والسيادة؟

ويقولون، أن العراق ليس اليابان ولا ألمانيا ولا كوريا الجنوبية، وأنه غارق بمشاكله واختلافاته..الخ. ونحن إذ نرد عليهم: أن هذا الاختلاف وكثرة المشاكل وتعرض العراق للإرهاب والتكالب عليه في الداخل والخارج، وعدم تمكن القادة العراقيين من حل مشاكلهم لوحدهم وتحقيق وحدتهم، يجعل العراق أكثر حاجة من تلك الدول لدعم أمريكا والاستفادة منها، وليس العكس.

خلاصة القول، أمريكا ليست الشر المطلق ولا الخير المطلق، ولا هي مؤسسة أو جمعية خيرية، بل هي دولة عظمى وراء مصالحها، ولكن في نفس الوقت تتنافس الدول وحتى الكبرى منها، على كسب ودها والإستفادة منها، لذلك على العراق العمل بالحكمة وفن الممكن، وذلك بكسب أمريكا إلى جانبه، للإستفادة من دعمها، وتجنب شرورها. وهذا لا يعني معاداة إيران وروسيا، أو أية دولة أخرى، فمن مصلحة أمريكا أيضاً أن تكون للعراق علاقة حسن الجوار مع إيران، (راجع مقالنا: خطاب مفتوح إلى الدكتور حيدر الحيدري)(3). وبدون علاقة جيدة معها والإستفادة من دعمها، فبإمكان أمريكا أن تخلق آلاف المشاكل للعراق وإشغاله بالحروب ضد الإرهاب إلى ما لا نهاية ليعم الخراب الشامل في ربوعه.

ألا هل بلغت، اللهم إشهد,

[email protected]

http://www.abdulkhaliqhussein.nl/

ـــــــــــــــــ

روابط ذات صلة

1- د. عبدالخالق حسين: حول إستراتيجية أمريكا، ثانية

http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=899

2- فيديو: فضيحة لقاء سعد البزاز مع اسرائيل، صاحب قناة الشرقية مترجم

https://www.youtube.com/watch?v=AnPF0hOx0Yc

3- عبدالخالق حسينخطاب مفتوح إلى الدكتور حيدر العبادي

http://www.abdulkhaliqhussein. nl/?news=680

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here