ما حاجة نظام السوق للحكومة؟

محمد رضا عباس
يتحدث البعض من ان القرارات الحكومية غالبا ما تكون مكلفة و غير جدية و تحتاج الى وقت طويل لتنفيذها , بينما يتمتع القطاع الخاص بالجدية والكفاءة والسيطرة على الكلفة . على سبيل المثال , بعض الافراد يصرحون , ان التزام شركة أهلية بتعبيد شارع بين مدينتين يتم اسرع بكثير و باقل كلفة و بجودة احسن من تعهد الدولة له . وعليه فان هذه الأصوات تدعوا الى الغاء تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي والتركيز فقط على حماية الامن الداخلي وحماية الحدود من الاعتداءات الخارجية.

حديث هذه المجموعة لا يخلوا من صحة حيث ان الكل يعلم ويعرف حجم المعاناة التي يجابهها المراجع الى دوائر الدولة العراقية. ولكن هؤلاء ينسون أيضا , ان مهما كان حجم الفساد المالي و الإداري في البلاد  الا انه لابد من وجود دولة لأنها ليست شر مطلق ولكثير من الأسباب :
أولا , ان المعاملات التجارية (البيع والشراء) في الدول المتحضرة يتم فقط عن طريق النقود , أي عندما يشتري خباز  جهاز التلفاز , لا يدفع الخباز الف قطعة من انتاجه بدلا عن قيمة التلفاز , وانما يدفع نقودا لقيمة التلفاز , حتى يكون هناك إدارة لعرض النقد , يجب ان تكون هناك جهة قانونية تستطيع طبع و عرض النقود في السوق , وهي الدولة الوطنية . الدولة هي المسؤولة الوحيدة لإصدار العملة الوطنية , تقدير قيمتها في الأسواق العالمية (سعر الصرف) , حجم اصداراتها بالشكل الذي يساعد على التوازن الاقتصادي . لان اصدار العملة المحلية بشكل غير منضبط سوف يؤدي الى التضخم المالي والذي هو غير غريب عن العراقيين في أعوام المقاطعة العالمية للعراق بعد احتلال العراق لدولة الكويت الشقيقة. وان شحة عرض النقد يؤدي الى الركود الاقتصادي , حيث ان المواطن المحلي لا يستطيع توفير ما يحتاجه بيته و بالتالي يقل الطلب العام في البلاد ويبدء رجال الاعمال غلق متاجرهم وصناعاتهم .
ثانيا , الدولة هي المسؤولة على الحكم بتنفيذ العقود بين المواطنين . المواطن يعرف جيدا ان شراء بيت من مواطن اخر لا يسمح لمواطن ثالث الادعاء ان البيت يعود اليه. وان شركات الشحن تعلم جيدا ان أي اخلال بالعقد سوف ينتهي بها الى عقوبات قانونية , وان السارق يعرف جيدا ان التعدي على ملكية المواطنين سوف تؤدي به السجن , ويعرف المواطن ان الاعتداء على باعة السوق سوف يؤدي به الى السجن . الدولة هي المؤسسة الوحيدة تحمي العقود بين المواطنين , وليس شيخ عشيرة او رجل دين او رئيس حزب او كتلة سياسية.
ثالثا، ان هدف أي مشروع اقتصادي اهلي هو  تحقيق الأرباح او تقليص كلف الإنتاج , واحد أبواب تحقيق الأرباح او تقليل الكلفة هو تحويل بعض كلف الإنتاج على كاهل المجتمع برمته مثل اطلاق الغازات السامة من معامله او المياه الملوثة , او الأصوات العالية . في هذه الحالة , المجتمع يحتاج الى دولة تستطيع فرض شروطها على الشركات الصناعية لحماية البيئة وصحة مواطنيها , لان التلوث سواء كان الهواء او الماء  لا يقف بحدود مكان واحد وانما يسافر الى كل جهات البلد . شركة صناعة البتروكيماويات او صناعة الحديد لا تقف اضرارها على البيئة في حدود الانبار على سبيل المثال , وانما ترحل الى جميع جهات العراق وبذلك يجب ان تكون هناك حكومة تستطيع التدخل من اجل حماية البيئة وصحة المواطنين من معامل الانبار. ثم من يستطيع وقف زحف تلوث المياه القادمة من سوريا او إيران ان لم تكن هناك حكومات تتفق على الحد من هذه المشكلة.
رابعا، كما ذكرنا ان رب العمل في النظام الرأسمالي او كما يسمى بالاسم الثاني نظام السوق هدفه هو الربح حتى يستطيع البقاء , وهكذا فان نظام السوق لا يقدر على اشباع حاجات المواطنين وجميع شرائح المجتمع لان هناك عوائل وافراد في المجتمع لسبب اواخر ليس لديهم دخل كافي لشراء ما يحتاجونه . بعض المواطنين كبار السن وليس لهم مدخرات يصرفونها. واخرون مرضى , واخرون من أصحاب العاهات , واخرون من المعوقين , واخرون أطفال . البعض منهم استسلم للأمر الواقع وجلس في داره لعدم استطاعته العثور على عمل يلائمه واخر أصبحت مهنته في كتاب التاريخ ولا يحتاجها المواطن. في هذه الأحوال ان من مسؤولية الحكومة ان تقدم لهذه الشريحة من المواطنين ما يحتاجونه من مأكل ومشرب ومأوى وعمل ان استطاعت توفيرها. لا يمكن للدولة ترك مواطنيها الفقراء وأصحاب  الامراض وكبار السن يموتون جوعا ويفترشون الطرقات.
خامسا، نظام السوق يسمح بظهور طبقة غنية جدا (مليونيرية و مليادرية) , وبنفس الوقت ينتج مواطنين مفلسين ( على الحديدة) وهنا من واجب الحكومة ان تقوم بتوزيع الدخول على المواطنين بشكل عادل . أي تأخذ قليلا من الأغنياء وتوزيعا على الفقراء الى الحد الذي يحفظ كرامتهم. هذا الاجراء يتم عن طريق فرض الضرائب على دخول الأشخاص والشركات. في العراق على سبيل المثال يتم توزيع بعض المساعدات الحكومية النقدية والعينية من أموال النفط وعن طريق المحسنين.
سادسا , ان العمود الفقري لنظام السوق هو المنافسة بين المنتجين , وبذلك تستطيع المجتمعات تحت هذا النظام الى الوصول الى كفاءة  في الإنتاج باقل التكاليف وبأحسن الأسعار . ان التاريخ يسجل من ان عدم مراقبة الدولة للمنتجين قد يؤدي الى استحواذ كبار المنتجين على صغار المنتجين والتي تكون نتيجتها تقليل الإنتاج ورفع الأسعار (الاحتكار) والذي يضطر المستهلكين فيه بدفع أسعار أكثر بكثير من كلفة انتاجها. ان وجود الدولة يمنع من ظهور الاحتكار وينظم السوق وعندما تشعر الدولة بوجود محاولة من قبل بعض المنتجين لاحتكار السوق , الدولة تقوم بتفتيته و محاكمة المسؤولين عنه . عندما أصبحت شركة التلفون الامريكية في عام 1990 شركة احتكارية مستحوذة على جميع المساحة الامريكية , تدخلت الحكومة و قطعت هذه الشركة الى ثمان شركات منفردة تنافس الواحدة الأخرى مما ادي الى انخفاض أسعار الاتصالات وتحسن في خدماتها .
سابعا , هناك خدمات لا يستطيع القطاع الخاص تحقيقها اما لضخامة الأموال التي يحتاجها او لأنها غير مربحة و لا تستطيع حرمان مواطن من الاستفادة من استخدامها . على سبيل المثال , بناء طريق عام جديد بين البصرة وبغداد مشروع يحتاج الى أموال طائلة , لا يمكن لشركة أهلية إنجازه وان استطاعت  فلا يوجد ضمان بالحصول على أرباح منه ان لم يكن هناك قانون يسمح لهذه الشركة تحميل المستفيدين اجرة استخدامهم  الطريق الجديد . وعليه , يصبح من واجب الحكومة بناء هذا الطريق حتى يستفاد جميع أبناء المجتمع من خدماته. هناك خدمات كثيرة لا يمكن تحقيقها عن طريق القطاع الخاص مثل المكتبات العامة , المتنزهات , شرطة المدينة , المحاكم , مدارس الأطفال و الكليات , محطات الإذاعة والتلفزيون العامة و اضاءة الشوارع العامة . بصراحة هناك أشياء لو فسح المجال للمواطنين لقضوا عليه بدون  تدخل حكومي لحمايته . على سبيل المثال , السماح بصيد الأسماك من احدى البحيرات في جميع المواسم سوف يقضي على الأسماك , ان لم تتدخل الحكومة في تنظيم الصيد في هذه البحيرة .
ثامنا، تنظيم الدورة الاقتصادية. لقد ابتلى النظام الرأسمالي او السوق بمشكلة الدورات الاقتصادية المتكررة , حيث ان في فترات متفاوتة يبتلى الاقتصاد الوطني اما بحالة ركود اقتصادي (انتشار البطالة) او بحالة التضخم المالي ( ارتفاع عام في الأسعار) , وهنا يجب ان تتدخل الحكومة من اجل الاستقرار الاقتصادي . ففي حالات التراجع الاقتصادي تقوم الدولة بتقليص نسبة الضرائب وخفض الفوائد على القروض وزيادة في عرض النقد. في مثل هذه الأحوال , يستطيع المواطن من رفع قدرته الشرائية , والتي بدورها ترفع من الطلب العام الداخلي على السلع والخدمات , زيادة في الإنتاج الوطني , زيادة الطلب على العمال , و تعافي الاقتصاد الوطني. وفي حالة دخول الاقتصاد الوطني في مرحلة التضخم المالي تقوم الدولة باستخدام الأدوات المعاكسة لمعالجة الركود الاقتصادي مثل رفع نسبة الفوائد على القروض , رفع الضرائب على الأشخاص والشركات , وتقليص عرض النقد. لقد اقتنع العالم الرأسمالي ان الاقتصاد الوطني لا يمكنه اصلاح نفسه بنفسه حسب ما تصوره لنا النظرية الكلاسيكية , وانما يجب من تدخل الدولة في معالجة الحالة الاقتصادية كما اثبتته التجربة في سنوات الثلاثينيات  والسبعينيات من القرن الماضي . في الثلاثينيات من القرن الماضي كان للحكومة الامريكية الفضل بجر الاقتصاد الأمريكي والعالمي من حالة الكساد الاقتصادي , وفي أعوام السبعينيات من القرن الماضي كان للحكومة الامريكية الفضل بانتشال الاقتصاد الأمريكي من التضخم المالي والركود الاقتصادي في ان واحد.

وعليه فان تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية هو حقيقية واقعية بل وضرورية وان كان في بعض الأحيان ينتج عن هذا التدخل نتائج لا تسر جميع افراد المجتمع الواحد. على سبيل المثال , وضع ضرائب ثقيلة من قبل الحكومة العراقية على الملابس الجاهزة المستوردة سوف يسر معامل صنع الملابس المحلية ولكنه بكل تأكيد سوف لا يسر مستوردي الملابس الجاهزة وسوف يطلقون الانتقادات اللاذعة منهم وهم يهتفون بتجويع الحكومة أولادهم . كما وان فرض أجور على استهلاك الطاقة الكهربائية سوف يقلص من استهلاكها وسيوفر أموال إضافية الى شركة الكهرباء الوطنية تساعدها على التوسع في الإنتاج وصيانة الشبكة الكهربائية , ولكن بدون شك ستخرج أصوات الى العلن تلعن الحكومة وتدخلها في هذا القطاع وان القرار سوف يحرم الفقراء من هذه المادة . ولكن , مرة أخرى ليس من الضروري ان جميع القرارات الحكومية تصب في مصلحة جميع مواطنيها , وانما قد تصب لمصلحة مجموعة من  الافراد وربما لمصلحة فرد واحد , سياسي كبير و متنفذ . على سبيل المثال , يستطيع احد السياسيين الكبار اقناع الحكومة ببناء جسر في مدينته , ليس من اجل منفعة مدينته  , وانما من الاجل الانتفاع منه شخصيا , حيث ان له أملاك واسعة قرب الجسر الجديد سترتع قيمتها من جراء بناء هذا الجسر.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here