علاء كرم الله
بعد أن نجح حزب البعث بالعراق بأستلام الحكم عام 1968 وللمرة الثانية ، عمل جاهدا على محو ذكريات 8 شباط السوداء عام 1963 من عقول العراقيين ( المرة الأولى التي أستلم بها البعث السلطة في العراق هو في 8 شباط من عام 1963 حيث أستطاع البعثيين من القيام بأنقلاب دموي على حكم الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم بمساعدة أمريكا!) وقد رافق ذلك الأنقلاب الدموي أحداث مرعبة وحمامات دم، لا زال الكثير من العراقيين الذين عاشوا تلك الفترة يتذكرون مآسيها ومشاهدها المخيفة!، لذا حاول البعثيين بعد أستلامهم السلطة عام 1968 من محو تلك الذكريات الى حد التبرأ منها؟! وأول ما فعلوه هو أنهم أطلقوا على ثورتهم الجديدة تسمية (الثورة البيضاء) لكون لم تطلق فيها أية أطلاقة!!؟، ثم طرح الحزب آنذاك برنامجا سياسيا مليئا بالشعارات الثورية من حريات سياسية وشخصية وتعددية حزبية ووعدوا الشعب بحياة برلمانية وغيرها من البرامج الأجتماعية والأنسانية، وقد كان لذلك الأعلام السياسي وما حمله من مضامين أنسانية ومن شفافية بالطرح أثره الكبير في عودة الكثير من الأدباء والشعراء والمثقفين والسياسيين والكثير من الكفاءات العلمية في شتى ميادين العلوم و المعرفة الى أرض الوطن الذي تركوه منذ أحداث أنقلاب 1963 شباط الأسود. وكان من الذين عادوا الى أرض الوطن بعد طول أغتراب وفراق عن الوطن شاعر العرب الكبيرالمرحوم الجواهري، حيث أفرحته وأسعدته تلك الثورة ببياضها وبريق شعاراتها وما وعدته من خير لعموم الشعب والوطن!!، فأنشد الجواهري حينها قصيدته الشعرية الذائعة الصيت: (أرح ركابك من أين ومن عثر….. كفاك جيلان محمول على خطر) (كفاك موحش درب رحت تقطعه…. كأن مغبره ليل بلا سحر)، وقد تصور الجواهري رحمه الله وكان يمني النفس بذلك بأن قصيدته تلك ستكون نهاية الغربة والتعب والترحال وقد آن له الأوان لكي يستقر ويستريح في وطنه.في هذه الفترة كان صالح مهدي عماش وزيرا للداخلية وكان معروف بتزمته الديني المتشدد، وكذلك بتهوره بنفس الوقت!، وكان الكثير من القيادات البعثية البارزة من أمثال طالب شبيب وزير الخارجية وكذلك حازم جواد وعلي صالح السعدي وبقية القياديين البارزين بحزب البعث تصفه (بالمتهور)!. ألا أنه في الوقت نفسه كان محبا للشعر وناظما له!؟ وكذلك عرف عنه حبه للأدب والأدباء والمثقفين بشكل عام، لذا فقد طار فرحا وغمرته سعادة كبيرة بعودة الجواهري الى العراق وقد عبر عن ذلك بأن رد على قصيدة الجواهري ببيت من الشعر من نظمه!: (أرح ركابك من أين ومن عثر….. هيهات لك بعد اليوم من سفر)!! أي بأنك ستجد كل الترحاب والأحترام والتقديرفي العراق وسوف لن نجعلك تترك الوطن و تفكر بالسفر ثانية!. وقد صادف أن شهدت فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي ظهور مودة الملابس القصيرة (التنورة والكوستم وغيرها من الملابس) والتي يطلق عليها (الميني جوب والميكري جوب)، وقد غزت تلك المودة العالم كله كأحدث تقليعة في عالم الأزياء النسائية. وهنا لا بد من الأشارة بأن العراقيين معروف عنهم حبهم للأناقة كمحبتهم وتذوقهم للأكل!، رغم كل الظروف القاسية التي تمر عليهم، لذلك فقد كثر أرتداء هذه التنورات من قبل طالباتنا الجامعيات وموظفاتنا وبقية نسائنا. ومن المفيد أن نذكر هنا ونؤكد بأن العراقيين في تلك الفترة ورغم أنتشار هذه (المودة) التي فيها الكثير من التبرج ألا أنهم كانوا أكثر ألتزاما وأدبا وأخلاقا وتحديدا الشباب منهم!!، عكس ما نراه اليوم من نزق وطيش وتخلف أجتماعي وكثرة النظر بوقاحة وقلة أدب على النساء كبيرة كانت المرأة أم شابة ، محجبة أو بدون حجاب وأنتشار المخدرات وكل أنواع الفساد! رغم الأحزاب الأسلامية هي من تقود الحكم منذ عام 2003 ولحد الان وصورة الأجواء الدينية التي تغلف عموم محافظات العراق! أستثناء من محافظات كردستان ( أكثر من 90% من النساء العراقيات محجبات والغالبية منهن غير مقتنعات بذلك! فالحجاب أصبح شيء مفروض وبشكل شبه قسري! ولا يمت للألتزام الديني بأية صلة! بل بسبب من أحزاب الأسلام السياسي التي تقود الحكم في العراق!). نعود للموضوع حيث يبدو أن تلك التقليعة الحديثة في عالم الأزياء(الميني جوب والمكري جوب) لم ترق الى صالح مهدي عماش! فما كان منه وبأعتباره وزيرا للداخلية ألا أن أصدرأمرا بصبغ سيقان كل فتاة تلبس التنورة القصيرة!! وذلك بالتنسيق مع أمانة العاصمة أي أمانة بغداد كما تسمى اليوم، وهنا من باب التوضيح بأنه 🙁لا دخل للحاج خيرالله طلفاح ،خال الرئيس العراقي السابق صدام حسين بذلك كما يتصور الكثير من العراقيين خطأ!، وكذلك (شرطة الأداب) التي أنشأت في سبعينات القرن الماضي والتي قد يتذكرها الكثير من العراقيين هي من بناة أفكار صالح مهدي عماش أيضا!!. نعود لأستكمال الموضوع، تفاجأ العراقيون صباحا بعمال (أمانة العاصمة) وهم يحملون (السطل والفرشاة) لتنفيذ أمر الوزير؟!!. وقد حدثت مشاكل ومواقف صعبة ومحرجة للكثير من النساء والعوائل بسبب ذلك الأمر والتصرف اللاأنساني واللاحضاري وبدأت الصحف بالكتابة عن الموضوع وأنتقاده . تألم الشاعر الكبير الجواهري عند سماعه بذلك لا سيما وأنه نذر نفسه وكل شعره بأن يكون لسان حال الشعب والمعبر عن آلامه وطموحاته ورغباته فأحتج على وزير الداخلية وعاتبه بأبيات من الشعر: (أترى العفاف مقاس أقمشة… ظلمت أذا عفافا) ( ومن لم يخف عقب الضمير….. فمن سواه لن يخافا!). وأمام ضغط الشارع العراقي وأحتجاج الجواهري تراجع وزير الداخلية صالح مهدي عماش وأصدر أمرا بألغاء ذلك!. أقول :رحم الله الجميع وهذا شيء من التاريخ نذكره بتجرد كامل، وأترك المقارنة للقاريء الكريم ليلمس ويعرف الفرق بين صورة مجتمعنا بكل أطيافه وملله ونحله وشبابه ونسائه وبناته بالأمس فترة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي وبين صورة العراق اليوم بكل تفاصيله الأجتماعية والأخلاقية والسياسية والأمنية والمذهبية، وما وصل أليه من واقع متردي في ظل أحزاب الأسلام السياسي!!؟.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط