الهروب : قصة قصيرة

تذكر بعد فوات الأوان بأن كل ما ” يلمع ليس ذهبا ” وقد تكون التفاحة جميلة و رائعة الشكل ونضرة اللون واللمعان من الخارج أما من الداخل فالله أعلم إلى أي مدى ستبدو متعفنة ومدوّدة ..
 خطرت على باله هذه الأفكار بعدما خاض آخر مشادة كلامية مع زوجته المستنفرة أبدا بحالتها العصبية والمتشنجة دوما ، خالقة حولها جوا مكهربا من توتر واهتياج و عصبية و أجواء سقيمة من نكد و جزع جعلته أن يلعن اليوم الذي تعرف فيه عليها كيوم نحس قلبت حياته فيما بعد إلى ضرب من جحيم متواصل ..
 وكالعادة كان ذلك محض صدفة فحسب : نظرة عبارة : فإذا بامرأة فارعة الطول وملفتة الجمال والوسامة مع أناقة ولمسات ارستوقراطية ، ثم ظل ابتسامة خجولة ومشجعة ، ليشعر و كأنه إزاء أميرة من أميرات القرون الغابرة سلوكا و قيما وخلقا و وقلبا عامرا بطيبة وروح تضحية ..
و قد أجادت تمثيل ذلك الدور لفترة ما ، إيما إجادة بارعة .
شعر  بالهواء لا زال متوترا بعدائية حضورها و بمفرقعات كلماتها القاسية و بشظايا رصاصات صرخاتها و عياطها ، بل الأسوأ هو إدمانها الدائم على العراك و إثارة مشادات لا نهاية لها ..
كأنما تجد في ذلك نوعا من نشوة و مسرات تروق لها غبطة وابتهاجا ..
ولكن الأكثر إثارة من ذلك إنها كانت تفعل وتتصرف بشعور ضحية مظلومة ومعذبة وليس افتعالا ،  أنما اعتقادا راسخا منها بأنها مظلومة ومغبونة الحقوق بالفعل ..
كانت تزعم شاكية بأنه يهملها ، بينما هو  كان يخصص لها بعض الوقت للاهتمام بها والترويح عنها في أيام الأسبوع ، أما في نهايته كأن يذهب معها إلى السينما أو المسرح أو النزهة في الطبيعة والخ ..
ولكن مع ذلك فلم تكن تتركه ليقرأ زاعمة بأنه يفضل صحبة الكتب عليها بل و يحب الكتب أكثر منها ..
وكان عبثا يقول لها بأن قراءة الكتب مسألة أساسية ومهمة جيدة في حياته وبالتالي  فلا يجوز الخلط بين حبه لها وبين حبه للكتب ..
فكانت ترد ساخرة و بنبرة مزدرية :
ــ لا .. هذا غير صحيح .. فحبيبتك الأهم و الأوحد هي الكتب ولستُ أنا ..
ولكن ما أن يحاول إقناعها بخطأ اعتقادها ، حتى كانت تثور وترعد بأعصاب متوترة وهائجة وهي تقول له :
ــ أنا أعرف الاعبك و أهدافك جيدا .. فأنك تريد أن تدمرني نفسيا .. فهذه هي غايتك لا أكثر ..
لتخرط فيما بعد ببكاء مرير و طويل ، لتقنع نفسها كم هي مظلومة ومستهدفة بالفعل ! ..
ثم هذا الشخير العالي و الرفيع الحاد الذي تطلقه أثناء النوم ، كأنما يأتي قادما من رقبة ثور مذبوح  ، يجعل أركان المنزل يضج به صوتا مزعجا ليجعل النوم الهانئ والمريح ضربا من المستحيل ..
بينما كانت هذه الأفكار والصور و المشاهد و الانطباعات تتزاحم في رأسه  كان هو يجمع ملابسه و أغراضه الضرورية و كتبه ومخطوطاته ليضعها في حقيبته الكبيرة أذانا بالمغادرة و الرحيل الأبدي عنها .
إذ فقد أدرك أنه ليس فقط يعاني منها ، و حيث باتت حياته اليومية معها  ضربا من جحيم لا يطاق ، إنما ربما ستثور أعصابه هوة أيضا ــ وقد شاعر ببوادر ذلك بشكل طفيف ــ فمن ثم سيقدم على أمر خطير سيندم عليه طول حياته.
و قبل أن يغادر البيت كتب لها الكلمات التالية :
 ــ ” أسف على أن حياتنا الزوجية قد فشلت وقد بذلت كل ما وسعي لأجعلكِ سعيدة ولكن لم أوفق .. فقد وجدت أحسن الحل هو هجرانك والاختفاء من حياتك إلى الأبد .وفي نفس الوقت اعتبري نفسك بمثابة مطلقة من قبلي “..
و قد ألحق رسالته تلك بتصريح طلاق واضح و صريح ..
وكم كانت دهشته شديدة عندما قرأ بعد مايقارب  نصف سنة من هروبه خبرا في مجلة وقعت بين يديه مصادفة مدعوما بصور عرس زفاف تعرض صور زوجته السابقة مع عريس جديد دون أن تنسى محررة الخبر أن تضيف : أنها المزوّاجة الفلانة التي تتزوج للمرة الرابعة لتجرب حظها في زواج سعيد وفي زوج يراعها و يعتني بها جيدا ..
فابتسم دون إرادة منه وهو باسى :
ــ ليكن الله في عون العريس الجديد ! ..
ثم تنفس صعداء وبارتياح عميق ، كمن تخلص نهائيا من قبضة كابوس طويل و رهيب  جعله أحيانا كثيرة في وضع ميؤوس منه ..
وها هو الآن حر و طليق .. يروح و يذهب ، مثلما يريد و يرغب بدون رقيب أو حسيب ..  و ينام بكل هدوء وراحة و سكينة بعيدا عن شخير حاد ومزعج أو كوابيس و زعيق و عياط .
فكم أنت رائعة أيتها الحرية 
..بحيث لا نشعر بهذه الروعة ..
إلا عندما نفقدكِ ..
 وبعد فوات أوان و زمان .

مهدي قاسم

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here