محنةُ آلفكر ألأنسانيّ(11)

ألمُكوّن ألسّادس للفكر: ألثّقافة آلمُكتسبة من (آلأصحاب) و (آلأصدقاء):
ثَقافةُ الأصحاب التي تنتقل بسحريّة و فاعليّة ؛ مكوّن آخر من مُكونات ألثّقافة ألّتي تُشكل آلفكر .. الذي وحدهُ يُمثل حقيقة ألوجود الأنسانيّ, و ما آلجّسد ألظاهريّ ألذي يسعى أكثر آلناس لإرضاءَهُ و تحقيق رغباته الماديّة؛ إلّا مُجَرّدِ وعاء يحمل تلك آلحقيقة التي كرّمها الله تعالى .. و التي تبقى للأسف مجهولة لأكثر ألناّس حتى آلمُثقفين منهم إلى آخر العمر بسبب الجّهل و إهمال التفكّر العميق ألّذي جعلهُ الله من أوجب الواجبات على الأنسان ألكونيّ الهادف, و هذا المُكوّن المؤثّر جداً في تشكيل ألثقافة الأنسانيّة هو (الصّديق) أو (الصّاحب) بحسب تعبير القرآن الكريم!

و آلسّؤآل الذي يطرح نفسه, هو: (متى يتعاظم و يكون دور هذا المكوّن فاعلاً قويّاً في نشأة آلثقافة .. و بآلتالي سلوك الأبناء لتحديد مُستقبلهم خيرأً أو شرّاً في الدّنيا و آلآخرة؟).

يزداد تأثير ألأصدقاء على آلأبناء كلّما ضَعُفَتْ و تكدّرَتْ علاقة ألأبناء بآلبيت و بآلعائلة عموماً, و بآلوالدين خصوصا بسبب ألموروثات ألعقائدية(1) و آلمشاكل العائليّة التي قد تتفاقم أحياناً لدرجة فقدان المحبة و إستخدام العنف الأسري, و بآلتالي تتصاعد بآلمقابل شدّة تأثير الأصدقاء من خارج البيت للتعويض عن المحبة المفقودة, بمعني توجد معادلة عكسيّة بين آلطرفين(الوالدين من جهة و الأبناء من الجّهة الأخرى), أيّ كلما كانت العلاقة بين الأبناء و الآباء طيبة تسودها الوئام و الأحترام و المحبة؛ كلّما كان ميل الأبناء لتشكيل علاقات صداقة مع الغرباء خارج البيت أقل و أضعف, و بآلتالي إنعدام هذا التأثير, لأنّ قوّة العلاقات العائليّة و أجواء المحبة تُشبع و تُعوّض عن أيّة علاقات بديلة أخرى, خصوصاً بين آلجنسين, و بآلتالي يكون تأثير (ألأصحاب) ألسّيئين .. أقلّ على سلوك و ثقافة ألأبناء و قد يصل إلى درجة آلصّفر لو كانت العلاقات العائليّة مثالية, و آلعكس صحيح تماماً, فلو تهدّمت جسور ألثقة و آلأحترام و المحبة و الوئام بين الطرفين(ألوالدين و الأبناء)؛ فإنّ تأثير الأصدقاء يزداد بإضطراد على شخصيّة الأبناء, خصوصاً ألشّاذّين سلوكياً كتعبير طبيعي عن التمرّد و رفض ليس فقط قيم العائلة .. بل حتى آلمجتمع, من خلال تلك العلاقات الشاذة للتعويض و التنفيس عن الكبت و الحرمان, و تظهر نتائج ذلك من خلال السلوك و آلتصرفات المنحرفة و آلقبيحة التي قد تصل حدّ الأجرام و القتل في نهاية المطاف, و يعتبر هذا السلوك تعويضاً و ملئً للفراغ الذي أحدثه فقدان المحبة و العلاقة مع الأبوين, فقد أظهرت الدّراسات العلميّة ألحديثة بأنّ معظم الجرائم الكبرى نشأت بسبب فقدان المجرمين لمحبة و عطف آلوالدين أو لأحدهما, و بآلتالي حرمانهم من آلمحبة و آلعلاقة و الأجواء الطبيعيّة الهادئة داخل العائلة!

إنّ الأصحاب (ألأصدقاء)(2) ألسّيئون في الحقيقة بإمكانهم إحداث حالة (ألتّماهي)(3) في شخصيّة الأبناء الذين يعانون المشاكل العائلية الحادّة, و إنّ حالة التماهي الخطيرة .. ألتي من خلالها يُحاول الأبناء تقمّص شخصيّة أخرى مختلفة تماماً عمّا كان عليه في آلسّابق؛ هي لأثبات وجودهم خارج المدار المضطرب الذي ألفه في العائلة, من هنا على الآباء و المربّين الأنتباه جيّداً لخلق أجواء عائلية هادئة يحسّ الأبناء خلالها بآلأمان و الحرّية و آلراحة الكاملة عند إدلاء آرائهم بكل ثقة و في أيّ وقت يشاؤون بدون خوف أو حرج من الوالدين أو الكبار, و كما بيّنا ذلك في حلقات سابقة من هذا البحث.

لقد شاع في الآونة آلأخيرة على ألسِنَة ألمُفكريّن .. خاصّة في مجالات علم النفس و الأجتماع و آلسّياسة و النقد الأدبي إستعمال لفظ (ألتّماهي) كمصطلح, كآلتّماهي مع ثقافة الغرب أو الشّرق .. حين يبلغ ببعض الناس حدّ التبعيّة.

و مصطلح “التَّمَاهِي“Identification  يُفسّرهُ آلبعض بالتَّقَمُّص أو التَّوَحُّد، و يُعَرِّفُهُ عُلماء النفس بـ: [سَيْرُورَة سايكولوجية في بناء ألشّخصية، تبدأ من آلمحاكاة ألّلاشعوريّة، و تتلاحق بالتّمثيل ثمّ التّقليد (الأندماج أو التَّقَمُّص) بآلنموذج].

و تُفَسَّر عمليّة ألتَّمَاهِي في مجال (علم ألنّفس ألتربوي) بما يلي:
[مُلاحظة الطفل أنّهُ بسلوكهِ و وضعهِ يشبه شخصاً آخر و لا يشبه ثقافة أبويه الدافعة ألعنيفة، ثمّ مشاركة الطفل لهذا الشّخص(ألصّاحب) سلوكهُ و إنفعالاته، ليس تقليداً فحسْب؛ بل بالتّماهي يتبنى جميع ألسِّمات و آلإتجاهات و آلقِيم التي يعرضها (ألصّديق) ألقُدوة.

أمّا (آلتقليد) فإنّه لا يَتَعَدَّى تقليد ألطفل حركات ألنّموذج و سلوكياته فقط.

و آلتّعلّم عن طريق ألملاحظة و آلتّقليد لا يتطلّب وجود روابط عاطفيّة مع آلنموذج، في حين ألتّماهي يتطلّب ذلك.

إنّ سلوك ألمُتَعَلِّم عن طريق التقليد قابل للتغَيُّر و التبدل، في حين ألسّلوك الذي يَتَمَثَّلُهُ الطفل عن طريق التَّمَاهِي يكون ثابتاً نِسْبِيّاً و لا يتغيير بسهولة إلّا بعد حدوث الكوارث.

ثمّ خرج المصطلح من مجال علم النفس إلى دلالة أكثر إتّساعاً و هي (ألتّماهي بالمُتَسَلِّط)، و هو أحد ألأساليب ألدّفاعيّة للإنسان ألمقهور ألمكبوت أو الفئة المقهورة المكبوتة حين تنتفض على الواقع.

و يُعَرِّفُهُ الدكتور مصطفى حجازي – في كتابه, (سيكولوجية الإنسان المقهور)(4) بأنه:
[استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المُتَسَلِّط؛ أملاً في الخلاص].
و تأخذ هذه الظاهرة ثلاث صور:
ألأولى: ألتماهي بأحكام المُتَسَلِّط.
ألثانية: ألتّماهي بعدوان المُتَسَلِّط.
ألثالثة: في آخر أشكال التّماهي بالمُتَسَلِّط يصل الأستعلاء أخطر درجاته، لأنّهُ يتمّ بدون عنف ظاهر، بل من  خلال رغبة الإنسان المقهور في الذوبان في عالم المُتَسَلِّط.

و هنا يكون ألضّحية قد خضع لعملية سلب الأرادة أو (غسيل مخ) من خلال حربٍ نفسيّةٍ مُنَظَّمَة لتحطيم القيم الإجتماعيّة و الحضاريّة للفئة المقهورة المظلومة.

يقول الدكتور حجازي: [و أقصى حالات (التماهي المُتَسَلِّط) تأخذ شكل الإستلاب ألعقائديّ, و نقصد بذلك – تَمَثُّل و إعتناق قِيَم النِّظام، و آلإنضباط و الإمتثال و طاعة ألرّؤساء ألكبار و هي قِيَم تخدم – بما لا شك فيه – مصلحة ذلك المُتَسَلِّط فرداً كان أو نظاماً؛ لأنّها تُعَزِّز مواقعه و تصون مُكتَسَبَاتَهُ](5).

ألتَّمَاهي – إذن: هو تماثلٍ و تطابقٍ .. ناتجٌ عن رؤية مصلحيّة تصل إلى حدّ تغييب ألعقل, أو ما يصطلح عليه بحالة غسل الدّماغ (Brainwash) !

و تصل في المعيار الأخلاقي إلى النفاق و الكذب مُجْتَمِعَيْن و قد يصل حدّ القتل و الأجرام.

و هذا المعنى قال عنه (إبن خلدون) في (مقدمته): [أنّ المغلوب مُولعٌ أبداً بالإقتداء بالغالب، في شعاره و زيّه و نِحْلَتِه و سائر أحوالِهِ و عوائِدَهُ؛ و آلسّبب في ذلك أنّ آلنفس أبداً تعتقد آلكمال في مَنْ غَلَبَهَا، فتنتحلُ جميع مذاهب الغالب، و تَتشبّه به، و ذلك هو الإقتداء أو لما تراه – و آلله أعلم – من أنّ غَلَبَ الغَالِبِ لها ليس بعصبيةٍ و لا قوة بَأْسٍ، إنما هو بما انْتَحَلَتْهُ من العَوَائِد والمذاهِب](6).

و التَّمَاهِي يُحرّم و يَحجُب الأنسان و المجتمع من التفكر و التثقف و السعي لرؤية آلبدائل المطروحة للأمر موضع البحث و النقاش، بل و يوصِلُه إلى آلجمود ألفكريّ و العقائديّ، و يؤدِّيّ – في الأغلب – إلى الخروج عن الطريق الصّحيح، و هو – في أضعف آثاره السلبية – يُعَطِّلُ اتخاذ القرار الصَّائِب نحو البناء و الأنتاج و التطور، و يُؤَخِّر التَّقَدُّم و يُحرّم ألأمم أو قسماً منها من إستخدام عقولها النَيِّرة، و هو سلوك مُدَان بكلّ المعانيّ و آلشرائع, و ما يحدث الآن في بلدنا و البلدان العربيّة, هي حالة تماهي الحكومات مع مجتمعاتها بإسرها؛ مجتمعات فقدت شخصيتها الحقيقية و إختارت كل جماعة و تيار و طائفة فيها؛ ألسّير وراء مرجعها و قائد الحزب أو المنظمة أو البرلمان أو الحكومة, و لم تعد تُفكّر بعقلها و بآلمنطق العلمي و الأجتماعيّ ألصّحيح, و لذلك ستبقى تتخبّط في حركتها من دون وجود خطط و برامج  و أهداف واضحة!

و هكذا ينسحب الموضوع على البعد السّياسي و الأقتصاديّ و العسكريّ و غيرها من المواقف المصيرية لمواجهة الأحداث, و إتّخاذ الموقف المطلوب بعيداً عن التماهي ألذي أصيب به الحكام و الرّؤوساء و خلفهم الشعوب ألذين باتوا مطيّة تنفيذ مخططات (ألمنظمة الأقتصادية العالمية) ألّتي توجّه سياسات ألشيطان ألأكبر أمريكا التي بدورها تقود معظم حكومات العالم خصوصا العربية, و في كلّ صغيرة و كبيرة في الجانب السياسيّ و الأقتصادي و العسكري و الثقافي, لتأمين نهبها لمنابع الطاقة و النفط و تصريف الأموال من خلال بيع الأسلحة لإدامة الحروب الداخلية و الأقليمية بين البلدان بدوافع شتى!

يقول النبي(ص) عندما سُئِل عن أعظم ألجّهاد فقال: [كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ](7), و هذا بعكس التملق و المداهنة و المسح على اكتاف المسؤوليين و تأييد الحاكمين, حتى بات سلوكاً عاديّأً للشعوب و المجتمعات و آلمُقرّبين من الحكام للأسف الذين لا يعرفون معنى الكرامة و لا يستخدمون العقل و التفكير في قراراتهم.

أمّا في مجال آلنقد الأدبيّ؛ فيكثر إستخدام هذا المصطلح أيضاً؛ و من ذلك: التَّمَاهِي بين المؤلف و شخصيّات أعماله، و التّماهي بين الرّاوي و البطل، و التّماهي بين شخصيات العمل الأدبي و المسرحي و السّينمائي و غير ذلك.

و قد حرص الإسلام بشدّة على نبذ(ألتماهي) الذي يناسب الحيوانات الأليفة فقط كآلكلاب و القرود .. هذا آلسّلوك المَشِين الذي يسلب إرادة و كرامة الأنسان و حتى المجتمع, بحيث جعلهُ ضلالة و إنحرافاً يُؤدي بصاحبه للنار، و حثّ في مقابله على نقيضه .. و هو (آلتّفكر) و آلأستقلال الفكريّ و آلتّدبّر و التعقل و الأجتهاد عند إتخاذ القرار، و نرى ذلك  من خلال القصص العديدة التي ذكرها كأمثلة و كما في قصّة (عقبة بن أبي معيط), مؤكّداً على وجوب التفكّر و التأمل و التعقل العميق قبل إتخاذ القرارات المتماهية!

و قد حَثّ الباري على التّفكر و التأمل و التدبر العميق في مئات الآيات الواردة في كتاب الله تعالى, كقوله:
[إنّا نحنُ نزّلنا الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم و لعلهم يتفكّرون](8) أو (يعقلون) أو (يتدبرون), و كذلك في الرّوايات, كما نهى الأمام عليّ(ع) عن تحميل الموروثات القديمة على الأجيال الناشئة بقوله؛ [لا تُقصروا أولادكم على زمانكم فإنّهم خلقوا لزمان آخر](9), يعني رفض ألتقليد الوراثي و آلموروث العقائدي الأعمى و كما يحاول معظم الآباء فعل ذلك مع أبنائهم و زوجاتهم.

و قد أشار القرآن الكريم إلى مخاطر الصّحبة و الصّداقة لغير الله(10) و التي تُدمّر حياة الأنسان و آخرته, و كما جاء في قضية إسلام (عقبة بن أبي معيط) و إرتداده عن الأسلام, و غيره, حيث يقول المفسرون في سبب نزول آلآيات (27-28-29) من سورة الفرقان, في قوله تعالى:
[وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا](11).
بأنّ سبب النّزول, هو التالي بحسب رواية إبن عباس:

[قال ابن عباس: نزل قوله تعالى: (و يوم يَعض الظالم) في (عقبة بن أبي معيط)، و صديقه (ٍأُبي بن خلف)، و كانا متخالّين، و ذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه، و كان يكثر مجالسة الرّسول، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً و دعا آلناس، فدعا رسول الله(ص) إلى طعامه، فلما قرّبوا الطعام قال رسول الله (ص): ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أنّ لا إله إلاّ الله و أنّي رسول الله، فقال عقبة: [أشهد أن لا إله إلاّ الله و أشهد أن محمداً رسول الله].

و بلغ ذلك (أُبي بن خلف), فقال: صَبِئْتَ يا عقبة؟ قال: لا و الله ما صبأتُ، و لكن دخل عليَّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي و لم يطعم، فشهدتُ له فطعم، فقال أُبي: (ما كنتُ براضٍ عنك أبداً حتى تأتي فتبزق في وجهه)، ففعل ذلك عقبة و ارتدَّ، و أخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النبي(ص): (لا ألقاك خارجاً من مكّة إلاّ علوتُ رأسك بالسيف)، فضرب عنقه يوم بدر صبراً، و أمّا (أُبي بن خلف) فقتله النبي(ص) يوم أُحد بيده في المبارزة].

و قال الضّحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله(ص) عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خدّيه، و كان أثر ذلك فيه حتى مات.

و قيل نزلت في كلّ كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم و ترك متابعة أمر الله تعالى(12).

نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير ألرّجل ألّذي يُبتلى بخليل ضال, أو أمّة تُبتلى بدكتاتور جبار، يجرّهم إلى الضلال, و كما هو حال أمتنا اليوم .. بل هو حال كلّ أمم العالم بأطرٍ و شعاراتٍ و مدّعيات و أنظمة مختلفة.

و قلنا مراراً أنّ سبب النّزول و إن يكن خاصّاً، إلاّ أنّه لا يُقيّدان مفهوم الآيات أبداً، و عمومية المفهوم تشمل جميع المصاديق سواءاً كانت فرديّة أو إجتماعية, و لا حول و لا قوة إلا بآلله العلي العظيم.

عزيز الخزرجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تحدثنا عن (الموروث العقائدي) في الحلقة (8) من هذا البحث, فيرجى مراجعتها لمن يريد الأطلاع.
(2) توجد إشارات قرآنيّة عديدة و واضحة لمفهوم و معنى (الصُّحبة) و كذا (الصّداقة) و الفرق بينهما, فكلمة (ألصُّحبة), وردت كإشارة إلى العلاقة السّلبية أو العادية في أفضل الحالات, و التي أطلقها الباري تعالى حتى على صُحبة (الحيوان), و كما هو واضح في إطلاقها على صحبة (الكلب) لآصحاب الكهف, لكنّ مفهوم (ألصّداقة), وردت كدلالة على العلاقة الأيجابيّة الطيبة و الحميمة بين البشر لا المخلوقات الأخرى.
مفهوم (الصّاحب) حياديّ لا يدلّ على مدح، فأبو جهل و أبو لهب و أميّة بن خلف هم صحابة النبي، و هو صاحبهم (و ما صاحبكم بمجنون)(يا صاحبيّ السجن…) فالقيمة إنْ كانت لها وجود في (الصّحبة) فهي للاتّباع في الزمان و المكان, و ليست لها مصداقيّة مشهودة في مباني القيم و العقائد!
ألصّاحب؛ قد يكون صديقاً أو عدواً، و لكنه فى الحالتين يصحبك فى الزمان و المكان و لا يقتضي مماثلة صاحبه عقيدةً و فكراً و اخلاقاً! كما لا يعني هذا انه يناقضه في ذلك أيضاً, فقد يكون الصاحب مؤمناً,

كما ورد في كتاب الله تعالى؛ ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ), و قد يكون الصّاحب كافراً: صحبة عادية بين مسلم و كافر أو من أي دين آخر, حيث قال الله تعالى؛ [قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً], و قد تكون الصحبة مؤبدة؛ [وَ إِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَ صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً].
و قد تكون الصحبة مؤقتة في الطريق أو في مكان خاص أو عام, مثل صحبة (العبد الصالح) مع (آلنبي موسى), [قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي], و قد تكون تلك الصحبة المؤقتة بين نبى و كافر؛ مثل يوسف(ع) مع صاحبيه فى السجن؛ [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أ رْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ], و قد تكون الصحبة ممتدة، مثل الجار، يقول تعالى [وَ اعْبُدُواْ اللّهَ وَ لاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَ بِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَ الْجَارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالجَنبِ], و مثال اخر على الصّحبة المستمرة؛ ( يوم يفرّ المرء من أخيه و أمّه و أبيه وَ صَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ ), و بناءاً على ما أسلف فأنّ أصحاب النبى لا يعنى أن يكونوا جميعاً مؤمنين مخلصين له، فالله تعالى يقول عن قوم موسى: [فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] الشعراء 61, [فلما عبر بهم موسى البحر عبدوا العجل]. 
و الله تعالى يقول عن خاتم النبيين مخاطباً أهل مكة؛ [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى]”النجم 22 “, أي كان النبى صاحبا لهم فى الزمان الذي كان كل قريش كفار لا يؤمنون بآلله,  و في المكان(مكة) و لم يكن كذلك فى الاعتقاد و الإيمان بما هو مكة.
بناءاً على ما أسلف علينا أ لّا نحصر دلالة الصاحب او الصحابي على وجه الخير و الإيمان فيكون خيراً فقط و هكذا نستنتج أنّ اكثر الصحابه لم يكونوا صالحين كما انهم ليسوا جميعاً طالحين, لأنّ أكثرهم خالفوا وصية الله بعد وفاة الرسول(ص), حين أعرضوا عن إنتخاب الوصي و نصرته.
أمّا مفهوم ألصّديق, فإنه مشتقّ من الجذر (صدق), و الصّدق فى التعامل و فى المحبة، و لا يحمل إلّا وجهاً ايجابياً فقط .. و آلبعض يخلط بين مفهوم (الصاحب) و (الصّديق), و ينسى أن اللغة العربية حدّدت مفهوم كلّ منهما، و أنه (ليس كلّ صاحب صديقاً، و القرآن الكريم راعى الفوارق بين الكلمتين بدقة.

و قد جاءت كلمة (الصديق) فى القرآن أكثر من 155 مرّة في أكثر من 150 آية قرآنية, و هي صفة من صفات الله و كذلك رسوله و وصيه, و الله تعالى أصدق الصادقين.
و يُشير تعالى لحال المشركين فى النار و هم يصرخون؛ [فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَ لَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ] الشعراء 101, فالصّديق فى الدُّنيا هو الرفيق في آلآخرة .. هو الذى يجده الإنسان عند الشدة فيجد لديه السلوى و الراحة و العون، و بينما يجلس أصحاب الجّنة يتسامرون فى صداقة و محبة و قد نزع الله ما فى صدورهم من غلّ متحابيين, بينما أصحاب النار يحترقون وهم يصرخون طلبا للشفيع و الصّديق!
اذن الصديق و الصداقة صفة و وجهه ايجابيّة على طول الخط .. في حين ان الصاحب و الصحبة فيها وجهة ايجابيّة و فيها وجهة سلبيّة, و بآلتالي (ليس كلّ صاحب صديق و لكن كلّ صديق صاحب).

(3) الأصل اللغوي لكلمة (التماهي) مشتقة من جذر عربي هو (م و هـ)؛ حيث جاء في (تاج العروس) (36/510): [من المجاز: أَمَاهَ الشيءُ: خُلِطَ]، و فى (المعجم الوسيط) (2/893): [أَمَاهَ الشيءَ بالشيءِ: خَلَطَهُ]. جاء بوزن (تَفَاعَل) من هذا الجِذْر فكان (تَمَاوَه) فَحَدَثَ قلبٌ مكانيٌّ بتقديم عين الكلمة على اللام، فصارت الكلمة (تَمَاهَوَ).
مثل: “نَاءَ” من “النَّأْي” قُدِّمَتِ اللامُ مَوضِع العَين ثم قلِبَتِ الياء ألِفاً فَوزْنُه “فَلَع” و مثله “رَاءٍ” و “رَأَى” و “شاءٍ” و “شَأَى”.
ثُمَّ قُلِبَت الواو في (تَمَاهَوَ) ألفاً؛ لتحرُّكها إِثْرَ فتحة، فصارتْ (تَمَاهَى)، و أصل المصدر: تَمَاهُوٌ؛ لكنْ تطرَّفت الواو إثر ضمة؛ فقلبت ياءً (تَمَاهُيٌ)، ثم كسرت الهاء لمجانسة الياء فصار المصدر: التَّمَاهِي، على وزن (التَّفَالُع)؛ بضم اللام؛ لأنَّ الإعلال بالقلب لا يؤثِّر في الميزان.
و من دلالات هذا الجذر (م و هـ) الانتشار، كما في انتشار الماء، المشتق من نفس الجذر؛ جاء في قول الحسن بن علي(ع) أنه قال: [و من يملك انتشار الماء؟[؛ (مصنف) أبي شيبة (1/93)؛ و التماهي: انتشار لصفات المُتَسَلِّط على غيره من المقهورين.
و جاءت دلالة الصيغة تؤكد هذا المعنى، فالكلمة على وزن (تَفَاعُل) المقلوب إلى (تَفَالُع)، و هذا الوزن من معانيه أنه مُطَاوِع (فَاعَلْتُ) نحو: باعَدْتُهُ فَتَبَاعَد؛ انظر: “المفصَّل” للزمخشري (1/53)، و هو الوزن المناسب للمعنى المراد؛ ممّا يدل على أنّ المعنى الحديث للكلمة مُتَّصِل بأصله العربي القديم.
(4) (حجازي, مصطفى1990م), سيكولوجية الأنسان المقهور – معهد الإنماء العربي (ص 127), ط1.
(5) نفس المصدر السابق, (ص139، 140).
(6) (إبن خلدون2001م), (1/196).
(7) رواه كتب الحديث و منها في الصحاح,  أحمد و أبو داود والترمذي والنسائي.
(8) سورة النجل/44.
(9) نهج البلاغة للأمام عليّ(ع).
(10) قال رسول الله(ص): [أ لا أنّ كلّ خلّة كانت في الدّنيا في غير الله تعالى, فإنها تصير عداوةً يوم القيامة.
(11) سورة الفرقان/آية 27 و 28 و 29.
(12) سورة البقرة/آية 255.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here